محمد عبداللطيف | مصر
في مستهل هذا المقال، نواجه سؤالًا جوهريًا ينبثق من تصريحات الدكتور زاهي حواس، الذي أعلن صراحةً عن غياب الأدلة الأثرية المباشرة التي تدعم الروايات الدينية حول الأنبياء في السجلات المصرية القديمة. هذه التصريحات ليست مجرد موقف علمي معزول، بل تبرز التوتر الكامن بين المناهج الأثرية والتأويلات الدينية، مما يستدعي تأملًا عميقًا حول كيفية تأثير هذه التصريحات على فهمنا للديناميكيات بين العلم والدين .
إن الفلسفة، بما تمتلكه من أدوات لفحص الأسس المعرفية والوجودية، تلعب دورًا حيويًا في هذا النقاش. إنها توفر إطارًا نظريًا لا غنى عنه لاستقصاء الطرق التي يمكن من خلالها للتحقيقات العلمية أن تتفاعل وتتقاطع مع التفكير الديني.
يعرض برتراند راسل فكرة الشك الهيكلي، ويحذر من المخاطر المترتبة على الغرور الفكري الناجم عن اليقين المفرط، حتى لو كان علميًا. ينادي راسل بأهمية التفكير النقدي الذي يدمج الشك كعنصر أساسي في البحث الفكري، مؤكدًا على أن التحقيق الدقيق يجب أن يستوعب متغيرات المعرفة والاعتراف بالتعددية والتناقضات المحتملة في التفسيرات.
كما يدعونا إدموند هُوسِّرْل، إلى التجرد من التصورات المسبقة و”العودة إلى الأشياء نفسها”، لنتعامل مع الظواهر كما هي دون تحيز. يمكن لهذا النهج أن يوجهنا نحو إعادة تقييم الفهم القويم للنصوص والأدلة الأثرية، فاتحًا بذلك الباب أمام تأويلات جديدة قد تثري كلًّا من المعرفة العلمية والفهم الديني.
بهذه الأسس الفلسفية، يهدف هذا المقال إلى بناء حجة مفادها أن التعامل بين العلم والدين ينبغي أن يكون مبنيًا على التفاهم والاحترام المتبادل، مما يسمح للجماعات العلمية والدينية بالإفادة من بعضها البعض في سعيها نحو الحقيقة.
في مجال الآثار، كما في جميع العلوم الإنسانية، تبرز تحديات أخلاقية ومعرفية ملحوظة عندما تتقاطع النتائج الأثرية مع المعتقدات الدينية والثقافية المستقرة. يطرح التعامل مع هذه المعلومات التحدي الأكبر في الحفاظ على النزاهة العلمية مع احترام عميق للتنوع الثقافي والديني. يواجه الباحثون دوريًا التحدي في تقديم نتائج قد تتعارض أو تتحدى المفاهيم الثقافية والدينية الراسخة، كاكتشافات قد تُظهر تفاصيل تاريخية تختلف عن الروايات الدينية التقليدية.
تقدم الفلسفة العلمية، بإرشادات من مفكرين مثل كارل بوبر وتوماس كون، الأطر لتقييم موضوعي للأدلة، وتشدد هذه الإرشادات على ضرورة استعداد النظريات للتحدي والتغيير استجابة للبيانات الجديدة. ومع ذلك، يكمن التحدي الرئيسي في القيام بذلك دون تجاهل الحساسيات الثقافية والدينية التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من هوية الجماعات المعنية.
إن فلاسفة مثل جون راولز ومايكل والزر يؤكدون على أهمية العدالة والاحترام المتبادل في الممارسات العلمية، معتبرين أن البحث العلمي يجب أن يعزز الفهم والحوار بين الثقافات المختلفة بدلاً من إثارة الصراعات. وباستخدام منهجية إدموند هُوسِّرْل “العودة إلى الأشياء نفسها”، يوصَى بمقاربة البيانات الأثرية بموضوعية، والاستعداد لتقبل النتائج التي قد تتعارض مع التوقعات السابقة.
تشجع هذه العملية على الحوار البنّاء وتعديل الفهم الأكاديمي والديني استنادًا إلى الأبحاث العلمية الجديدة. إن التحديات الأخلاقية والمعرفية في البحث الأثري تسلط الضوء على الحاجة المُلِحَّة لتطوير مناهج تعليمية وبحثية تحترم التنوع وتعزز الفهم المتبادل، كما أن الالتزام بالنزاهة والتواضع الفكري من قبل الباحثين سيعززان ليس فقط فهمنا للتاريخ، ولكن أيضًا بناء جسور التفاهم بين الثقافات والديانات المختلفة.
