ثمة أسئلة يطوف بها الجدل على رأي ورأي نقيض, دون أن يكون لهذا الجدل مرفأ نهائي عند فكرة بعينها, ومن ثم جدلية الذوق الإنساني, ولعلَّ هذا حكمة الكتابة الشائهة لرصد الحياة بوصفها طيفا من أطياف الذوق.
من ذلك مثلا مصطلحات وتجنيسات يحفل بها عالم الكتابة, كالأدب الصوفي أو النسوي أو المغاربي أو.. غير ذلك من تصنيفات وتقسيمات تعتمد على الجغرافيا أو الجنس أو الموضوع أو..إلخ.. وإذا ما انطلقنا من أن فكرة الكتابة كونها كتابة وحسب, فمن الأكيد أن هذه المسميَّات تتداعى للسقوط, ودفعة واحدة لحظة العرض على متلقٍ لا تعنيه تصنيفات النقاد الجغرافيين أو النقاد التاريخيين أو.. في عالم الأدب بقدر تذوقه لنصٍ حقيقي..ولعلَّ هذا الانطباع ما جعلني انشغل في قراءتي الثانية لديوان الشاعر محمد المزوغي [ما تبقى من سيرة الوجد], بهذا الموضوع, حيث أن كل نصٍ من نصوصه الأربعة والعشرين لا يمكن إدراجها إذا ما تم الأخذ بتصنيفات النقاد خارج نطاق الأدب الصوفي, بل حتى العنوان والإهداء سُخَّرا لخدمة هذا الاتجاه, فالعنوان [ما تبقى من سيرة الوجد], فـ [سيرة الوجد] دلالة مباشرة على أن ثمة تجربة صوفية ألمّت بالشاعر, فظلَّ يكدُّ في معانقة فيوضها, باحثا من خلالها عن شطآن الخلاص, و[ما تبقى] إشارة إلى الزهد والضياع الذي يلتقيه الصوفي في حياته, والقصائد الأربعة والعشرون, والمكتوبة خلال عشرين عاما هي ما تبقى صدفة, وليس عن نيّة مسبقة من هذه التجربة, أما الإهداء فهو بالصيغة التالية [ منه وإليه ], وهو إهداء رفيع له إمكانية إيجاز كل شئ في كلمتين فقط, وكل شئ في الديوان يذهب إلى تأكيد التجربة حتى من اسم دار النشر التي على ما يبدو من تأسيس الشاعر نفسه والمسمّاة بدار المخطوط العربي, وكذلك بإخراج فني له الأثر الحاسم في السعي مع المتن لأداء الوظيفة المعدّة له من قبل شاعر لم يتورط ديوانه في الإنشاء والتعبير, ورغم أن القصيدة الغنائية لطالما تقع في هذا المحظور الكارثي على حساب الشعرية, إلا أن الشاعر المزوغي قد نقش كل كلمة بحرفة واضحة, وقد كلّفه ذلك وقتا طويلا..لكنه على أي حال قد نقش فسيفساءه بفنٍ خالص, والهفوة الوحيدة والصغيرة في آن إثباته لمدخل يقول فيه أن قصائده تشكل – باستثناء بعضها – نصا واحدا متعدد الرؤى يرصد ملامح تجربة من السهل التعرف إليها عبر قصائد الديوان, التجربة – حسب قوله- لم تنته بعد, ولعلّها لا تنتهي أبدا..
إنه لم يكن بحاجة إلى هذا الإلحاح عبر مدخل إنشائي وغير ضروري, فكل شيء كان يقول هذا وبلغة الشعر وآدابه.
الفضاء الشعري عبر الديوان ينحصر في حدود التلويح بالعشق الإلهي في مرحلة الزهد وبداية التصوف الإسلامي خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين, فالخطاب غاية في التأدب واللغة سبكٌ من الرومانسية, وكل شئ يتبع قواعد وأصول:
لا أستبيح الكأس أهدت
رشفةً لسواي
أتبع في الغرام أصولا
إن لم أجد حسنا
ألوذ بظلّهِ.
