الطيوب | قراءة : مهنَّد سليمان
لطالما شغلتني مسألة أجدها على درجة من الأهمية والخطورة في آن تُلخصها ربما الخطوط العريضة الأولى لعامليّ التاريخ والجغرافيا وتسييرهما للمراحل والأطوار عبر تدافع الأحقاب الزمنية المتعاقبة للجماعات والأفراد، تظهر تمثلاتها في معنى يختزله جوهر الانتماء، فما هو أصل الانتماء ؟ ومن أين جاء؟ وكيف اهتدى الوعي البشري لهذا المعنى الشفيف ؟ وما جدواه ؟ هذه بضعة تساؤلات تخلتج في نفسي كجزء من سلسلة هواجس تبحث عن نهاية للنفق المظلم في ضوء ما نمرّ به في بلادنا من ظروف حضارية حرجة تتكشّف أمام المطلع الرائي لتضعه في مأزق تاريخي قاسٍ !
ولادة فكرة الوطن
لربما الانتماء يكمن وراءه سرّ لمعنى أخذت أبعاده تتسع وتتعمق بنضج التقدم الإنساني على مرّ العصور، قد تحمل ملامح هذا السر -الأرض- لاسيما عقب التحول النوعي لأنماط حيوات المجتمعات إبّان العصر الحجري القديم من الصيد بما اقتضاه من ترحال دائم للمجموعات البشرية التي سكنت الكهوف والوديان منذ ما يزيد عن المليون ونصف المليون سنة قبل كتابة التاريخ تحديدا إلى مرحلة العصر الحجري الحديث واكتشاف الزراعة والرعي بما أفرزته هذه الثورة من دلالات مفاهيمية بعضها مادي إنتاجي وبعضها الآخر رمزي روحاني، ومن هذا المنطلق القاعديّ شرع الإنسان في تلمّس علاقته الملمحية بالمكان حين صارت الأرض مصدرا جوهريا لمعاشه ضمن لحياته الاستقرار والازدهار ولدت بالتزامن الفكرة المُثلى للوطن وما نتج عنها من ارتباط اتصل بواسطته الإنسان بالأمكنة على نحو شكل مباشر بخيط مزج بين الحميمية الدافئة وأحيانا العصبيات المقيتة، وهذه الصلة الوطيدة بالأرض والتواصل الانفعالي بفكرة الوطن أوجدت عمقا مفاهيميا لصونه وحفظه والذود عنه حتى أن بعض المجتمعات ساوت أرض الوطن بالشرف.
اقتران الانتماء بالمعرفة
على الضفة المقابلة واجهت مجتمعات أخرى تحدىً حتميّ جعل الوطن بمفهومه ومدلولاته الحضارية يتأخر نموه أو يبقى حبيس قوالب ضيقة نظرا للطبيعة التضاريسية ومحدودية الأراضي النُظم الزراعية، وانحسار فرص التحولات الدراماتيكية من مجتمع الصيد إلى مجتمع الزراعة ليُختزل الوطن/ المكان: ضمن رؤية بدائية افتقرت إلى حسّ التماسك مما صيَّر واقعا مجتمعيا جامدا متكلسا، وإن لم يبحث مواطن هذه المجتمعات عن سُبل جديدة يؤسس من خلالها لمعرفةٍ هُويَّتيّةٍ واضحة المعالم تجاه مفهوم الانتماء للوطن سيؤدي ذلك إلى تحمية صدامية مع الذات والأرض والآخر إذن نحن اليوم خصوصا في بلادنا ليبيا إزاء أزمة انتماء حادة ومسكوت عنها جرّت في ذيلها جملة من الصراعات والنزاعات المُعززة لركيزة الهدم المستمر والمباشر لقضية الهوية الجامعة، وبدورنا نُعزي جزءا من استفحال هذه الاشكالية إلى الجهالة بتاريخنا بحرق وتجهيل أجيال متعاقبة بمراحله المتشعبة فالليبي اليوم يقف في أغلب الأحيان تائها أمام حقيقة انتمائه للوطن أسير شكوكه فما أتيح له من معرفة بتاريخ هذه البلاد حظوظ فوزها بالرهان ضعيفة جدا فكيف للجيل المعاصر مثلا أن يدفع حياته ثمنا لفكرة ازدهار الوطن وهو جاهل بجذوره الأولى ؟! إذن الانتماء ليس قاصرا فقط على حتمية الارتباط بالوطن على قاعدة (الفلاحة) بل كذلك يقترن بالمعرفة الجمالية والفلسفية لتاريخ الوطن، وبالتالي لن نُنمّي صلاتنا بجذورنا دون طريق المعرفة بأن نعرف ماذا حدث على هذه الأرض.