في طيات علم الآثار، تتجلى التحديات الفلسفية والعلمية كعناصر أساسية تؤثر على الفهم العلمي والديني على حد سواء. يواجه الأثريون، مثل الدكتور زاهي حواس، تحديات معقدة تنطوي على محدودية الأدلة المتاحة وصعوبات تفسير النصوص والمواد المكتشفة. وإن العلماء يستندون إلى منهجية تحليلية دقيقة للمواد الأثرية ومقارنتها بمصادر تاريخية، مما يمكنهم من بناء فرضيات حول سياقات الحضارات القديمة. ولعل الدكتور حواس يستخدم هذه الأدلة لتفسير تاريخ مصر القديم، ولكن ينبغي الحذر من الإفراط في استخلاص الاستنتاجات دون أدلة قاطعة.
تقدم فلسفات إدموند هوسرل وبرتراند راسل رؤًى قيِّمة في هذا المجال. هُوسِّرل، بتركيزه على الفينومينولوجيا، يؤكد على أهمية تجربة الظواهر مباشرة لالتقاط جوهرها الحي قبل تشكيل نظريات علمية أو دينية. هذا النهج يشجع على استقبال الأدلة بعقل مفتوح ودون افتراضات مسبقة، مما يعزز فهمًا أعمق للماضي.
يناقش برتراند راسل، من جانبه، أهمية الشك المنهجي والتواضع الفكري في البحث العلمي، مؤكدًا أن العلم يجب أن يكون مستعدًا للتحدي والتساؤل. يتيح هذا النهج للعلماء التعامل مع الأدلة بطريقة تقبل التعديلات والتفسيرات المتعددة، مما يقلل من خطر التعصب الفكري والغرور العلمي.
من خلال دمج هذه المنظورات الفلسفية في التحليل الأثري، يمكن تعزيز التفاهم المتبادل بين العلماء والمجتمعات الدينية. وبذلك يتحول البحث الأثري من مجرد تحقيق في الآثار المادية إلى استكشاف للمعاني والقيم التي يمكن أن تساهم في حوار أكثر غنى وشمولية بين الماضي والحاضر.
يُعتبر دور العلماء المتدينين في التوفيق بين الآثار والنصوص الدينية حقلًا معقدًا يُظهِر كيف يمكن للبحث الأثري أن يتداخل ويتفاعل مع التعاليم الدينية؛ وإن علماء مثل ويليام ف. ألبرايت، و جيمس هوفماير، وكينيث كيتشن، قد استخدموا خبرتهم العميقة لإلقاء الضوء على النصوص الدينية والأحداث التاريخية. ألبرايت، مثلاً، دَعَّم بالأدلة الأثرية فهم نصوص الكتاب المقدس، مؤكدًا على التطابق بين الاكتشافات الأثرية والوصفات الجغرافية والتاريخية في الكتاب المقدس، بينما طور أساليب بحثية دقيقة ما زالت تستخدم حتى اليوم.
كما أن جيمس هوفماير، بخبرته في علم المصريات والعهد القديم، قَدَّم دلائل تاريخية تدعم الروايات التوراتية، بينما كينيث كيتشن دافع عن الروايات الدينية بالاستناد إلى النقوش والوثائق المصرية، مما يعكس كيف يمكن للعلم أن يعزز الفهم الديني. هذه المحاولات تحمل تحديات أخلاقية ومعرفية، حيث يتعين على العلماء الحذر من تأويل الأدلة بما يخدم معتقداتهم الشخصية بدلًا من السعي لفهم موضوعي.
إن النزاهة العلمية تتطلب التمييز بين النتائج المثبتة والتكهنات أو التفسيرات الشخصية. ينبغي على العلم والدين أن يكمل كل منهما الآخر في البحث عن الحقيقة، مع التأكيد على التواضع الفكري والاستعداد لاستقبال نتائج جديدة كجزء من تطور فهمنا المستمر للتاريخ الإنساني.
في إطار بحثنا حول تفاعل العلماء المتدينين مع الآثار والنصوص الدينية، تتكشف أهمية لوحة مرنبتاح، المعروضة في المتحف المصري. مرنبتاح، ابن رمسيس الثاني، والمعروفة أيضًا بـ”نص النصر”، قام بتخليد انتصارا عسكريا، ومن ضمن الإشارات البارزة في تلك اللوحة هذه الإشارة المتعلقة بـ”إسرائيل”، والتي تُظهر إسرائيل ككيان اجتماعي تأثر بالصراعات العسكرية، ما يعد دليلًا أثريًا نادرًا يشير إلى وجود هذا الكيان الاجتماعي في ذلك العصر.
