تعتمد النصوص المكتوبة ثلاثة أضلاع أساسية لخلق عملية التواصل، ومن ثم حقل التداول الذي تنمو فيه القراءات المتعددة والتأويلات اللامتناهية، هذه الأضلاع هي: المؤلف، والكلمات، والقارئ، وهي علاقة لا تخلو عادة من الالتباس وسوء الفهم، وينبثق من هذه العلاقة نوعان من القراء، القارئ النموذجي، والقارئ التجريبي، يتسق الأول إلى حد ما مع رسالة النص أو يكون لصيقا بعلاقات الحضور فيه، ومستجيبا لتخيلاته دون تفحص مدى محاكاتها للواقع، أما القارئ التجريبي، فهو مهتم أكثر بعلاقات الغياب ونابش حاذق عن توازنات المحاكاة بين مخيلة النص ومرجعياته في الواقع.
هو قارئ قلق تجاه تجليات المؤلف أو قوى اللاوعي عنده التي تستدعي بعض المشاهد من ذاكرته، أو ما هو قابع في أعماق وجدانه، وأحيانا دون مبرر منطقي للقارئ المتمتع بوعي خالص خارج آليات إنتاج النص.
نتوقف أحيانا عند أسماء أو أمكنة معينة يقترحها السارد ونحاول البحث عن دلالاتها في النص، ولا يعنينا مدى فاعلية هذا الاسم أو المكان في خطاب النص وفي توليد مرسلاته. يحكي امبرتو إيكو في كتابه المهم، أو بالأصح إحدى محاضراته التي جمعت في كتاب: «حكايات عن إساءة الفهم» ترجمة: ياسر شعبان.
يحكي قصة لا تخلو من الطرافة والدلالة: «عندما ترجمت إحدى رواياتي في أوروبا الشرقية – قبل فترة طويلة من البروسترويكا – اتصل بي بعض المترجمين، مصرحين بصعوبة الإشارة إلى الاجتياح الروسي لتشيكوسلوفاكيا في مقدمة الكتاب، ورددت عليهم بأني لا أسمح بأي تغيير في نصي، وإذا ما كان هناك نقد فالمسؤولية تقع على الناشر، وعندئذ أضفت مازحا: وضعت «براغ» في البداية لأنها ضمن مدني الساحرة، لكنني معجب بدبلن، فضعوا دبلن بدل براغ، ولن يتغير شيء، وكان ردهم: لكن دبلن لم يجتحها الروس. وعلقت: «ليست غلطتي».
لا يخلو هذا الحوار من مزاح، لكنه على كل حال مزاح أمبرتو إيكو الذي لا يتوقف عن العمل حتى وهو يمزح، وبالطبع ليست غلطته ألا يجتاح الروس دبلن، وليس غلطته أن يساء فهم مقصد المؤلف، وأن يشحن الناقد أو القارئ كل مفردة بعبء التاريخ حتى وإن كانت منبثقة من وجدان حميم، وبراغ التي قرأها الناشرون بمرجعية تاريخية أو أيديولوجية، ليست براغ التي اقترحها المؤلف، فقط لأنها إحدى مدنه الساحرة، وهنا سيكون استبدالها بمدينة أخرى يحبها إيكو غير مؤثر في النص، لأن الدلالة متعلقة بوجدان الكاتب أكثر من أي شيء آخر، كمن يختار اسم حبيبته الأولى لإحدى شخصيات روايته، ويبحث القارئ عن دلالات هذا الاسم في خطاب الرواية، يبتعد كثيرا ومن حقه أن يفعل، لأن النص في هذه الحالة خرج عن سيطرة الكاتب الدلالية وتحول إلى نظام لغوي يتفاعل في ذهن القارئ ومخيلته.
وفي كل الأحوال تنتج إساءة الفهم هذه أكبر مساحة يلعب فيها التأويل وتنغمس فيها نظريات التداول المتعددة. في هذا الكتاب المهم يرصد إيكو بحسه البحثي الرصين آليات تشكل منظومات اللغات القديمة، وهوس الكثير من الباحثين بالبحث عن اللغة المثالية التي كانت سائدة قبل أسطورة بابل.
ومن هذا المدخل الميثولوجي المدعوم بوقائع تاريخية يذهب في محاضرته الأخيرة (المؤلف ومفسروه) إلى استعراض العديد من التأويلات التي تعرضت لها رواياته باعتباره مؤلفا تجريبيا، أو كما يقول قارئ غير منحاز لأعماله، مؤكدا على أنه: ليس على القاص أو الشاعر مطلقا أن يقدم تفسيرات لعمله، فالنص بمثابة آلة تخيلية لإثارة عمليات التفسير. وهو سر مزاحه العميق من ملاحظة ناشريه.
إساءة الفهم لا تؤخذ على محمل الجد في المجال التداولي الخاص بثقافتنا، كثيرا ما صدرت أحكام قضائية مبنية على قراءات أساءت الفهم إلى أبعد حد، بل وفي مثل هذه الحالات لا تكون إساءة الفهم ناتجة عن قصور أو خلل تفسيري، ولكنها متعمدة من أجل دحر كتاب عبر جملة، أو مكتبة عبر كتاب، أو ثقافة برمتها عبر مكتبة، ويأتي هذا التعمد في سياق ما يمكن أن نسميه القراءة الخبيثة، وإذا ما خففنا من وقع هذه التسمية، من الممكن أن نسميها القراءة التكتيكية، التي تستخدمها سلطات عدة، سياسية أو دينية أو اجتماعية، لضرب مجال تداولي كامل، عادة ما يكون المفكرون والمبدعون من ساردين وشعراء هم ضحايا هذه القراءة التي عادة لا تخط إلا في مذكرات اتهام في حالة وجود دولة تحاول احترام نفسها وقوانينها التي سنتها لهذا الغرض، أو تؤدي إلى قطع رقبة في مجتمع تحكمه الأمزجة، بسبب سياق أو بسبب أنه سمع بشخص ما حدثه شخص آخر نقلا عن شخص موثوق به أن هذا السياق مسيء لمقدساتنا.
لاحظنا جميعا ما ملأ مواقع التواصل من اقتباسات خبيثة من كتاب أو كتابين عندما تم في أحد البوابات القبض على شحنة كتب، وبهذه الجمل المنزوعة من سياقها أحرقت الكتب أو صودرت بالكامل، والمعني بالمعركة ليست هذه الجمل ولكن المقصود مجال ثقافي كامل يقف حجر عثرة أمام إنبات أفكار جديدة، أو نشر عقيدة ليس بوسعها مواجهة أي شخص يفكر باستقلالية، وأيضا ما حدث لكتاب «شمس على نوافذ مغلقة» كانت محاولة إعلامية من أجل الترويج إعلاميا لحالة متعمدة من إساءة الفهم لضرب مجال إبداعي كامل.
كتاب أمبرتو إيكو لا يقف عند مثل هذه الأحداث الساذجة. لكن باعتباره باحثا في اللسانيات يضع نظرية هامة لسوء الفهم وما يترتب عنه من قراءات في مناخ عقلي مسالم تتمثل مشاكسته في معايرة خيال الفنان بالواقع، وأقصى تهمة من الممكن أن يذهب إليها هو الإخفاق الفني . كما أن الكتاب يخصص فصلا لحوار الحضارات ضمن هذا النزوع إلى إساءة الفهم ، سواء كان متعمدا أو عفويا.
__________________