بعد الصدام الحدودي بين النظامين الليبي والمصري عام 1977، أُقفلت الحدود بين الدولتين طيلة 12 عما تقريباً، وتقلصت العلاقة التاريخية والاجتماعية بين الشعبين إلى حدودها الدنيا، ومع عودة العلاقات، نهاية الثمانينيات، وفتح الحدود، تهاطل الليبيون على الدولة الجارة التي تربطهم بها علاقات وجدانية طاعنة في القدم. تفاجأ رجال الجوازات المصريون على الحدود بكون معظم الليبيين الذي يأتون إلى مصر بعد سنوات القطيعة يحملون في جوازاتهم (المهنة: منتج) وراجت النكتة التي تقول أن أحد الضباط المصريين قال: أيه.. كلكم منتجين، ما فيش مخرجين؟!
حصل في سنوات القطيعة أن ليبيا تحولت إلى ساحة لتطبيق نظرية القذافي الثالثة، المسماة سلطة الشعب، وكان التغيير في المصطلحات أساس هذا التحول الذي يبشر بعصر جماهيري جديد يحتاج إلى قاموس جديد ومفاهيم جديدة، ومن ضمن المصطلحات مصطلح (عامل) وعمال الذي كان الشعار الأساسي لأدبيات التحول الاشتراكي في نصف العالم، وتم استبداله بمنتج ومنتجين، في الوقت الذي ما عاد العامل الليبي ينتج فيه شيئا، ودخلُ ليبيا من الإنتاج القومي متعلق بموردها الوحيد، النفط، الذي تدير معظمه شركات أجنبية، وأصبحت مهنة “منتج” هي القناع الخلاب لمهنة (عاطل عن العمل) فكل مواطن ليس لديه مهنة محددة يكتب في خانة المهنة في جواز السفر (منتج).
يعيدنا كل هذا إلى ما يجري الآن من محاولات لتأسيس اتحاد للعمال في ليبيا، ويظل السؤال قائما: أين هم العمال؟. أو من هم العمال؟
في العقود التالية لتخلص ليبيا من الفاشية الأولى، الخمسينيات والستينيات، شكل اتحاد العمال الليبيين إحدى القوى السياسية الفاعلة وأفرز نقابيين كان لهم دور بارز، مثل طالب الرويعي، وبشير المغيربي، وغيرهما.
يذكر، السنوسي بلالة، في مقالته: “على هامش ذكرى يوم العمال العالمي” المنشورة بموقع: ليبيا المستقبل، 3 مايو 2008 ، أن “بواكير هذه الحركة العمالية قد وضحت من خلال حزب/تنظيم العمال في ليبيا الذي أسسه بشير بن حمزة الذي كان سكرتيراً للكتلة الوطنية الحرة بطرابلس عام 1947م. حيث ضم هذا التنظيم أعداداً كبيرة من عمال الميناء والمواصلات والورش، وقد اقتصرت عضويته على العمال فقط ثم اتسعت شعبية هذا التوجُّه بسرعة فائقة بداية خمسينيات القرن الماضي ليصبح اتحاداً عمالياً بقياداته وكوادره، وإن بقي واقعياً في شكل نقابة عمّالية -مؤقتاً- بسبب عدم حصوله على الترخيص والشرعية في ظل حكم الإدارة البريطانية آنذاك، إلى أن توفرت هذه الشرعية القانونية حوالى سنة 1952، بُعيد استقلال البلاد مباشرة. وذلك بفضل جهود وتضحيات أبناء وقيادات الحركة العمالية المناضلة التي تُوِّجت في شهر فبراير من عام 1956 بتكوين الاتحاد العام لعمال برقة، ومن ثمَّ ليبيا، لضمان حقوق العمال ورعاية مصالحهم بطول البلاد وعرضها”.
