قصة

نبوءة أم

من أعمال الفنان الحروفي” محمد الخروبي”

ليس للحرب وجه أنثوي، هي حقيقة وجودية، وعنوان كتاب حائز على نوبل نساؤنا يمشين في الأرض كأحلام تنسج حيوات محتملة رهن إشارة الله للتجلي لواقع يقظ نعرف أن أمهاتنا كما هن قادرات على احتضان الحياة ولفظها بأجسادهن يحولن الأماكن الضيقة والحالكة لمساحات طمأنينة تُفضي لإجابة واحدة أكيدة نحنُّ إليها على مدار اليوم الذي يحمل بين محطاته أسئلة لا تنتهي.

الواحدة منّا، وإن أقدمت على الأمر كرها غير قادرة على قبول فكرة انتشال حياة ترعرعت في جسد يشبهها، وإن فعلت فهي النصر الذي لا يُحتفل به في أي حرب ولا تُردده الخطابات والا الشعارات إلا نادرا فلذلك عندما رافقت ميساء الشابة الحامل في شهرها التاسع، اللاها(1) نجمية لعزاء جارتهم الحاجة خديجة في ابنها الذي قُتل غدرا وعبثا في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل لم تجد في قاموسها ما يُسعف حساسية الوضع وخواء الكلام أمام مأساة الأم التي امتدت لتلمس فيها نبوءتها وهي تنتظر أن تتحقق غير أن هذه الأفكار تظل حبيسة القلوب والنظرات اللاتي تتبادلها المعزّيات خلسة وبإنكار وهُنّ يُرددن (كلنا ليها وهكي سنة الحياة، احتسبيه شهيد عند ربي، الله غالب ماكش أول ولا آخر وحدة).

جلست ميساء في الصف الأخير يسار خيمة العزاء قبالة مدخلها بإيماء يشي بالاضطراب وهي تضغط بأطراف أصابعها على كمامتها، وتبحث في حقيبتها الكبير لدقائق عن مُعقِّم اليدين للمرة السادسة منذ وصولها ويقابلها تماما على بُعد بضعة أمتار جسد (عزوزتها) نجمية وهي تحتضن أهالي الشهيد في مواساة وتدعو له بكلام غير واضح من فرط بكائها مسحت الأخيرة دموعها وهي تدور برأسها باحثة عن كِنّتها وتوجهت إليها بجسدها المتثاقل والمترهل (باهي نزليها الكمامة شوية حتى يشوفوا وجيهك وما يقولوش ماتبيش تعزي وتسلم)، وأكملت : (لو نندري عليك ما تبيش تقعدي راه قلت لأحمد يجيبني يوم تاني نبات، عيب العشرة والعمر، نورّي وجهي نص ساعة ونروّح). حتى وبعد ستين محاولة وصدام بينها وبين كِنّتها وابنها أحمد الذي عاد لتوه من سفر عمل في الفلبين لإقناعها بجدية الوضع الحالي مع انتشار فيروس جديد لا يعرف العلماء عنه الكثير، وحمل ميساء الذي يجعلها في موقف أكثر حساسية أصرّت نجمية على المبادرة بالمصاحفة، واستقبال الضيوف وعزاء الأحباب فلا حُجّة تعيق الأصول !

طالع هنا : قراءة انطباعية لقصص كتاب (ترميم)

منذ بضعة أسابيع بدأ شأن الفايروس القادم من الصين يتصدر الأخبار على التلفزيون والفيسبوك وأحاديث المربوعة. أحمد وهو الابن الوحيد لنجمية يعمل طبيبا بين ليبيا والفلبين، وقد عاد قبل أيام بسيطة بعد ترحيله بسبب المخاوف المتعلقة بالمرض المجهول الذي كاد أن يُكلفه تفويت ولادة ابنته المنتظرة. ما بين الحرب التي تعترك المدينة منذ أشهر وعناء الإيجار والنزوح من طريق السدرة والمولودة المنتظرة، صرفت أخبار الفايروس نظر العائلة التي تتقاسم شقة من غرفتين، ومطبخ وحمام عن النقاشات الخادة قبل أن تفتح بدورها جبهة حرب جديدة بين ميساء ونجمية تدور في فلكها المعتاد آراء متضادة لامرأتين عنيدتين من أجيال مختلفة.