طرابلس الغرب وبرقة خلال العصر الفاطمي
إن الذي استدعى سبر هذه التوطئة الاستطرادية هو مطالعتنا للكتاب المعنون (طرابلس الغرب وبرقة خلال العصر الفاطمي : تفاعل السياسة مع الأرض والناس) الصادر أخيرا عن منشورات دار الفرجاني للنشر والتوزيع آواخر عام 2023م للباحث الأكاديمي المُجِدّ الدكتور “رمضان محمد رمضان الأحمر” هذا الكتاب المرجعيّ الهام الذي أثرت به دار الفرجاني المكتبة الليبية والعربية يتوقف عند مرحلة تاريخية ضبابية بالنسبة للكثيرين لاسيما للباحثين مسلطا الضوء على منابع تأسيسها من عام 909 وحتى عام 1051م، ويبحث الدكتور رمضان بين طيات هذا الكتاب بالدراسة والتحليل الأحوال والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة أوان تلكم الحقبة، وتفاعل السياسة مع الأرض والناس، ويعد الكتاب بالنسبة لمؤلفه حلما قديما كان يراوده زمنا وتهيأت الظروف اليوم لإظهاره للقراء في ليبيا وليكون مرجعية للبُحّاث والمختصين والمهتمين بهذا المجال.
الوحدة الطبيعية لليبيين
ومن خلال 496 صفحة موزعة الموزعة على نحو ستة فصول يأخذنا الدكتور رمضان الأحمر في رحلة طويلة عبر الزمن حيث بنفض بخطوات قلمه ما غطّاها من غبار وأتربة فنطالع عرضا بانوراميا عن جغرافية إقليمي طرابلس الغرب وبرقة خلال العصر الفاطمي ورسم الحدودي آنذاك فحدود الدول بما فيها ليبيا تتقلص وتتمد تبعا للحقب التاريخية وظروفها الموضوعية، وبعض المؤرخين والجغرافيين اللذين كان لليبيا نصيب وحظ من كتاباتهم كانوا يُشيرون إلى طرابلس الغرب تارة باعتبارها (ليبيا) وتارة أخرى يشيرون إلى برقة باعتباره كل ليبيا، وفي ذلك التداخل الجغرافي مدلول يؤشر على آية الترابط والتعاضد داخل المجتمع الليبي فالوحدة بين الإقليمين كانت وحدة طبيعية وتاريخية بعيدة عن التكاليف السياسية، ولعل هذا المعطى يضع حدا للتجاذبات والمماحكات السياسية المعاصرة التي تُذكي غالبا النعرات الانفصالية بين أبناء الشعب الواحد .
اخفاق الفاطميين في نشر دعوتهم
كما يُبين الكتاب ملابسات قيام الدولة الفاطمية في بلاد المغرب الإسلامي وتمددها وسيطرتها على مناطق إقليمي طرابلس الغرب وبرقة، والدور الخطير الذي لعبه “أبي عبد الله الشيعي” المؤسس الفعلي للدولة الفاطمية في إفريقية ونجاحه في استمالة أهالي كتامة ونشر دعوة المذهب الشيعي بينهم وصولا لإخضاع طرابلس الغرب وبرقة ومن ثم مصر ويتطرق الكتاب كذلك لسلسلة موجات التمرد والثورة من قبل الإباضيين في جبل نفوسة على الفاطميين وثورة القيروان وقبائل زناتة ضد الشيعة علاوة على ثورة أبي ركوة في برقة، ويقترب الكتاب من أحوال المجتمع عقب رحيل الفاطميين عن المغرب ونجاحهم في غزو مصر وتركهم لطرابلس وبرقة وباقي مدن المغرب الإسلامي نهبا للصراعات الأهلية والاقتتال الطائفي وإهمالهم الملحوظ للإقليمين أيضا يتناول الكتاب أنشطة الزراعة والرعي والصناعة في الإقليمين وأساليب التجارة والنظم الاقتصادية فيما يستعرض الكتايب أسس مكونات المجتمع الليبي داخل إقليمي طرابلس الغرب وبرقة، ومظاهر الحياة الاجتماعية فيه، ومما أخفق في فرضه الفاطميون على مجتمع الإقليمين بطرابلس وبرقة هو فرض الحزن والأسى بالقوة للاحتفال بيوم عاشوراء مثلا إذ حافظ الليبيون على مظاهر الفرح والسرور في هذا اليوم مثلما يحتفل به الأمويون، كما يختتم مؤلف الكتاب بجملة من التوصيات أهمها أنه يوصي البُحاث باستكمال باقي الجوانب الحضارية لإقليمي طرابلس الغرب وبرقة خلال العصر الفاطمي، ويوصي البُحاث في المقابل بالمزيد من البحث والتنقيب عن كل ما كتب في تلكم الحقبة.