المقالة

غدامس؛ الياقوتة الفريدة المطمورة في الرمال

زُرتُ الأربعاء الماضي (29 مايو) مدينة «غدامس» العريقة، ومكثتُ بها 4 ليالٍ من سَوَانح الدهر وعَطَاياه؛ للمشاركة في احتفاليَّة «جمعية غدامس للتراث والمخطوطات» لتكريم أستاذي البحَّاثة، المُؤرِّخ الجليل: عمار جحيدر، نيابة عنه، ومُمَثِّلا له، إذ تَعَذَّر حضورُه الشخصيُّ، لاعتلال صِحَّته في الأشهر الأخيرة؛ حفظه الله وشفاه.

هذه هي المرَّةُ الأولى التي أزور فيها لؤلؤة الصحراء «غدامس» الواحة الذهبيَّة، والمدينة العريقة. وهي – مع غَلَبَة شهرتها التجاريَّة وبُعدها الاقتصاديِّ- مِن أهم الحاضِنات الحضاريَّة في تاريخ ليبيا الثقافي. بل هي بلا نزاعٍ: “أبرز مركز جِهَويٍّ للوثائق والمخطوطات في ليبيا”. كما أنَّها -بحكم موقعها الجغرافيِّ- أهمُّ نافذهٍ للتواصل الثقافي والاجتماعي بين ليبيا وبلاد السودان (جنوب الصحراء). ولا يغيبُ عنِّي في هذه العُجالة؛ الإشادةُ بالمطبخ الغدامسيِّ، أحد أثرى مطبخَيْن في ليبيا كلِّها.

سافرتُ إلى «غدامس» برًّا، قادما من طرابلس، في رحلةٍ استغرقت 8 ساعات ونصف الساعة، مَرَّت – من أشواق اللقاء، ولَهفة الوِصال- كأنَّها حُلُم. وكذلك من وفرة المُشاهدات الميدانيَّة التي حرِصتُ عليها، حيث إنَّها المرَّة الأولى التي أمُرُّ فيها من هذا الطريق.

صِرتُ أرى مُدُنًا قرأتُ عنها زَمَنا، وهأنذا أدخل أسوارَها لأوَّل مرَّةٍ، فيُزوَى لي الزمان ويُطوى المكان، لأسلِّمَ على أبي منصور إلياس التندميرتي (ت: ق3هـ) في «تندميره» مُلتمِسا دعاءه. وأحضرَ مجالسَ النحو والقراءات عند الشيخ حَسَن بن الحاج عمر (ت: 1353هـ/1934م) في «سيناون». وأتتبَّع خُطى الرَّحَّالة بين «الشعواء» و«تُقُطَّه» وأجوبَ قصور «ماترس» لأصل إلى أطراف مدينة «دِرِج» ألتقطُ بها أنفاسي، وأعاين النقوشَ القديمة، وأشرب من مائها العذب؛ متأهِّبا لدخول «غدامس» والصَّلاة في مسجد «عقبة بن نافع» حامِلًا معي رسالة من أخيه، وخليفته على الجيش الفاتح لليبيا «زهير بن قيس البلوي» دفين مدينة درنة الصابرة.

الجهةُ المُستضيفة، والمنظِّمة للتكريم [جمعية غدامس للتراث والمخطوطات] جمعيَّةٌ أهليَّة، غير ربحيَّة، تتَّقدُ هِمَّة بالنشاطات العلميَّة، والشَرَاكات الثقافيَّة، والخِدمة المجتمعيَّة. وهي حديثة التأسيس (2013م) لكنَّ المتابع لمسيرتها، يجد أنَّها مولودٌ وُلد كبيرا. وما يزال الطريقُ أمامهم طويلا. ركائز الجمعيَّة: «أ. قاسم بشير يوشع Kasem Yosha» قلبُها النابض المتكِّئ على إرث أبيه المَجيد. و«أ. عبدالجبار الصغير» الباحثُ النَّابه القريب إلى قلبي. و«أ. لطفي الحاجِّي» المُستشار اللمَّاحُ، والنَّاضجُ المُتمَهِّل.

كان حفلُ التكريم حميميًّا، حضره جِلَّةٌ من مُثقَّفي غدامس، وكُتَّابها، ومن رُوَّاد حَراكها الثقافيِّ والمؤسَّسي. ألقيتُ في الجمع كلمة عُنوانها: «من تاجوراء إلى غدامس: أضواءٌ على شخصيَّة المؤرِّخ الجليل عمَّار جحيدر، وآثاره» جمعتُ في طيَّاتها بين الاحتفائيَّة بالشخصيَّة المُكرَّمة، والقراءة الموضوعيَّة لمنهجيَّته البحثيَّة الرَّصينة.

