المقالة

قراءة في صوت الفنان مصطفى طالب

 

عدّوا معي إنْ استطعتم، كم مرة يردّد الفنـَّانُ ” مصطفى طالب” عبارته: (لا والنبي يا غالي) في أغنيةِ (هاي وننسى).. أعلمُ بأن َّ تسجيلَ هذه الأغنية ليس بحوزتِكم، ولا من أحدٍ يأتيُكم بمصدره، لذا ستصعبُ عليكم مسألة ُالعدِّ، لكني جرّبت مرةً، أنْ أُحصي بنفسي عددَ هذه المراتِ، من دون أنْ أكبُسَ زرَّ الإرجاع ِ في جهاز التسجيل ِ المسموع ِ، فقد استمعت إليها ذات مساءٍ، من خلال ِ مصدر التسجيلاتِ الأوحدِ في بلادِنا، ألا وهوّ الإذاعة ؛ وفي واقع ِ الأمر، أنا لست أبتغي أنْ أوّقع قلمَي في دائرةِ التـِّكرار والمعاودةِ في موضوعاتِي، فمسألة ُعدم ِ وجود تسجيلاتٍ للأغنيةِ الليبيةِ في الأسواق ِ المحليةِ قبل العربيةِ، كما نعلمُ جميعا ً، هي إشكالية ُ ُ قائمة ُ ُ ومفروغُ ُ منها، كما أنها مدعاة ُ ُ للملـّل والسأم ِ كلما تحدثنا عنها، فقد سبق ليّ أنْ تناولتـُها في مناسبةٍ فائتةٍ من خلال هذا المنبر الإعلاميّ، ولكنْ لأهميتِها، أرجو منكم أنْ تجدوا ليّ الْعذرَ، لكوني عدت وكرّرت الفكرة َ ذاتها في مستهل ِ مقالي هذا، وأعدكم وعدَ الحُرِّ، الذي هو دينُ ُ عليه، بألا أعود إليها بعد هذه المرة (ولا مرة) من دون سوء ولا مكروه بعون الله، مع أنَّني أعي بأنَّ الأمر، يستوجب منَّا العودة إليه والوقوف عنده طويلا ً، حتى تُحلُّ هذه المعضلة، فهذه هي المَهَمَّة الحقيقية للكاتب الحقيقي، أي فضح وكشف القضايا المسكوت عنها.

لكني سأفردُ بابَ النقاش الآن للحديث عن التـِّكرار من مفهوم فنّي، إذ ْأنَّ التـِّكرار في الأغنيةِ العربيةِ، شأنُ ُ معروفُ ُ وتمتازُ به في ألوانِها جميعا ً، ويبدو أبرزُ تجلياته واضحا ً في فنِّ الموشحات الأندلسية ونوبات المالوف والقصائد والطقاطيق (جمع طقطوقة) وفي الأدوار الغنائية أيضا ً، والتـِّكرارُ ليس بالأمر الهيّن، كما قد يُخيَّلُ إلى البعض ِ، أو أنه ابتذالُ ُ، قد يقعُ في مطبه الفنَّانُ، نتيجة ً لعدم ِ امتلاكِه ناصية َالغناءِ، سواء أكان مُلحِّنا ً أو مُطرِّبا ً، لاحظوا أنني وصفت المؤدي هنا بـ (المطرب) ذلك أنَّ التـِّكرارَ وسيلة ُ ُ للتطريبِ، فقد يلجأ ُ المغني إليه في أداءِ مطلع ٍ لأغنيةٍ ما من أعمالِه، أو في أحدِ مذاهبِها نزولا ً عند رغبة الجمهور، الذي قد يطلبُ إليه إعادة َ فقرةٍ ما، عندما يكونُ اللقاءُ بينه ومُستمعيه مباشرة ً، كأن يكون على المسرح ِ أو في الهواءِ الطـَّلق ِ في الحفلاتِ الغنائيةِ السَّاهرةِ والعامرةِ، ومن جُملةِ الفنانين الذين برعوا في الأداءِ بهذا الأسلوبِ (التكرار) موسيقارُ الأجيال ” محمد عبد الوهاب ” وبالذات في مقدمةِ أغنيته (كل ده كان ليه) فهو يُعيدُ مطلعَ الأغنيةِ غير مرةٍ، وفي كـُلِّ مرةٍ، ينشدُه بطريقةٍ تختلفُ عن التي سبقتها وبمذاق ٍ مُغاير ٍ في الأداءِ والإحساس ِ، ومن حيث طبقاتِ الصوتِ أيضا ً، فهو تكرارُ ُ ظاهريّ ُ ُ وطافٍ على السطح، أما ما يختبئ تحت هذا السطح ِ، فثمة مغاز ٍ ومرام ٍ عديدة من وراء ذلك التكرار غير المُمِّل ِ، كالتأكيدِ على شأن ٍ ما في مضمون ِ ولبِّ العمل ِ الغنائيِّ، الذي ضربت لكم به مثلا ً، ذلك أننا نلحظ ُ بآذاننا، أنَّ التـِّكرارَ جاء في مطلعِها كما أسلفت الذكر، وهو يكتنفُ في باطنِه استفهاما ً إنكاريا ً، لكونه ينكرُ على نفسه، التي لم تأمره بسوء، لكنْ على حنينِها إلى الحبيب وهذا ما نسجه له الشَّاعرُ المُخضرَمُ ” مأمون الشناوي ” رحمه الله، فأراد أنْ يُبيّنَ للمُستمِع حجم التضحيات الجـِسام، التي قدَّمها عن طيبِ خاطر للحبيبِ، في الشَّطر الثاني، فبعد ما يقارب الثلث ساعة من بدايةِ الأغنيةِ، يجدُه المُتلقي، يُخبَّرُ عن الشطر الأول بقوله: ” حن قلبي إليه وانشغلت عليه ” ليكتملَ بذلك معنى المطلع ٍ، بعد كل هذا التقديم المكرّر.

