نفخرُّ ونعتزُّ دائماً، بالأوابدِ والآثار المعماريةِ التاريخيةِ القائمة في بلادِنا، وهي في الأصلِ، لغيرنا من الأقوام، التي حلَّت بأرضِنا، عبر محطاتٍ وفتراتٍ متفرِّقاتٍ من التاريخ الغابر والمُعاصِر كذلك، فقد حطَّ على أرضِنا الليبيةِ، وكما تعرفون، عديدُ الأقوامِ الغريبةِ عنـَّها، الذين استوطنوا أخصبَ وأهمَّ الأراضي فيها، وبنوا حضاراتِهم على أديمها، ونهلوا ونهبوا من خيراتِها، واستعبدوا أجدادَنا بالسخرةِ، لتشييد المُدنِ والقِلاع التـَّاريخية، التي بقت كتركة ٍ ثقيلةٍ على كاهلِها، فالحجارةُ التي أُنشِئت بها المُدنُ الإغريقية والرومانيةُ، هي لنا، والأيادي التي شيدتها، هي أيادي أجدادِنا، وعلى أرضنِا، أما طابعُها المعماريُّ، الذي ظهرت به، من مقابر ومعابد ومسارح وأنصابٍ تـُجسِّد ألهتهم، وتماثيل تـُمثـَّلُ قادتهم، فقد كانت جميعها، تـُعبَّر عن حضارات هذه الأقوام الوافدة على هذه الأرض، التي نحيا عليها، فلا تمُت لنا كشعبٍ عربيٍّ أصيلٍ، ومتأصلٍ فيه الإسلام إلى النخاع بأيةِ وشيجةٍ، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ البتَّة.
أما عن الحفرياتِ، التي تـُجريها الأطقمُ المُختصّة في علمِ الآثار، على هذه المعالم، هي في أصلِها ونسبـِها، تعودُ إلى تلك الأقوام المُتحدَث عنها بعاليه، ليس هذا وكفى، إذ أنَّ غالبية أفرادِ هذه البعثاتِ، التي تنبشُ في جوفِ أرضِنا، للكشفِ عن أيةِ بيناتٍ، لتمجدَ وتحفظ بها هذه الحضارات، يرجعُ نسبُها إلى بُناةِ هذه المواقعِ التي صارت مواقع سياحية.
و وقتما غزا الطليانُ الفاشستُ بلادَنا في عام 1911- كانوا يردِّدون دائماً عبارتِهم الشَّهيرة، التي داخل هذا الاقتباس: ” إنّ ليبيا تـُمثـَّل الشاطئ الرابع لإيطاليا ” وأظنُّ بأنّ مقولتهم هذه، مؤسسة ٌ على ما خلَّفه أسلافـُهم الرومانُ، من مُدن أثريةٍ على امتدادِ الشاطئ، وعلى عدِّةِ مواقع أخرى على الساحل الليبي – أي بدعوى – أنَّ لهم إرثاً حضارياً تاريخياً، تركه لهم الأولون، وأنَّ هذه البلادَ، لم تعرف أية حضارةٍ عدا حضارتهم، ما يوحي بأنهم أولُ من استوطن هذه الأماكن، وأنّ قبل مَجيئِهم إليها، لم يحدث أنْ وطأها أيُّ جنسٍ بشريٍّ، مُستدِلين بذلك، على أنَّ أغلبَ ما هو قائمٌ من أبنيةٍ قديمةٍ، يعودُ إلى الحضارةِ الرومانيةِ وبُناتِها، وهذه المرجعية نفسها، هي التي يحاولُ الصهاينة اعتمادَها، بل إنَّهم اتخذوها كمنهجيةٍ لتهويدِ الوجهِ الحضاريِّ لمدينةِ القدس العربيةِ، بعد أنْ عجزوا عن إثباتِ أيةِ حقيقةٍ تاريخيةٍ، تـُبيَّن أنَّ لهم وجوداً قديماً بها، وذلك بتنقيبـِهم المُستمِر عن هيكل ” سُليمان ” المزعوم (الصفة هنا للهيكل) عليه وعلى رسولنا الكريم الصلاة والسلام، وذلك منذ أنْ احتلوا مدينة (القدس) في عام 1967 – فهم بذلك يبتغون من هذا الصنيع، أنْ يُظّهـِروا، أنَّ لديهم جذوراً قديمة في التارخ، وضاربة في عمق هذه الأرض المُتنازَع عليها مع العربِ، وأنَّ ما فوقها هو لهم أيضاً، حال إثباتِهم لتلك الحقيقة التي يبحثون عنها، أمام كُلِّ المحافل الدوليةِ، ليقرَّ لهم العالمُ بأحقيّةِ هذه الأرض، التي اغتصبوها قهراً من العربِ، لكنْ هيهات لهم، فسوف لن يجدوها.