طول ليالي إقامتي بغدامس، لم أفرِّط في ثانية واحدة منها، يُرافِقني كُنَّاشي في غُدُوِّي ورواحي. وأنَّى جلستُ حاولتُ استثمار المجلس بالمناقشات والمُثاقفات، كأنَّه صالونٌ ثقافيُّ مُصغَّر. جالستُ أهل المعرفةِ محاولا البحث عن خيوطٍ لمسايل شغلتني، ووقايع أرَّقتني، وشخصيَّات أضناني البحث عمَّا يبُلُّ الرِّيقَ من سيرتها.

تجوَّلتُ في المدينة القديمة وشوارعها السبعة، وعين الفرس، صباح الجمعة، صُحبة الأستاذ الحبيب د. نورالدين الثني، الذي ما بخل عليَّ برِفد يده، وفيضِ وِجدانه، ومدد مِداده. ووقفتُ على الزوايا الصوفيَّة وآثارها ومعمارها، كما ذُهلتُ بعبقريَّة الحوش الغدامسيِّ، وبهاء هندسته، وحضارة من عاشوا فيه، وذوقهم. وعجِبتُ من التفوُّق المِعماريِّ الذي كان يعيشه الغدامسيُّون قبل أكثر من 650 عاما!

كان لِزاما عليَّ، وأنا بالواحة البهيَّة، صِلةً للرَّحم، زيارة مشايخنا من وُدِّ أبي، وتلاميذه وأصدقائه، وعلى رأسهم: وارثُ لِواء الرواية، وحامِل راية الإسناد بغدامس؛ شيخنا الأثير: الحبيب البخاري قاسم يِدِّر، المُثقَّف الحصيف، والجذوة الروحيَّة الباقية في المدينة، والمرجِع المُبرِّز فيما يخصُّ واقع التصوُّف ومشايخ الطرق الصوفيَّة بغدامس.

وقبل سفري بنصف نهار، أكرمني الله بزيارة شيخ مشايخنا، المسند الثبت، والمثقَّف الفاعل: أ. أبوالقاسم عبد الرحمن أبوالقاسم، مدَّ الله عمره وبارك في صحَّته. وقد سُرَّ بالزيارة كثيرا، وأنالني ما أمَّلتُ وأكثر، من المكرمات والخيرات، ما يحتاج سردُها مقالا مُفصَّلا. والحمد لله على كرمه وتوفيقه.

من مفاخر مدينة غدامس، احتفاظها بسند عتيق نادر، متَّصلٍ بالسَّماع الكامل، لصحيح البخاريِّ، ويرجعُ الفضلُ في إحيائه قبل اندثاره، ووصله وإعلاء مناره، وشهرته في الآفاق؛ إلى والدي العلَّامة الأستاذ أحمد القطعاني. حتى صار السندُ اليوم، معلوما للجميع، يتسابق أهل الرواية إليه، وينسخون ما دبَّجه -نوَّر الله مرقده- من تحقيقات ونَقَدات وَوَقَدَات. جزاه الله عن الأمَّة الليبيَّة والإسلاميَّة خير الجزاء.

آخر السَّطر؛ إنَّ تراث غدامس المعنويَّ والمادِّيَّ لو وُزِّع على الدُّوَل المجاورة لليبيا، لكفاها. لكنَّها عندنا، مع فَرَادَتِها، مطمورةٌ في رِمال الإهمال. إلَّا أنَّها ستبقى في الدهر ياقوتةً لا مثيل لها، سواء عَرفت قدرَها مجتمعاتُ النفط، أم لا. والله المُستعان.

[ملاحظة: لكلِّ صورة، وصفٌ مختلف، ومعلومات إضافية، غير موجودة في المنشور]

28 من ذي القَعدة، لعام 1445هـ

مقالات ذات علاقة

من الذي تغــيّر؟!

يوسف القويري

الصلف

نجيب الحصادي

كيف تقاوم بيئة نابذة طاردة!!

فاطمة غندور

2 تعليقات

محمود امبارك 9 يونيو, 2024 at 13:32

بالتوفيق دكتور. مقالاتك غنية بالمعلومات والإشارات ومكتوبة بروح أدبية عالية متعددة الأجناس. وظاهر من كلامك روحك الطيبة وتربية أهلك لك، من الوفاء للمعلمين والرواد ومن لهم الفضل عليك وأصدقاء والدك. قرأت منشورك مرات عددية وحين وجدته منشورا في موقعنا بلد الطيوب قرأته مرات عديدة أيضا. آمل ألا تحرم ههذ الأجيال من قراءة حرفك والتزود من جودته وأساليبه وأجناسه وزخم المعلومات التي فيها. محبتي. ابن عمك محمود امبارك.

رد
المشرف العام 9 يونيو, 2024 at 17:11

نشكر مرورك الكريم…

رد

اترك تعليق