لكنَّ الفنَّانَ الليبي ” مصطفى طالب ” في أغنيةِ (هاي وننسى) التي صاغها له مواطنه الشَّاعرُ الرَّاحلُ ” عبد السلام زقلام ” الذي أعده أولَ من نوَّع في مضامين الأغنيةِ الليبيةِ بكلماتِه ذات الطعم الجديد، التي حشّدها دائما ً بالمعاني السَّامية وطعّمها بمفرداتٍ جديدة على الكلام ِ السَّائدِ أنذاك، وقدَّمها إلى مُلحِّن ٍ عبقري، تزخر قريحتـُه اللحنيةِ بعديدِ الجُّمل ِ الموسيقيةِ المُتنوِّعةِ، بخلافِ غيره من مُلحِّنينا، الذين ما يزال بعضهم يسيرُ على طريقةِ اعتمادِ الجُّمل ِ الموسيقيةِ الشَّعبيةِ المُستهلـَكةِ في ألحانِهم، على أيةِ حال ٍ، فقد تضافرت مجهودات ثلاثتهم ليقدموا لنا عملاً غنائيا ً راقيا ً وناجحا ً بكل المقاييس، عندما استعمل المُلحِّنُ التـِّكرارَ بشكل ٍ فريدٍ من نمطِه، وهذا لا يعني بأنّ التـِّكرارَ في هذه الأغنيةِ، كان له مرمىً مشتجرُ ُ عمّا أشرت إليه في أغنية ” محمد عبد الوهاب ” فكلاهما تلاقيا عند نقطةٍ واحدةٍ، فالفنَّانُ ” مصطفى طالب ” أراد هو الآخرُ أنْ يؤكدَ من تكراره لعبارته، التي ألمحت إليها في بدء المقالة، استحالة أن ينسى المحبوب، غير أنه لم يعد لنا العبارة بأكملها ودفعة واحدة، في كل مرة، بل إنَّ المُلحِّنَ ” علي ماهر ” هو من جزَّأها بتكرار كلمة (لا) لوحدها ثلاث مرات، ثم ألحقها ببقيتها، لتمسي كاملة، عندما ينشد: (لا والنبي يا غالي) وهذه العبارة تنطوي على قسم مما لا شك فيه، مع أن القسم لا يجوز إلا باسم الله، لكننا كليبيين، نلجأ إلى هذا النوع من القسم في لهجتنا الدارجة محبة في الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعظيما ً لقدره ؛ ومما يلاحظ جليا ً أن الفرق بين هذاه الأغنية والتي تناولناها قبلا ً، أن هذه الأغنية لم تقدم على المسرح ولا في الهواء الطلق، أي بقصد، أنَّ أسلوب التكرار فيها، لم يكـُن بناءً على طلبٍ من الجمهور، لأنها مسجلة داخل قاعات التسجيل المسموع (الأستوديوهات) وهنا مكمن الإبداع، فعلى الرغم من ذلك إلا أنَّ الفنَّان ” مصطفى طالب ” استطاع لامتلاكه لصوت رخيم ومميز عن الأصوات الليبية الأخرى، بنبرته المجروحة، أنْ يوضحَ لنا بأنه لا يستطيعُ نسيان المحبوب والخلاص من حبه، مهما كانت الأسباب والظروف، من خلال هذه الكلمات الجميلة:

غلاك نسماتي.. يهبن فرحة وعون ديما ايواتي

غلاك كل شيء عندي غلاك حياتي.. غلاك هو كلام صمتي وهو موالي..

ثم يُتـّبعها بشطرة: (لا والنبي يا غالي) بعددٍ من المرات، يساوي بالأرقام والحروف 24 (أربعا ً وعشرين) مرة، فلا يهولنكم هذا العدد.

16.03.2008

مقالات ذات علاقة

الشخصية الليبية “قشوط” نموذجا

خالد درويش

غياب الخيارات .. بين الصفر واللا نهاية!

المشرف العام

فيضان المحبة

يوسف الشريف

اترك تعليق