منذ مطالعتي نصوصها الشعرية المبكرة الصادرة سنة 2020م بديوانها الأول (ناسكة) (1) استوقفتني عند الشاعرة آمنة محمد علي الأوجلي المفردة الرقيقة والألفاظ اللغوية المفعمة بالحيوية، والزاخرة بإيقاع متفاوت الرنين. فاللفظ ووقعه الآسر يعتبر العنصر الأساسي الذي يلفت أذن السامع ويهز كيانه، كما ينقل أحاسيس الشاعرة بدقة، ويؤثث فكرتها بكل صورها الفنية وتعبيراتها البلاغية، وبالتالي فإن اختيار الألفاظ بعناية فائقة يُحسب لهذه الشاعرة في نسجها لوحات صورها الفنية بكل ثنايا أبعادها الدلالية والإيقاعية المؤثرة في نفس القارئ ووجدانه، والمستفزة لفكره ومشاعره، وهو ما يخلق التفاعل والانسجام المشترك بينهما:
(بِلاَ جُبْنٍ أَسيرُ
عَلَى هَاويةِ الخَوْفِ
وَأَزِيزُ الجَمْرِ يُغْوِينِي
مُغَمَّضَةُ العَينينِ
أَمُدُّ يَدِي إِلى ثَرَائِكَ الفَاحِش
وَلَوَامِسُ جُزُرِي المَنْسِّيَةِ
تَفْغُـرُ فَاهَا
لِغَدَقِ زَبَدِكْ)(2)
ويبدو قاموس الشاعرة اللغوي متجاوزاً المعجم الشعري التقليدي القديم حيث انصبغت مفردات وتعبيرات نصوصها الشعرية بلغة حداثوية معاصرة فبدت كحديقة زاخرة بتنوعها اللفظي المبهج المزدان بالرقة والعذوبة، إضافة إلى البساطة والوضوح حد التعري المطلق من كل غموض أو غرائبية أو تباين في الفهم والدلالة، سواء على مستوى الكلمة المفردة اسما وفعلاً وحرفاً وضميراً، أو على مستوى البنية العامة لسمات وخصائص الصورة الشعرية. كما حافظت في نصوصها على ظهور أسلوب الخطاب التفاعلي بين الذات الشاعرة المتكلمة “المرسلة” وأذن المتلقي “المستقبلة” فظل ذلك أبرز الأصوات الثنائية المتناغمة المحاورة ضمنياً أو الصريحة المباشرة بكل صيغها التعبيرية الوصفية أو الاستفزازية والاستفهامية التي تحفز المتلقي للتدبر والتمعن في مضمون الصورة الفنية التي تجسدها اللغة الشعرية أو تستحثه على الغوص فيها بالتأمل والتدبر الفكري والتفاعل الوجداني العاطفي معها:
(كَيْفَ أُجَابِهُ طَوَاحِينَ هَمْسِكَ
يَزْرَعُنِي غَابَاتِ بَنَفْسَج
يَتْرَعُ تَبَارِيحَ لَيْلِيَّ المَهْزُوم؟
كَيْفَ أَقِفُ عَلى نِيَاطِ أَوْرِدَتِي
وَأُغْلِقُ عَيْنَيَّ
وَأُكَذِّبُ أَجْرَاسَ الحَنِينِ
المُنْزَرِعَةِ بِأَوْصَالِي؟
مُثْقَلَةٌ أَنَا بِكَ)(3)
وعند تأمل موضوعات ومضامين نصوص الشاعرة آمنة الأوجلي نجد أن أغلبها يعكس الوضع النفسي لذاتها الإنسانية وما تكابده من معايشات واضطرابات وقلق ولهفة وفراغ ورغبة وجرأة وحنين وفلسفة ورؤى فكرية، وقد امتلكت بكل هذه البانوراما الواقعية مقدرة على تحريك مشاعر المتلقي واختراقها، ومن ثم إشراكه في التفاعل مع نصها الشعري الرقيق سواء سلباً أو إيجاباً، وهي في هذا لا تختلف عن غيرها من الشاعرات الأخريات اللاتي جعلن النص الشعري الحديث فضاءً للبوح والتنفيس عن الهموم الشخصية وتسجيل بعض المواقف الخاصة عبر إبداعاتهن الشعرية والتي ظلت في معظمها بعيدة عن قضايا الجندرة والوطنية والصراعات الفكرية والسياسية في المجتمع العربي. وها هي نراها هنا تهتف بصوت المنادي ولسان فعل الأمر والطلب والتمني علانية بكل رغباتها ومشاعرها المتلهفة التي يزيدها التكرار تأكيداً وتصريحاً وإيقاعاً وجاذبيةً:
(أُسْكُنِّي
تُلَوِّكُنِي دَهَالِيزُ الوَحْشَةِ
يَنْهَشُنِي التَّوْقُ.