وهدف كل قصيدة من قصائد الديوان هو رصد نقطة على محيط دائرة مركزها ثلاثة أبيات من القرن الهجري الثاني, كانت قد جرت على لسان رابعة العدويّة نفسها, والأبيات:
أحبك حبين: حب الهوى
وحبا لأنك أهـل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك لـي الحجب أراكا
والديوان يؤهل متلقيه للقاء متصوف بهيئة الزهّاد العابدين المعتدلين الذين تخرجوا في مدارس الفقه السنّي, والشاعر المزوغي كأحد رجال الدعوة الإسلامية حياةً وشعرا قد وقف بمنأى عن أدبيات التصوف التي تدور حول رمز الخمر والأنثى والطبيعة, بل وجّه انتقاده اللاذع للمدّعين عبر منشور شعري تضمنته قصيدة [ليلى والمدعون], وكل ما يمكن رصده من رموز يكمن في رمز ليلى العامرية- شاهدة الحب الإلهي-, وقصة النبي موسى كليم الله بالوادي المقدس, والاقتراب من مفهوم الاتحاد والفناء في الذات الإلهية.
رمز ليلى العامرية:
من أدبيات التصوف التقليدية الوقوف عند ليلى العامرية, ومخاطبتها كعلامة للتجربة الروحية وكشاهدة لمواجيد المحبة الإلهية, من ذلك مثلا:
قول ابن الفارض:
أم تلك ليلى العامريّة أسفَرت
ليلا فصيّرت المساء صباحا
وقوله أيضا:
سلامٌ على تلك المعاهد من فتىً
على حفظ عهد العامريّة ما فتى
وعند الشبلي:
لقد فُضّلت ليلى عن الناس كالتي
على ألف شهر فُضِّلت ليلةُ القدر
أما عند أبي العباس المرسي:
أعندك من ليلى حديثٌ محرّرٌ
بإيراده يحيا الرميمُ وينشرُ
فعهدي بها العهد القديم وإنني
على كلّ حالٍ في هواها مقصّرٌ
إذن هي التجربة التي تتخذ من ليلى اسما لحالتها, ورمزا لسياحاتها وأسفارها في عالم الرؤيا والمشاهدة, وبالتالي اكتسب هذا الرمز أبديته في أناشيد الذين سكروا من خمرة المعرفة, وتلفّعوا بالحقيقة والكشف, والمزوغي الشاعر الذي صفّف أشعاره في ديوان عند مطلع القرن الواحد والعشرين, إنما ينتصر لأبدية رمز مفصل في تاريخ الحياة الروحية للإسلام, في قصيدته ليلى والمدعون يؤكد ما أشرنا إليه آنفا, وتتصيّر ليلى كلمة التجربة, ونقطة الانطلاق لمساءلة أي مدّعي:
وقالوا خضنا بحر العشقِ
كيف تُرى وما ابتلّوا ؟!
أراهم يدّعون الوصل
يا ليلى وما وصلوا.
أما قصيدة مسافر يستدرك فيها بقوله:
أنا الجوّال تعرفني
كلّ المجرّات
أطويها وتطويني
وما بدا منكِ
لا شمسٌ ولا قمرٌ
سوى النداء الذي مازال يضنيني
يا شوقُ لم يخبُ رغم الجرح
بارقهُ
كأنما هو نبض في شراييني
إن لم تكن في دروب الوجد
لي قمرا
يروي حكاياه
عن ليلى ويهديني
عند ذروة يأسه من مرارة الفترة التاريخية التي تمر بها الأمة الإسلامية والعربية يتخذ من عذرية ليلى معيارا لذلك:
وتبخرت في عشقه الأقوال
وتزوجت ليلى
وعزة مزقت
كل القصائد فالهوى أطلال
هذا زمان فيه تنتكس الرؤى
وتثور فيه على الشخوص
ظلال.
الذي يستوقفني هنا أن هذا الرمز لم يتعرض لخلخة أو إضافات, بل حافظ على إحداثياته التقليدية في ذهنية القصيدة التي انشغلت منذ البداية برصد التجربة الصوفية وتجلياتها, وهذا ظلَّ مرتهنا بتجربة الشاعر نفسه, والمخلصة تماما لأدبيات الزهد الأولى!.
الرمز الثاني الذي يمكن رصده عبر قصائد الديوان هو قصة موسى بالوادي المقدس, والتي تتحول فيها النار التي أنسها موسى إلى رمز للوجود الإلهي, وبمراجعة أحداثها الرئيسية كما وردت في الآيات من( 9- 14) من سورة طه يمكن ذكرها على النحو التالي:
– مشاهدة النار والسعي نحو استجلائها.
– اختيار الله ولايته لموسى- النبوة.
– أمر الله – عز وجل- لموسى لخلع النعلين.
– الأمر بالعبادة.
