لطالما كنا نحتفظ بالورد الذي يحمل شيئا من ذاكرتنا، في ثنايا كتاب نجففه نعطره، ونعود إليه كلما هبت نسمات الحنين تداعب مخيلتنا.
ظلت كما هي الذكريات حبيسة أرواحنا، والورد بجماله المعهود، رغم اختفاء عطره واختلاف الكتاب، فصرنا نكتف بالتقاط صوره تذكرنا بالوردة، نضعها على صفحات مواقع التواصل، بدل أن نجففها، ثم ما نلبث أن نلقي بها خلف ظهرنا لا نبالي أن نهرق ماء عطرها المتبقي تحت أرجل المارة، أو لا نكترث لو سحقتها عجلات سيارة تمر بلمح البصر، يقودها مراهق أرعن، لا يرى غيره سائقًا أو سائرًا على تلك الطريق.
ما علينا..
بينما كنا نتسكع في أزقة المدينة القديمة، أنا وصغيري مصطفى -أجمل حبة في عنقود الفرح في أسرتنا- نبحث عن أروحنا التائهة، لعلنا نجد شيئًا منها هناك، في تلك البقعة المقدسة من طرابلس التي أحب، حيث يقف بشموخ قوس ماركوس، والمحلات العتيقة تشرع أبوابها لزوار المكان، وإذا بي ألمح باب مرسمه مفتوحًا بعد غياب طويل، لم أمل خلاله من تفقد ذلك الباب العتيق الذي يحمل عبق قرون مضت من تاريخ هذه المدينة العريقة، كلما أخذتني قدماي إلى هناك إلى مرسم الفنان الجميل محمد الغرياني، دخلنا عليه بابه، فقابلنا بابتسامته التي يعرفها كل العابرين من هناك، فهو أيقونة ذلك المكان الآسر للب كل من دخله، فرحت كثيرا لما رأيته واقفًا مرحبًا مبتسمًا، سلم بحرارة ممزوجة بعتب رأيته في محياه، رغم أنه لم يتجاوز حنجرته..
تبادلنا أطراف الحديث لدقائق معدودة، وإذا بشخص يدخل المرسم كنت لمحته خارجا، عرفته وخجلت أن أبادره السلام، فهو لا يعرفني؛ نعم أعرفه وأعرف قدره ومكانته جيدا! فمن منا لا يعرف الفنان الكبير الدكتور بشير حمودة؟ لطالما قرأت عنه على صفحات الفيسبوك وتابعت أعماله، كانت تلك المرة الوحيدة التي التقيته بها.
ساعتها عرفه الفنان الكبير أستاذنا محمد الغرياني باسمي، وأعطاه نبذة عن نوع الفن الذي أمارسه، وكعادتي أزهو بنفسي كثيرًا حين يأتي أحد على سيرة فني، فما بالك إذا كان من يتناوله هم أهل الفن وخاصته، حينها وبكل فخر قمت أستل هاتفي من غمده وأستعرض لوحاتي للفنان الكبير حمودة، وبدأ يتحدث بإسهاب عن الفن وقواعده وأسسه، ويخرج لنا من كنوز معرفته ما شنف به آذننا، كنت أصغ باهتمام وبصمت (هذا أمر غير معهود، فأنا دائما تأخذني الحمية، وأدلي بدلوي في كل حديث أكون طرفاً فيه 😁).
لحظات قليلة، ويدخل المرسم الفنان الكبير الأستاذ سالم التميمي، وينضم للحديث، مر الوقت كلمح البصر، وحان وقت الرحيل. وقبل أن أغادر المرسم تناول الفنان الاستاذ بشير حمودة من صحن اعتاد فناننا الغرياني أن يضعه على مرمى يده يملؤوه بالياسمين، ثلاث وردات أهداني إياها، متمنيًا لي رحلة طيبة في طريق الفن…
خرجت وابني مصطفى، عائدين لسيارتنا فأهديت وردة من الثلاثة لزوجي أبو قصي، الذي عاد ليأخذنا ورده منها، والتقطت صورة لاثنتين.. ولا تسألوني أين رفات الوردات الثلاث الآن، أظنني اكتفيت بالتقاط الصورة التي أمامكم/ مرفقة بهذا المنشور، وغفلت أن أحتفظ بها في كتاب 😔!!!