مع تغيير سبتمبر 1969 ومجيء العسكر إلى سدة الحكم تراجع العمل المدني عموما، والنقابي خصوصا، لأسباب عدة، تتعلق بطبيعة الحكم العسكري الذي تتضارب سيكولوجيته مع فكرة العمل المدني المستقل، وبدخول النفط كمصدر وحيد لاقتصاد البلد، ومن ثم بالأيديولوجيا التي صاحبت هذه المرحلة والتي كانت تعتبر المجتمع المدني مناقضا لسلطة الشعب، وكان تأميمها للقطاع الخاص رصاصة الرحمة التي أطلقت على استقلالية القطاعات المنتجة وعلى العمال كطبقة فاعلة اقتصاديا وسياسيا، باعتبار هذه الطبقة أوجدها بقوة العصر الصناعي الذي لعب فيه تحرير الاقتصاد من هيمنة الدولة دورا كبيرا في استقلالية اتحادات العمال.
وفي خضم هذه الفوضى التي ترتب عنها تفريغ المؤسسات عموما في الهلام الجماهيري الذي انبثقت عنه فكرة “الجمهرة” المضادة لمبدأ الاختصاص، انبثق القاموس الجماهيري الجديد الذي كان الإنجاز في اللغة يكفيه عن مشقة الإنجاز في الواقع، وتحول اتحاد العمال السابق ذو الخبرة النقابية إلى كيان هش وتابع اسمه: اتحاد المنتجين.
وكان الإنتاج الوحيد تقريبا يتم في حقول وموانيء النفط، واقتصاد النفط تديره شركات أجنبية بعمالة وافدة في الأغلب، واقتصر الدور الليبي على الموظفين الإداريين أو الخريجين من الكليات والمعاهد النفطية الذين ينتمون بدورهم إلى نقابات شكلية مثل نقابة الموظفين أو المهندسين أو غيرها. وفي الحصيلة لم يختف اتحاد العمال فقط، ولكن اختفى العامل الليبي تقريبا من علاقات الإنتاج المحلية وذاب في فضاء البيروقراطية المكتبية.
النفط بطبيعته كركيزة لما يسمى الاقتصاد الريعي يضرب قاعدة المجتمع المدني في مقتل، لأن القوى المدنية تأتي قوتها من واقع إسهامها في الدخل القومي، وهو الدور الذي يعطي لنقاباتها وللنقابيين عموما قوة المشاركة في الحياة السياسية، لأن إضراب قطاع منتج من المجتمع أو عصيانه المدني يهز أركان الدولة. والنفط كمورد محتكر من قبل السلطة حمى هذه الدول الريعية الهشة من مثل هذه الهزات، وفرغ الإضرابات من فاعليتها ومن ثم فرغ العمل النقابي من أهميته.
يشكل اتحاد العمال في الدول ذات الاقتصاد المتنوع قوة كمية وكيفية مهمة وفاعلة، بينما تشكل اتحادات أو نقابات مثل: المحامين، أو الصحفيين، أو الأدباء والكتاب، قوة نوعية ومعنوية في المجتمع المدني، بناء على علاقتها الوطيدة بمفاهيم مثل: الحقوق، والرقابة، والرأي العام، والوعي المجتمعي، حيث في مجملها تكون ما يسمى بالنخبة أو الطليعة في المجتمع.
اتحاد العمال معطل للأسباب السابق ذكرها، أما باقي الاتحادات والنقابات معطلة لأسباب تتعلق بضعف خبرة العمل المدني المستقل، أو العمل الجماعي عموما، بعد عقود من تأميم العمل النقابي واحتوائه من قبل السلطة، ولم تنجح معظم المحاولات التي بدأت بعد سقوط النظام في التأسيس لقاعدة عمل نقابي مهم يستطيع أن يكون مؤثرا في مسار سياسات الدولة وفي الإسهام في حل أزماتها، على غرار المنظمات المدنية في تونس التي حازت على جائزة نوبل نظرا لما قامت به من دور رئيس في رعاية حوار التيارات السياسية بعد سقوط النظام السابق والمصالحة الوطنية، وبناء الدولة الجديدة على أسس حديثة.
__________________