و في العصر الحديثِ، قام الاحتلالُ الاستيطاني الفاشستيُّ الإيطاليُّ، ببناءِ البيوتاتِ والميادين في أكبر مدينتين ليبيتين، هما (طرابلس وبنغازي) ولـَكم أستاءُ كلما مشيت في طـُراقاتِ وشوارع مدينتي (بنغازي) خصوصاً في مركزها، عند ما يُعرَفُ بمنطقة (ميدان البلدية سابقاً) و(البلاد) حيث تنتشرُ وتنتصبُ التـَّرِِكة ُ، التي خلَّفها وراءه هذه المستعمرُ البغيضُ، من أبنيةٍ إيطاليةٍ، شكلاً وعمارةً، فقد عمد المستوطنون الطليان، على صبغ هذه المباني بهويتِهم الأوربيةِ الطابع، وبهيأةٍ واضحةٍ ومُتعمَّدةٍ ؛ صحيحٌ أنَّ على الجِّهةِ الشَّرقيةِ من هذه المنطقةِ، حيث منطقة (الصابري واللثامة) توجدُ عديدُ المباني العامةِ، وأخرى تعودُ ملكيتـُها للمواطنين الليبيين، والأمرُ عينه، بالنسبةِ للمناطق الواقعةِ غربيّ هذه المباني الإيطالية، مثل منطقة (جليانة) وما يأتي في غربـِها من مناطق وأحياءٍ أخرى، إلا أنَّ فضلَ الأسبقيةِ، يعودُ لهذه المباني المُقامة في عهد الاحتلال الايطاليِّ، كما أنها تكتسبُ خاصية أخرى، تجعلـُها أكثر بروزاً، حيث إنَّها الأقربُ من الميناءِ البحري للمدينةِ، لأنَّه من المعلوم لدى الجميع، بأنَّ المُدنَ تـُقامُ بالقربِ من المرافئ البحريةِ، قبل أنْ تمتدَّ رقعتها الجغرافية إلى الداخل.
و إذا اتجهت غرب مدينة (بنغازي) ووصلت تحديداً إلى مدينة (طرابلس) حاضرة (ليبيا) سيتراءى لك، أنَّ الأمرَ أكثر استفحالاً ممَّا هو عليه في مدينة (بنغازي) وبالذاتِ في مركزها التجاريِّ، حيث إنَّ الشَّوارع الرئيسة، التي تصبُّ في (الساحة الخضراء) والمُفضيِّة إليها، وهي شارع (عمر المختار) و(أول سبتمبر) و(المقريف) تتّطبَّع جميعها بالمعمار الإيطالي في التصميم والصميم، مع أنَّ قاطني البيوت، التي تطلُّ على هذه الشوارع، مواطنون ليبيون، وأذكرُ أول ما أذكرُ، في إحدى زياراتي إلى مدينة (طرابلس) إنني خرجت ذات صباح من الفندق الذي كنت نزيلاً فيه، قبل مغادرتي بوقت قصير للمدينة، وجلست في أحدِ المقاهي الشعبيةِ الموجودةِ في المدينةِ القديمةِ، وتصادف وجودي فيه مع قدوم وفدٍ سياحي أجنبي، عرفت من خلال لغةِ أعضائِه بأنهم إيطاليون، وما إنْ رمقني أحدُهم بعينه، حتى طلب إليّ أنْ أقوم بتصويره، فلم أمانع إطلاقاً، انطلاقا من شهامتي العربية، التي تحثُّ على إيفادِ الضيفِ ومساعدتِه، والإغداق عليه بالكرم، فما ظنَّكم بهذه المساعدة التي سوف لن تكلفني شيئاً ؟ وسُرعان ما تلقفت منه عدسته الرقمية، وبعدما اقترحت عليه أنْ أصوّرَه بجانب مبنى (السراي الحمراء) التركي المنشأ والعمارة، رفض الإيطالي اقتراحي بأنفة، ثم أشار إليّ بأصبعه نحو جهةٍ أخرى، حسبته لحظتئذٍ، يُفضّلُ أنْ التقط له صورة عند الـ (الكورنيش) فخرجنا من الزقاق الذي كنت وإياه فيه، عند المقهى الشعبي تحديداً، ومضينا معاً، وما إنْ أفضنا إلى الساحةِ الخضراءِ، حتى وقف عند أحدِ المباني الإيطاليةِ القديمةِ، التي شُيَّدت إبان حِقبة الاحتلال الإيطالي لليبيا، جاعلاً من ذلك الأثر المعماريِّ خلفية له، كي يظهرَ في الصورة التذكارية، التي اختار مكانها، ولعلمي المسبق بما ابتغاه من ذلك، أعرضت عنه وقابلته بالصدًّ والإدبار، بعد أن أبت نفسي ما أراد، مع يقيني التام، بأن ثمة من سيأتي إليه بعدي ويحقّق له رغبته هذه، وهي أنْ يعودَ إلى أبنائه، ليريهم أمجادَ الأجداد في ليبيا، وبمجرد أنْ خطوت بضع خطوات مبتعداً عنه، بعد أنْ أدرت ظهري له، وإذا بشابٍ ليبيٍّ شهم، يهرعُ إليه، ويتبرعُ للقيام بهذه المَهَمََّة، وأمام هذا الموقفِ، تقافزت إلى ذهني، إحدى حلقات سلسلة (حكايا المرايا) التي يقدّمُها الممثل السوري القدير ” ياسر العظمة ” في كل شهر رمضان، ممّا رأى وقرأ وسمع في حياته، كما تنصُّ مقدمة المسلسل الموسيقية، إذ أنه في إحدى حلقات هذه الحكايات، عرض لنا في سويعةٍ منها، الآلية التي يتعاملُ بها المواطنُ العربيُّ السوريُّ مع السائحين الأجانب، الذين يتوافدون على بلاده، الغنيّة بالمواقع السّياحيةِ المتعدِّدةِ والمتنوعةِ، وذلك من خلال لوحاتٍ مشهدية كثيرة، أثناء ركوب السائح في السياراتِ العامةِ والخاصةِ، وعند تنقلِه وتجواله عبر المدن والأرياف، وحين تسوقِه كذلك، ففي أحد هذه المشاهد، بيَّن للمتلقي كيف أنَّ المواطنين يتدافعون أمام أحد أفران الخبز، في طوابير متراصة وغير منتظمة، ينتهك عرفها المتململون من الانتظار، حتى أنَّ مالك الفرن، قد كلّف أحد صبيانه بالإشراف على التنظيم، وبينما هم في تدافع وتراجع متواصل كما أمواج البحر، ويقوم بعضهم بالاحتيال على البعض الآخر، كي يأخذ مكانه المتقدم في الصف، فيجابهه ويواجهه، محدثا هرجاً ومرجاً عند هذا الفرن، إذ ذاك، قدِم أحد هؤلاء السائحون، وأخذ أخر مكان بالصف، كسائر المصطفين حين مجيئهم، غير أنَّ شهامة العربي لم ترضَ بذلك، لأنه عارٌ ما بعده ولا قبله عار، إنْ تـُرٍك هذا الغريب في ذيل القائمة، وهم العرب المعروفون بالكرم، حال عودته إلى بلده، وإخباره لأهله بهذا الأمر، فماذا سيقول عنهم هؤلاء، إذا تناهى وذاع هذا الخبر الفاضح في الأمصار الأخرى ؟ لذا أخلوا السبيل أمامه، وطلبوا إليه متفقين، أنْ يأخذ المكان الأول، عن طيب خاطر من المصطفين جميعهم، وبعد أن تناول أرغفة الخبز التي أرادها، وناول البائع ثمنها، أبى الأخير أنْ يقبض منه الثمن، لأن الآخرين ليسوا بأكرم ولا أشهم منه، وما هي إلا لحظات، حتى رأوه يتوارى عنهم فرجعوا إلى حالهم الأول – أي – إلى حالتي الهرج والمرج، فإنه لأمرٌٌ مخجلٌ، إن شاهدهم يتعاركون على من هو الأول ؛ وفي لوحة أخرى، جعلنا نرى فيها السائح نفسه، يصعد إلى إحدى الحافلات الخاصة، وقبل أنْ يقلها، كان هناك مواطن ومواطنة يتشاجران، لأنَّ الأول، كان يدّخن والثانية تطلب إليه أنْ يُطفئ لفافته، وتذكـّره بمنع التدخين في الأماكن العامة، وهو يتجاهل الأمر، فاشتكته إلى السائق، الذي كان مسجله يصدح بالموسيقا الصاخبة، فردَّ عليها بأنه ليس وصياً على القانون وتطبيقه، طالما أنَّ هذا الراكب سيدفع أجرته، وبعد أنْ ركب هذا (الخواجة) أقفل السائق المسجل، وأمر بحزم وحسم، بمنع التدخين، وقبل حتى أنْ يُنهي عبارته الناهية، كان الشخص المدخن قد تخلص من عقب سيجارته، وفتح النافذة، للتخلص من الرائحة النتنة الصادرة من لفافته، وفي اللحظة التي طلب فيها السائح إلى السائق الوقوف، أخرج من جيبه ثمن الأجرة، لكن أحد الركاب تطوع بسداد الأجرة، غير أنّ شهامة اليعرُبيِّ، لم تجعل السائق يقبل بذلك، وقال نحن أولى منكم بهذا الصنيع، وفي ذلك فليتنافس المؤمنون، وبعد أنْ هبط من الحافلة، عاد السائق والمدخن إلى عهدهما الأول، وفي مشهد سريع ثالث، أوضح لنا الفنان ” ياسر العظمة ” كيف يقوم المرشد السياحي المرافق لهذه الوفود السياحية، بأخذها إلى المواقع الأثرية التي لا تحكي تاريخنا العربي والإسلامي، حيث يقوم في كل جولة سياحية، بمصاحبتهم إلى الآثار البيزنطية، ولا يقترح عليهم زيارة قلعة (صلاح الدين) الكائنة بمدينة (حلب) مثلاُ، أو إلى أي حصن عربي آخر، على الرغم من انتشارها على الأرض السورية وبكثرةٍ، وفي النهاية نجد من خلال هذا المسلسل، أنَّ هؤلاء السائحين يعودون إلى ديارهم، بأكبر جزءٍ من مصحوباتِهم المالية، التي كانوا يودون إنفاقها، غير أنَّ شهامة العربي، هي من سبّبت في ذلك، لكأنَّ العرب لا يعرفون بعكس غيرهم من الأقوام الأخرى، استثمار السياحة في جلب الموارد والعوائد المالية لدخلهم القومي.