أُسْكُنِّي
وَأطْفِئ غَارَاتِ الشَّوْقِ المَجْنُونَةِ
وَأَلْثِمْ أَصْقَاعَ ثَغْـرِي.
أُسْكُنِّي
قَبْلَ أَنْ يَتَلاشَى عِطْرِي
أزْهِرْنِي
جُلناراً بَنَفْسَجاً
جُزَرَ أُورْكِيد
تَتَغَشَّانِي مَلاَمِحُك
وَتَتَسَلَّقُ أَهْدَابِي أَنْفَاسَ
شَغَبِك
يَا مَطَرِيَّ الهَارِب
سُكْنَاكَ بِي اِنْبِعَاثِي)(4).
وبالرغم من أهمية الزمن في حياتنا عامة وانعكاساته أثناء ولادة النص الشعري على وجه الخصوص، فإننا لا نكاد نجد له أي ملمح لافت في نصوص الشاعرة آمنة الأوجلي، حتى كأنها لا تعترف بظلاله أو بصماته أو مؤثراته خلال لحظات الإلهام الشعري، ليغيب بالتالي كلياً عن نصوصها جاعلاً سياقاتها براحاً مفتوحاً أمام أبعاده الثلاثية، الماضي والحاضر والآتي، لتؤكد بذلك التوجه الطوعي أو العفوي، استمرارية الحياة في النص الشعري بكل تجلياتها ممثلة في إنسانيته وقيمه التي تنبعث وتتفاعل في الحاضر بعمق الماضي ليتبلور من رحمها المستقبل بجميع أطيافه:
(أَعِدْنِي إِلَى نِصَابِي..
فَالعُمْرُ حُضْنٌ غَامِرٌ
وَيَدَان تُدَفِّئ وَجْنَتَيَّ
وَقَمَرٌ يُعَانِقُ صَبْوَتِي
وَيَبَابِي)(5)
ولما كان الإيقاع من العناصر البنائية للنص الشعري وهو الجرس الذي ينبعث من مقدرة تشكيل وتموضع الحرف والكلمة والجملة والعبارة على إفراز النغم الموسيقي الخفي أو الظاهر، وما يثيره من سحر وجاذبية وهيام وتشويق لترسيخ المضمون الموضوعي للنص وفكرته الأساسية، فإننا نلاحظ بوضوح هوس الشاعرة بالإيقاع وموسيقى النص حتى يبدو ثقيلاً ومنحرفاً أحياناً عن أوزانه ومقاماته الموسيقية السليمة. وكل هذا يؤكد بأن قراءة بسيطة لعدد من نصوص الشاعرة تكشف أن قاموسها اللغوي ومفردات ألفاظها لديها القدرة الواثقة على التأثير والتفاعل في الآخر، وذلك بما تكتنزه من دقة تشكيل الصورة الفنية وبلاغتها المكثفة وموسيقاها الرقيقة.
