مزوار الأدريسي | المغرب
يطرق الكاتب الليبي محمد الأصفر مواضيع طريفة في رواياته العديدة. هكذا يجد القارئ نفسَه دوماً يصادف اللا متوقَّع في نصوصه، وهذا هو الانطباع الذي قد ينتهي إليه قرّاء روايته الجديدة “شجرة القلائد” (“دار الفرجاني”، 2024) التي تحفل بمداخل مختلفة تجعل الرواية مفتوحة على تأويلات غير نهائية، وذاك شأن الروايات الأصيلة والمجدِّدة في الوقت ذاته.
تتّسم “شجرة القلائد” بأحداث متسارعة في أمكنة متعدّدة هي ليبيا والمغرب والتشاد، وبتشويق يشدّنا إلى مواصلة القراءة رغبة في اكتشاف الآتي، الذي تشغلُه حكايات غرامية بتجاربها المختلفة، ووقائع إرهابية، وعاداتٌ اجتماعية، وأوضاع سياسية، ومعطياتٌ أنثروبولوجية، ومواقف فنّية (عشق العيط والزجل والغناء)، وأحداثٌ غير متوقَّعة، ناهيك عن استعراض فقرات من السرد الأسطوري والديني وحلقات من التاريخ.
تبدأ الرواية بوقوف مُسِنّات عند شجرة، يرقصن على زقزقات عصافير، وبانتباه هارون، الذي كان يشاركهنّ رقصهنّ، إلى هُدهُد حطّ خلفه، وكان قد طفق يُكرّر حرف الشين، فرجّح أن تكون مرّاكش هي المقصودة، لعلاقة سابقة له مع مَوجة، الفتاة التي ربطته بها علاقة غرامية حديثة، لتنطلق الأحداث العجيبة، التي يحضر فيها العجائبي بقوّة، فالهُدهُد اشترطتهُ “شوّافة”، أي عرّافة، بجامع الفنا في مرّاكش وكانت جاسوسة في الوقت ذاته، لإحضار هارون. حصلت الفتاة على مرادها، لكن شرط أن تحتفظ الشوّافة بقلادة ذهبية كانت تُطوّق عُنق موجة، وكان هارون قد أهداها لخطيبته، وقبلَها قال لها: “خلّيها في رقبتك دائماً، فتأثيرها في النفس مُبهج ومبدّد للأحزان”، وهو بدوره حصل عليها هدية من المُطربة الشعبية في بنغازي الحاجّة خديجة الفونشة الملقَّبة بالوردة الليبية.
طالع أيضا: شجرة القلائد .. للكاتب محمد الأصفر
هكذا تكون حكاية القلادة قصّة داخل قصّة، على غرار لُعبة الدُّمى الروسية. تُقدّم الرواية نفسها بصفتها “ماتريوشكا”؛ فالحكايات داخلها تتوالد بشكل سريع، لكنّ اللافت فيها هو حكاية شجرة القلائد، التي شكّلها فنّانٌ تشادي يُدعى بَرَكة من قلائد جنود ليبيّين من ضحايا حرب ليبيا القذافي على تشاد. كانت القلائد تحمل أسماءَهم وأرقامهم، فصهرها بَرَكة وصنع منها شجرة فنّية ضخمة، ستُحمل في شاحنة ملحمية إلى ليبيا، وبتواطُؤات وحيل كثيرة كُتب لها أن تُنصب على رأس جبل، لتتحوّل إلى مَعلم فنّي يقصده الزوّار، في عهد القذافي، ثمّ لن يتأخّر بها الزمان كثيراً، إذ ستغدو مزاراً، وبعدها ستعود أدراجها إلى تشاد، لتُصهر مجدَّداً، وتُصنع منها قلائد للجنود الذين قضوا في حرب عبثية، حتى كأنّنا مع فكرة العود الأبدي النتشوية.
وتلفت شخصية المغربية موجة، زوجة هارون، النظر بحضورها القويّ، فهي بخبرتها في العمل بالسياحة، أفلحت في اقتراح مشاريع سياحية، وفي أن تخوضها محلّياً في ليبيا وفي المغرب، بل والمشاركة في رالي داكار، وفي اقتراح فكرة شجرة القلائد، وغيرها من الاقتراحات الأُخرى، ما يجعلنا نقول إنّ الرواية تصدر عن وعي نسوي واضح، يُؤكّده خطابُها من خلال شخصيتين أُخريين فاعلتَين في أحداث الرواية هما الشوّافة وسليمة، دون نسيان الدور الذي قام به هارون وسليم في تبنّيهما مبادرات النساء، بإسهامهما في تفعيلها لإنجاحها.
ويبرز الخطاب السياسي في شجرة القلائد، لأنّها اهتمّت بإبراز العطب السياسي الليبي في عهد القذافي، من خلال وصف المضايقات والملاحقات البوليسية المجّانية لكل من يخالف رأي النظام الحاكم، والتنديد بحربه على تشاد، مثلما نادت إلى التضامن المغاربي، الذي تجلّى في الزواج بين الليبي هارون والمغربية موجة. وتبقى الفكرة التي تستدعي السبر والإبراز أكثر في هذه الرواية، حسب ما أرى، هي فكرة “اللَّمس” في تجلّياتها المختلفة، التي منها أنّ “تأثيرها في النفس مبهج ومبدّد للأحزان” إلى تشبّث زوّار شجرة القلائد بلمسها طلباً لبركة مرتجاة، وهو أمرٌ يقتضي بحثاً أدقّ وأعمق.
العربي الجديد | 28 مايو 2024
* أكاديمي ومترجم من المغرب