حين اعتزمت جامعة درنة وبمتابعة وإدارة من بيت درنة الثقافى وبعض مثقفى بنغازى عقد مهرجان الشاعر إبراهيم الأسطى عمر، إحياءً لذكراه الخمسين عام 2001، أُدرجت مسرحية «توقف» (كتبها منصور بوشناف، وأخرجها أحمد إبراهيم وتشاركت بطولتها مع الفنان محمد الطاهر وعازف الكمان خالد الزواوى) ضمن برنامج متنوع لأيام المهرجان، كانت فيها الزوجة الآملة المتطلعة الحالمة رغم الانتكاسة التى يعيشها زوج مقعد فقد سلاحه وحذاءه فى أرض معركة هزيمة 67..
المسرحية قُدمت كعرض فى مهرجان المسرح الليبى السادس عام 2000، وحازت بجائزة أحسن ممثلة بترتيب ثالث على مستوى مسرحيات مشاركة من عدد من فرق مسارح البلاد، وكنا عرضناها (14) عرضا بدار الفنون الليبية أى طوال أيام المهرجان فى سابقة فى تاريخ عروض المهرجانات إذ يُكتفى بعرض للجمهور وللجنة التى ستُقيمه، كان هذا هو العرض الذى سنذهب به إلى درنة شرق ليبيا، أنا أقف بأرضها والمتفرجون يتابعون عرضا يحمل رؤى تجريبية مغايرة إذ نحطم الجدران، ويتنفسنا الجمهور جسدا ونحن نرمى كلماتنا الموجعة وهو يحيط بنا جلوسا ووقوفا! هل يتحقق هذا فى مدينة كدرنة؟
حين نويت الذهاب كممثلة بهذا العرض المسرحى كنت مُحملة بكثير من التردد! وقد تركت وظيفتى بمبنى الإذاعة، ساعة وصولى درنة جرى توريطى فى تدريب عاجل لنص شعرى أحاله المخرج محمد الصادق إلى عرض تعبيرى صامت (بانتوميم) برفقة ممثل شاب هو فرج عبدالكريم لنقدم سويا مشهد افتتاح المهرجان بالجامعة، قال إبراهيم الأسطى عمر:
قيل صمتا فقلت لست بميت إنما الصمت ميزة للجماد!
وكان لى أن أخرج عما تُهت فيه وأُعبر، تدربت وقدمنا ذلك المشهد، ومنها (الجامعة) كان على المغادرة لنتقصى كفريق مكان عرضنا «توقف» بجمعية اسمها الهيلع، ظل التردد المخفى يملأنى فى جدوى أن أعرض مسرحية تجريبية بدرنة! أجرينا التمرين (البروفة جرنال) بالمكان وصرت أتخيل ذاك الجمهور كيف سيكون؟ لعله لن يتجاوز الحضور المشارك والذى جاء من أكثر من مدينة ليبية وبمشاركات مختلفة شعراء وكتاب وأدباء باحثون وتشكيليون، لكن كثيرهم شاهد العرض بالمهرجان وأثناءه وهم نخبة تعرفنى وأعرفها فقط لا غير.
ليلة العرض الساعة الثامنة مساء كنت مسترخية فى غرفة جانبية خُصصت لنا، الفنان محمد الطاهر سبقنى وتجهز على كرسيه كجندى مُقعد كسيح، وعازف الكمان بلسمُنا انتحى فى ركن داخل جغرافيا الجمعية، أول العرض سأخرج حاضنة لبقايا أعواد شجرة يابسة لأسرد للجندى المهزوم مشهدا عبثيا، الطفل الذى أحلم به غارقا فى بركة دم حمراء.. خرجت وسرقت النظر لمن جاء ليشاهد عرضنا وأخذتنى رهبة لن أنساها ما حييت، فمساحة أرضية الجمعية ملآنة، عيون شاخصة، وهدوء مفارق يدلل على نوعية هذا الجمهور طوال العرض، فى درنة التى هجست بأن لا معنى لحضور عرضنا فيها، درنة معلموها وشرطيوها وشبابها وفنانونها وطلاب جامعتها أمامى، جالسين أرضا، وعرضى يتوسطهم، برفقة من جرت دعوتهم مثلى من أنحاء البلاد وقابلتهم فى الافتتاح، كان أفضل عرض قدمتهُ فاق أدائى فيه عرض المهرجان الرسمى، ولن أتحدث عن نقاش ما بعد العرض، منحنى أهل درنة نفحة أمل وثقة بوطنى وقد أُحيل فى عينى وقتها لبيئة نابذة طاردة لكل جميل، درنة علمتنى ومنحتنى درسا لن أنساه لذلك كانت زغرودة أُطلقها فى آخر العرض هى ختام مشهدى لدرنة أهديتُها، كما لم أزغرد فى حياتى!، أجمل زغرودة خرجت من حنجرتى أردُ بها عرفانا وتقديرا لأهلها وصفوتها، وأنا من أخطأت تقديرها وحقها فى أن تكون وستظل درنة جنة الأزهار، وورد فواح، وشذو ناى، ورنات عود شجية.