(2)
نشرت الشاعرة آمنة الأوجلي بتاريخ 14 أغسطس 2022م على صفحتها بموقع الفيس بوك نصاً جميلاً بعنوان “زَمَنُ البُكَاء”، والذي ظهر هيكله البنائي متأسساً على خمسة مقاطع تتعامد بسطور قليلة لتترابط إيقاعياً بموسيقى التسكين الخافتة والطافحة بالشجن، تستهله بالإقرار أنها أثناء زمن بائس اتسم بالبكاء تحتاج لذاك الطيف المجهول الذي تخاطبه بروح تتوشح بالإحباط وهي تلاحق سنوات العمر المتطاير. وقد جاء المقطع الأول بليغاً مكثفاً في ثلاثة أسطر، يكاد كل سطر فيها، بما احتواه من ألفاظ قليلة محدودة، يشكلُ قصيدةً مستقلة بكامل معناها الدلالي وهيكلها الفني زادته الموسيقى الظاهرة المنبعثة من قافيته والمغمورة بثنايا روحه ألقاً وتوطيناً في وجدان المتلقي:
أَحْتَجْتُـــكَ زَمنَ البُكاءْ
والعُمرُ يَركُضُ لاَ رَجَاءْ
والصَّبرُ موتْ
أما المقطع الثاني فهو لا يختلف كثيراً في مضمونه عن سابقه، حيث يتكرر صوت الذات الشاعرة بنفس تقنية البنية الشعرية، وكذلك نغم التسكين الموسيقي الذي جعلته إيقاعاً لكامل النصّ ورابطاً بين أجزاءه مجتمعةً:
وَجَعِي تَمَدَّدَ مَا انْطَوَى
وَاللَّيلُ فِي جَفْنِي رَدَى
تَاهَتْ خُطَاكَ فِي السَّرابِ
وَمَا دَنَوْتْ
في المقطع الثالث تتكرر مجدداً لفظة (أَحْتَجْتُـــكَ) لتمنح تأكيداً إضافياً لمضمون النصّ وإعلان البوح، مع بروز الإيقاع بشكل أكثر وضوحاً من المقطعين الأولين، وجمالية إعادة تكرار خاتمته بنفس العبارة (كَمْ قَسَوتْ) لتعزيز صدقية المشاعر ومدى وقعها وتأثيرها القاسي على الذات الناطقة بحسها الشعري المرهف:
أَحْتَجْتُـــكَ فِي عَصْفِ الجِرَاحْ
وَاللَّيلُ تَصْفَعُهُ الرِّيَاحْ
وَقَوَافِلُ الأَشْوَاقِ تَنْشُجُ فِي دَمِي
سَوْسَنةً تَهْفُو لِحُضْنِكَ
كَمْ قَسَوْتْ
كَمْ قَسَوْتْ
في المقطع الرابع ترتفع وتيرة الشاعرة في التعبير عن أحزانها حين ينطلق صوتها بأسلوب النداء الموجع متكرراً في السطرين الأولين (يَا أَنِينَ قَصَائِدِي) و(يَا تَمِيمَةَ قَدَرِيَ المَعْطُوبْ) لتصوير معاناتها (فِي قَيْظِ جَحِيمِكَ أَرْتَمِي) و(يَغْتَالُنِي نَصْلُ غُرُورِكَ) وهي تكابد كل ذلك بالخنوع والاستلام في كتمان وصمت مطبق:
يَا أَنِينَ قَصَائِدِي
يَا تَمِيمَةَ قَدَرِيَ المَعْطُوبْ
فِي قَيْظِ جَحِيمِكَ أَرْتَمِي
يَغْتَالُنِي نَصْلُ غُرُورِكَ
وَالسُّكُوتْ
في المقطع الخامس والأخير يغادر الصخب والبوح الانفعالي سطور النص ليحل بدله بعض الهدوء النفسي، حين تلتقط الشاعرة أنفاسها وتغزل من قاموس ألفاظها الثري البسيط الواضح، وصفاً جميلاً لصيرورتها بعد عاصفة المعاناة القاسية بما فيها من رعود مدوية واغتراب داخلي وسيول دامعة، فترسم صورة فنية تجمع بين الفرح وبهجة الشوق في الحنين إلى (الأغنيات) والحزن العميق الذي تجسده (أمطار الدمع) غايتها انتزاع طرف ابتسامة، وهي كناية عن توقها للحبور والمسرة والرضى والسعادة، ولكنها بدلاً من ذلك لا تحصد سوى اللعنات والخيبات، ولم تنجو من ظلم طيف شخصيتها المحورية المتفاعلة مع ذاتها الشاعرة والمخاطبة طوال النص، لتجعل الخاتمة ملبدة بالألم والوجع مع إيقاعها الرتيب في سطريها الأخيرين بكل ما لفه من حزن وشجن ونفس انغمست في القتامة والسواد، وهي تذرف دموعاً صامتة تتهاطل من عينيها وقلبها معاً مرددة بتكرار جياش وحزين (بِرَجِيمِ غَـيِّــكَ مِا نِجَوْتْ):
مَرْصُودَةٌ بِعَيْنَيْكِ أَهْذِي حُلُماً
مَسْكُونَةٌ بِحَنِينِ الأُغْنِيَاتْ
وَأَمْطَارِ دَمْعٍ
أَسْتَلُّ مِنْ شَفَتَيْكَ ذُؤاَبةَ اِبْتِسَامَةٍ
بِرَجِيمِ غَـيِّــكَ مِا نِجَوْتْ
بِرَجِيمِ غَـيِّــكَ مِا نِجَوْت.
(3)
يمكن اعتبار (زمن البكاء) قصيدة اللحظة الخاطفة التي استطاعت الشاعرة آمنة الأوجلي القبض عليها وتوطينها بدفقة وجدانية سريعة مكثفة، مفعمة بالإحساس الشعوري والأدوات الفنية التعبيرية من وصف بليغ وموسيقى آسرة وبناء تصويري جميل، وهو ما يجعلها دفقة شعرية تمتلك أهم الأركان البنائية التي ترتكز عليها القصيدة الشعرية والمتمثلة في اكتنازها روح الشعر والإحساس المفعم بفكرة النص، أو كما يمثلها بعض النقاد (الكون الشعري) المعبأ بقدرة المفردة اللغوية على التعبير عن رؤية وفكر مبدعها ونقل رهافة مشاعره وأحاسيسه، ومن ثم مدى تمكن الصورة الشعرية المنسوجة من اقناع المتلقي بالنص المتخلق والتفاعل مع كيانه واستيطانها فكره ووجدانه.
لا أنكر أن كثيراً من النصوص الشعرية الحديثة تكتظ بتركيبات المفردات اللغوية الجميلة والايقاعية الرنانة الممتعة التي تتراص بأشكال مختلفة البناء، سواء كانت عمودية تنازلية أو أفقية أو متقطعة او منفصلة بنقط، أو استفهامية أو حوارية أو جوابية أو وصفية أو غيرها، ولكن يظل أهم عنصر في النص الشعري غائباً عنها، ولا يظهر في ذلك التشكيل اللغوي ليبدو أغلبها مثل بعثرة علبة ألوان مائية متنوعة على سطح رقعة معينة، ظناً أن اختلاطها يخلق لوحة فنية تشكيلية تحمل رسالة هادفة، ولكن نصوص الشاعرة آمنة الأوجلي تحمل جينات مختلفة وتزرع جناناً متنوعة وبديعة على مستوى المفردة اللفظية بكل بساطتها ورشاقتها الايقاعية وما تبعثه في النص من روح تتراقص بموسيقاه، وكذلك مضمونها الذي يوثق زفرات أنثوية تتصارع مع مكابدات الحياة في كل زمن وفضاء.
هوامش
(1) ناسكة، شعر، آمنة محمد علي الأوجلي، مؤسسة النيل والفرات للطبع والنشر والتوزيع، مصر، الطبعة الأولى، 2020م
(2) المصدر السابق، مسقط خصبي، ص 80
(3) نفس المصدر السابق، ص 74
(4) جزء من نصها (أسكني) ضمن مخطوط ديوانها الثاني (على قافية الدمع)
(5) جزء من نص لها منشور بصفحتها على الفيس بوك