فالرأي الذي أتبناه في نهاية هذا المقال، هو أنَّ أغلب هذه المدن التاريخية الرومانية المنتشرة على امتداد الساحل الليبي هي مثل (مسمار جُحا) في تلك القصة المعروفة عنه، أو هي كـ (أحصنة طروادة) تركوها على أرضنا، كي يأتي وقت ويطالبوننا فيه بأهليتهم وأحقيتهم بها، وهذا الرأي لم آتِ به من فراغ، لأنَّ في إحدى الاستضافات المرئية، التي أُجريت مع المخرج العالمي الراحل ” مصطفى العقّاد ” صرّح في إجابته عن أحد الأسئلة، التي طرحها عليه المضيف، بشأن ذكر بعض المواقف المُلفتة في تجربته الإخراجية، لا الطريفة: بأنه أثناء الإعداد لتصوير بعض المشاهد المتعلقة بشريط شيخ الشهداء ” عمر المختار ” في العاصمة الإيطالية (روما) التفّ حوله المواطنون الطليان، واقتربت منه إحدى الشمطاوات الإيطاليات، لتسأله: ماذا تصنعون بحق السماء ؟ وبعدما أخبرها بموضوع الشريط، علقت قائلة له ولبقية طاقم التصوير: ” صوروا أو لا تصوروا، فإننا عائدون إلى ليبيا، طال الوقت أم قصر، لأنَّ لنا فيها إرثاً معمارياً، بناه آباؤنا (الفاشست) وأجدادنا (الرومان) ما يزال يشهد على أحقيتنا بذلك البلد “.
و هنا يجب التنويه والإشارة إلى أننا لا نبتغي من سرد هذه المقالة، هدم هذه المواقع التي لا تمثل هويتنا العربية والمسلمة، لأنَّ ذلك قد يثير حفيظة بعض المفتخرين بهذه المعالم التراثية الإنسانية، كما تـُسمى، ولأنّ في ذلك مظنَّة التحريض على الأخذ بالثأر، على الرغم من أنَّ هذه المباني، أراها تساهم إلى حدٍّ بعيد في تشويه الوجه التاريخي والمظهر الحضاري المعماري لبلادنا ؛ كيف هذا ؟ فمن المعلوم، أنَّ أغلب المباني المشيدة على ضفة البحر في سائر المدن الساحلية، تنتصب سامقة وتناطح قممها السحاب، لكن ما بناه بُناة تلك الحضارات من مبانٍ، هي في غالبيتها قزمية ولا تتعدى طوابقها، طابقين أو ثلاثة، خاصة منها، الموجودة في مدينتي (بنغازي وطرابلس) والقريبة من مينائيهما البحريين، لكن على أقل تقدير، ينبغي علينا، ألا نعيرها اهتماماً مبالغاَ فيه، وألا نصرف ونبذر أموالنا العامة لأجل ترميمها، وعلى أحفاد بُناتها المعاصرين، التكفُّل بهذه المشاق، كما يتكفَّل العربُ والمسلمون، بالسهر والعمل على ترميم المساجد والقصور، التي تركها أسلافـُهم في بلاد (الأندلس) كما ينبغي علينا، ألا نعتبرها الوجه الحضاري المشرف لبلادنا، في المطويَّات المُلصَّقة على الحيطان، والدليل السياحي الخاص للتعريف بمدننا، وأنْ نـُشيّد ونبني صروحاً على أرضنا، يكون لها طابعها العربي والإسلامي، لتغدو مفخرةً لأبنائنا وأحفادنا، على مرِّ الزمن، وأمام سائر الأمم.
بنغازي في: 11 / 2 / 2008