يصور نص اللغة المصرية القديمة بالخط الهيروغليفي المتعلق بـ”إسرائيل” حالة دمار تام، باستخدام تعبيرات توحي بانقطاع النسل، مثل “مُحيت” و”بذرته لا وجود لها”. وإن الاختلاف في الترجمات تعكس التحديات المرتبطة بفهم وتأويل النصوص القديمة. جيمس هنري برستد ترجم تلك العبارة بأن “إسرائيل قد أقفرت، وبذرتها قد انقطعت”، في حين أن ف. ل. جريفيث يُشير في ترجمته إلى خسارة الموارد الزراعية بقوله “إسرائيل قد صارت قفرًا، ونفدت حبوبها”. بينما يُؤكد فلندرز بتري على الدمار المطلق بـ”إسرائيل قد دُمرت، ولم يعد لديها غلة”، و يعبر كينيث كيتشن عن الإبادة الكاملة بـ”إسرائيل قد مُحيت ولم يعد لها نسل”.
إن هذه الترجمات المتباينة تسلط الضوء على كيفية تأثير الفهم والتفسير في استنباط المعاني من النصوص القديمة، حيث تعكس كل ترجمة منظورًا معينًا وتختار مفردات تُؤدي إلى تصورات مختلفة حول الأحداث التاريخية. يبرز هذا التحديات الفلسفية والعلمية في تفسير الآثار بطريقة دقيقة وموضوعية، مما يُطرح السؤال حول كيفية التوفيق بين التحليل العلمي والاعتبارات الدينية في تقديم فهم شامل للتاريخ.
لتحقيق حوار بنّاء ومثمر بين المتدينين والأثريين، يجب تأسيس النقاش على التواضع الفكري والفضول العلمي. إن الاعتراف بأن معرفتنا محدودة ومفتوحة للتحديث يعتبر خطوة أساسية لفتح أبواب التفاهم المتبادل. يتطلب التواضع الفكري من كلا الطرفين الاعتراف بأن الفهم الكامل للحقائق قد يكون خارج متناولنا، مما يعزز الانفتاح لقبول أدلة ووجهات نظر جديدة. لعل استخدام منهجية الفينومينولوجيا لمقاربة الأدلة بدون أحكام مسبقة يمكن أن يسهل الفهم الموضوعي للنصوص والأحداث الدينية والتاريخية. يجب أن يشجع الفضول العلمي على الاستقصاء والتفتح لإعادة التقييم الدائم للفهم المعاصر، خاصة في مواجهة الأدلة الأثرية الجديدة التي قد تؤثر على التفسيرات التقليدية. يمكن لندوات المناقشة أن تكون فعالة في تجميع المتدينين والأثريين لمناقشة تفسيرات الأدلة الأثرية، مما يعزز فهم كل طرف لوجهات نظر الآخر. التواضع الفكري والفضول العلمي هما مفتاح تعزيز التفاهم الأعمق بين المتدينين والعقلانيين، مما يؤدي إلى تحسين الفهم المشترك واحترام التنوع الثقافي والديني.
المراجع باللغة العربية:
1- إدموند هوسرل، “الفلسفة علما دقيقا”، ترجمة محمود رجب, المجلس الأعلى للثقافة، 2002
2- إدموند هوسرل، “فكرة الفينومينولوجيا”، ترجمة فتحي إنقزو، المنظمة العربية للترجمة, 2007
3- إدموند هوسرل،”مباحث منطقية، مباحث في الفينومينولوجيا ونظرية المعرفة”، ترجمة موسى وهبى، المركز الثقافي العربي، 2010.
4- برتراند راسل، “النظرة العلمية”، ترجمة عثمان نويه، دار المدى للثقافة والنشر، 2008
5- سليم حسن، “موسوعة مصر القديمة (الجزء السابع)”، مكتبة الأسرة – الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000
6- يُمنى طريف الخولي، “فلسفة العلم في القرن العشرين”، سلسلة عالم المعرفة، العدد 264، 2000
المراجع باللغة الألمانية:
1. Edmund Husserl, “Die Phänomenologie des Geistes”, Verlag: Felix Meiner, 1952 .
2. Karl Popper, “Logik der Forschung”, Verlag: Mohr Siebeck, 1934.
3. Wolfgang Helck, “Geschichte der pharaonischen Ägypten”, Verlag: Brill, 1981.
المراجع باللغة الإنجليزية:
1. Michael G. Hasel, “The Merenptah Stele and Early ‘Israel’”, Vetus Testamentum, 1994.
2. Miriam Lichtheim, “Ancient Egyptian Literature, Volume II: The New Kingdom”, University of California Press, 1976.
3. Maurice Merleau-Ponty, “Phenomenology of Perception”, Routledge & Kegan Paul, 1962.
4. Bertrand Russell, “The Problems of Philosophy”, Oxford University Press, 1912.