الكثير من المبدعين مروا بليبيا من العرب والأجانب وأقاموا فيها لفترات متفاوتة وخلال مدة إقامتهم فيها وضعوا إبداعاتهم وسطروا إنجازاتهم الفكرية والأدبية والفنية حيث كتبوا الشعر والقصة والرواية والدراسات الفكرية وأدب اليوميات وأدب الرحلة وغيرها من أنواع الكتابات والإبداعات الفنية في التشكيل وخلافه وأغلب من كتب في ليبيا وجد المناخ الملائم للكتابة إلى جانب امتلاكه للموهبة فبادر بالكتابة الإبداعية ومن بين هؤلاء الذين كتبوا على سبيل المثال العديد من الرحالة الذين جابوا البلاد من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها وعلى رأس القائمة التي تضم هؤلاء الرحالة والمستكشفين – رغم أن نوايا البعض منهم لم تكن استكشافية – بقدر ماكانت تتحرك وفقا لأطماع إستعمارية , على رأسهم تقف المسز توللي أخت قنصل بريطانيا في ليبيا في القرن الثامن عشر التي روت يومياتها ورحلاتها في ليبيا وكتبتها في صورة رسائل بكتابها ” عشرة أعوام في في بلاط طرابلس ” ليتم تجميعها فيما بعد وإصدارها في كتاب يعد اليوم من أهم المراجع التاريخية ومن أهم الشهادات التي سجلت بشأن ليبيا , لأنه إلى جانب أنه كتاب توثيقي , عبّرَ عن وجهة نظر أجنبية لليبيا ذلك الوقت .
تطول القائمة التي نجد فيها أيضا الكثير من المبدعين , ونتجاوز الزمن لنصل إلى عصرنا الحالي الذي وضع فيه بعض الرسامين والتشكيليين العرب إبداعاتهم في ليبيا مثل الفنانيَن المصريين محمد حجي ومحمد رضا مرورا ببعض الفنانين العراقيين الذين أقاموا في ليبيا ودرَّسوا في جامعاتها , وإذ نقول الفنانين العراقيين لابد من أن يتداعى إلي الذهن أسم الفنان التشكيلي نافع الخطيب صحبة ثلة من زملائه الذين تركوا بصماتهم في المشهد التشكيلي ككل وحتى اليوم , ولا بد من أن نذكر الشاعر العراقي عذاب الركابي والقاص العراقي زيد الشهيد , أيضا للشاعرة الفلسطينية وجدان شكري عياش وللشاعر الفلسطيني جميل حمادة الذين لا زالوا يقيمون بيننا حتى اللحظة حتى أن الجميع يعدهم ليبيون اليوم لطول العشرة ولذوبانهم في النسيج الليبي بل أننا قد نعتبرهم ليبيين أكثر من بعض الليبيين , لهؤلاء الشعراء دواوين شعرية وقصائد عصماء ولدت في ربوع ليبيا , لنصل إلى بيت القصيد ونعني به الرواية حيث كتبت العديد من الروايات في ليبيا إلا أن أهم ما أنتج في هذا المجال هو رواية ” أين أمك أيتها الحمقاء ” للروائية اليونانية المقيمة في ليبيا والمتزوجة من ليبي الروائية ديمترا سوتيرس بترولا , وروايات ” رائحة السلاح ” و ” تيتانيكات افريقية ” و ” بركنتيا أرض النبوءات ” للروائي الأريتيري أبوبكر حامد كهال الذي استقر بليبيا سنوات طوال قبل أن يشد الرحال شمالا عقب الأحداث المزلزلة التي شهدتها بلادنا ليبيا سنة ألفان وإحدى عشر , وكأن الحرب التي كتب عنها في رواياته سالفة الذكر وخبر أهوالها هناك في بلاده , كأنها تلاحقه لتقض مضجعه وتطوح به بعيدا في أقصى شمال الكرة الأرضية حين اندلعت في ليبيا حيث كان يقيم , والمثير في الروايات المذكورة التي كتبها اثنان من أكبر الروائيين ولعل ذلك من قبيل الصدف أنها تتحدث عن الحرب , تلك الفاجعة التي متى ما ألمت بمجتمع فإنها تزلزله وتخلخل أساساته ومتى ما مرت بشعب فإنه لا يعود هو ذات الشعب الذي كان قبل اندلاعها , وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد لأن الكتابة هنا واقعية أكثر من اللازم وموغلة في الحقيقة – المُرة في الأغلب – فالروائي والروائية مع مراعاة الفارق الزمني الذي كتب فيه كل منهما , يكتب عن خبرة وعن تجربة وعن مشاهدة ومعايشة , لهذا تبدو الكتابة طازجة وحيوية والشهادة الأدبية حية , الكتابة هنا تغوص عميقا في الواقع وتخوض في وحله , ترصد بشاعته وقتامته وتستجلي خلله وتصور سوداويته الفائضة , فالكتابة عن الحرب لا يمكن إلا أن تكون منحازة , منحازة للحق والحياة , وهذا ما انطلق منه الروائيان موضوع حديثنا هنا , فقد فضح أبوبكر كهال جرائم الإستعمار الأثيوبي في بلاده أريتيريا وسجل بطولات أبناء شعبه حين أعلنوا ثورة المقاومة , وانحاز لحق أبناء وطنه في الحرية والحياة بكرامة فوق أرضهم , وهي الفكرة التي ظلت تنتقل معه من رواية إلى أخرى بحبكة ومهارة في القص وقدرة على نسج الأحداث ورسم المشاهد البطولية وخلق الشخوص , وزخم يعجز عن تحقيقه على الورق الكثير من الروائيين الذين يكتبون فتأتي كتاباتهم باهتة وغير حيوية لأنها ليست نابعة من إحساس حقيقي بما يكتبون , في حين روت صاحبة ” أين أمك أيتها الحمقاء ” روايتها بلسان الطفلة التي كانت , وسجلت أحداثها من وجهة نظر هذه الصغيرة , عن الأحداث التي لا تملك كقارئ إلا أن تتماهى مع تفاصيلها المرعبة ولا تمتلك كمتابع إلا أن تعلن تعاطفك التام مع أبطالها , عن هذه الأحداث نتحدث لأنك وأنت تقرأ لا تعُد قادراً على فصل الواقعي عن المتخيل ولا تستطيع قوة مهما أوتيت من قدرة على الإقناع بأن تقنعك بأن ما تقرأه ليس واقعياً أو أنه محض خيال نسجته مخيلة الكاتبة لأن الأحداث موغلة في الواقع وبواقعية تذهب إلى أبعد مما هو واقعي , ولا بد في مرحلة من مراحل القراءة من أن تذرف الدموع كما حصل معي , فالرواية تتناول الحرب الأهلية اليونانية التي اندلعت عقب الحرب العالمية الثانية وعانى جراء ويلاتها اليونانيين كثيراً قبل أن تضع أوزارها لمَّا وضع اليونانيون عقولهم في رؤوسهم وجنحوا للسلم , أنتهت الحرب الأهلية ولم يعد يتذكرها اليوم أحد , إلا أن هذه الشهادة / الرواية إذا ما تصفحها المرء فإنها تعيده إليها وتضعه تماما في قلبها حتى لا يتكرر ما حدث , وهذه الرواية هي إحدى السُبل الممكنة لمكافحة وباء الحرب , ليس في اليونان فحسب بل في كل بقعة من بقاع العالم , فالكتابة هنا إنسانية بقدر ما هي محلية , وعالمية بقدر ما هي خاصة بالبلد المقصود بالكتابة .
ولعلنا بمقالنا هذا نعيد التنبيه إلى رواية ” أين أمُكٍ أيتها الحمقاء ” للروائية اليونانية ديمترا سوتيرس بترولا , لأنها لم تحظى بما يليق بها من الأحتفاء عربياً مع أنها أشهر من نار على علم في الأدب اليوناني الحديث والدليل أنها طُبعت خمسة عشر طبعة حتى الآن , هذه الرواية التي أعُدها شخصياً بعد قراءتها من الأدب الرفيع الذي لا يقل جمالاً وعظمة عن بعض مما كتبه تولستوي وسيمونوف وهيمنغواي وغيرهم من الكُتاب الكبار الذين كتبوا عن الحرب , وبالطبع ما كان لهذا التألق عربيا أن يتحقق لولا جهود المترجم الليبي , الدكتور محمود الوحيدي الذي حافظ على روح النص ونقل زبدته للقارئ العربي , إذ هذا ما تشي به اللغة وما يحس به القارئ حال تورطه في القراءة , وهذه دعوة لقراءة العمل .