وكما هو معروف أن التجربة الصوفية هي استحضار دائم لتجربة النبوة سواءً كانت هذه النبوة نبوة محمد – عليه السلام- أو عيسى أو موسى, ورغم أن الصوفية احتفلوا بقصة موسى مع الخِدر لأنها تُعد انتصارا لما يعتبرونه بالعلم العرفاني مقابل العلم النبوي, وأن الولاية مكملة للنبوة..وإلخ هذه الطروحات الفكرية, غير أن ما يمكن رصده في [ما تبقى من سيرة الوجد] هو حادثة خلع النعلين وحسب, وهذه كانت على الدوام مثار اهتمام الصوفيّة حتى أن أبا القاسم بن قسيّ –شيخ طائفة المريدين بالأندلس-ألّف كتابا بعنوان [خلع النعلين], لنتأمل:
– يدعوك العشقُ
أبارك معراجك فاصعد
واخلع نعليك فلا يولد أحد منتعلا.
*( ص:70- نص: لا يولد أحد منتعلا)
-ولا أمنُّ
فلولاه لما احتملت
نعلي السٌّري
حين جفَّ الملح في شفتي.
*(ص:53- نص: ليلٌ يحدّق في وجهي)
– يفئُ العاشقون إليها
صادٍ تمزق نعله
في إثر صادِ
ويرتحلون والأشواق زهدٌ
يكحل طرفه جمرُ العناد.
*(ص:44-45- نص:جمر في كف الرماد)
الذي يمكن ملاحظته أن خلع النعل- كما تم استحضاره من قصة موسى بالوادي المقدس إلى قصة الصوفي بوادي العشق والفناء والاستغراق للذات وبالذات – هي العلامة الظاهرة والفاصلة بين حياتين, حياة قبل الولاية, وحياة الولاية.
وثمة مقطع من قصيدة [جمر في كف الرماد] أحب انتشاله وإثباته هنا لأنه يوجز أدبيات التصوف ومفهوماته حسب عقل الشاعر وإدراكه لها:
أنا صحوٌ
تراوده كؤوس
ليفنى في مسافات المُراد
وأنت العشق
والعشّاقُ أنتِ
وأنت القُربُ في عين البعاد
أجيئُكِ أم أجئُ إليَّ
حارت رؤى فَرقي
على باب اتحادي
فإن تطوي الحقيقةُ
فيك وهمي
ويشهد خلعي النعلين وادِ
فبعد الغيم قد تُجلى شموسٌ
ويصحو الجمرُ
في كفّ الرّماد.
بهذا في ركب المحبة يلتحق محمد المزوغي شعرا عبر براق [ما تبقى من سيرة الوجد], وهو براق أبدي له صفة معاندة المستقبل بصوت يقدح من كأس الحقيقة محققا خطوة نحو ما أشار إليه كولن ولسن من أن التجربة الصوفية أو الشعرية تنطوي على إزاحة النفايات التي تميل إلى أن تتراكم حين نسمح للوعي أن يظلَّ سلبيا مدة أطول مما ينبغي.
ينتصر التصوف شعرا عبر أربع وعشرين غنائية مذّكرة برمز عددي يشير لساعات اليوم, وكأن كل قصيدة مجلى من مجالي الحقيقة والتي لها ميقاتها المعلوم والذي يستحيل كشف فتنتها دونه, ورغم أن الرمز ظلَّ محدود الأماني عبر الديوان غير أن ما يشدّني هو طموح التلويح والقول والإشارة لتجربة صوفية نمت هنا في ليبيا, فنحن المغاربة, وعلى الأخص الليبيين ظلَّ التصوف لدينا يغلب عليه طابع الدروشة بخلاف المشارقة الذين جسّدوه فكرا ونظرية, ومحمد المزوغي كأحد الممارسين للكتابة الشعرية مقتربا من العرفان فكرا فهو إنما يجدد أفقا للشعر الليبي ويقاسمه في ذلك عدد ليس بالكثير ممن تتحرك قرائحهم لقول العرفان والتشابك مع محنه وانجرافاته. الديوان رغم كل شئ اقتراح له أن يستأنس لنا السماء مجددا عبر الفيوض والخيال المفعم بالجمال في زمن التقانة, ويستأنس لنا الأرض مرة أخرى عبر التكايا والعزلة, وإذا كان القول الأول للمزوغي ما تبقى من سيرة الوجد, فأرجو أن تكون البقيّة منهلا متواصلا, وأن هذه البقيّة لمنها قبضة من أثر شعر.