(اللاي، أحمد برا) قاطعت ميساء حديثا بين عزوزتها وإحدى المُعزّيات ونهضت بتثاقل وصعوبة ويدها على بطنها الممتد أمامها استندت نجمية على ذراعها وتدافعتا بين زحام النساء والصبايا اللاتي يقهقهن وهنّ يُسألن عن أعمارهن من بعض الخطابة. تنهّدت ميساء امام عادات يوم الفرق القبيحة، يُخيل لها أن يوم الفرق من كل عزاء نادي خطابةٍ سريّ وملتقى نسويّ للترويح عن النفس و(الفشّان في حوش العزي) كما تقول اللاها تتجمع فيه النساء لتبادل الأخبار والدلال على أهل العزاء بطلب القهوة مُرّة قليلا أو زيادة سكر، المهم أن تكون غير التي ضُيّفوا بها أما أهل الفاجعة فربي في عونهم، (مش أول ولا آخر ناس).

فتحت ميساء باب السيارة الخلفي وحشرت نفسها في السيارة الضيقة بصعوبة، وتطلبت نجمية بضع ثوان لتعديل جلستها في المقعد الأمامي للسيارة بجانب أحمد الذي ظل يرمق زوجته من مرآة السيارة بما هو أشبه بالاعتذار الصامت، وفي الطريق إلى الشقة الواقعة في شارع النصر تناوبت الأحاديث بين مَن حضر الجنازة وماذا تناقلت الأخبار بشأن الفايروس اليوم، ولم يخل النقاش بالطبع من التخطيط لاستقبال المولودة واسمها .

(وكان جاتك سفرة تاني في لمة بنتك ؟)، وجّهت نجمية الخطاب لأحمد ورد بدوره أنه لن يفعل حتى يتضح شأن الفايروس الجديد الذي عرقل عمله، ولم يقاوم إبداء ضيقه من سؤال والدته عن الاحتفال رغم أنه قد أطلعها مرارا على صعوبة الوضع المادي خصيصا مع الإيجار والحربالتي تعرقل كل مظهر للفرح، اتفق هو وزوجته على الاكتفاء بعقيقة بسيطة تجمع الأهل فقط حتى يُيسّر الله الحال (لمة مستورة نفرح فيها بالناس تحيروا فيها، قعاد في عزي تحيروا فيه لكن الطلوع مع الصاحبات والزرادي مع الولاد ما تحيروش فيهم ديرلي يريحك) أنهت نجمية الحديث بعبارتها تلك، وشرعت بالاستغفار بأصابعها بعدما أدارت وجهها تنظر للشارع من النافذة، وأطبق الصمت على ما تبقى من الرحلة كما أطبق أحمد أصابعه بشدة وتوتر على مقود السيارة، ولم تبد ميساء أي رد فعل يُذكر سوى نظرة غاضبة وجّهتها لزوجها من المرآة.

طوال الأشهر الماضية توالت الاصطدامات والشاحنات بين نجمية وكِنتها التي بدأت منذ أن أبدت نجمية رغبتها في تسمية حفيدتها على اسمها، وتعليقاتها على ميساء بأنها أم تُضيّع جُل وقتها على (التيكتك)، وتُفضل مرافقة الصديقات و(طلوع القهاوي) على وصل الجيان والأقارب.

(هذه خدمتي اللاي، اسمها صناعة محتوى على مواقع التواصل الاجتماعي وزمان قبل مش زي توا، وصحباتي هما اللي فاجؤوني ودارولي حفلة ( Baby shower)، وزي ما تشوفي فيا يادوبك نلحق نشوف اماليا كل جمعة، فيا بالك نلقى وقت للجيران في الظروف هذه) تبرر ميساء موقفها كل مرة وترد عليها نجمية بعقاب صامت أو بتهاطل الدموع من مقلتيها الكبيرتين، تستدعيها وأحمد لطلب السماح مرارا لترضى (مولاة الحوش)، وتبادلهم أطراف الحديث مجددا .

وفي الليالي وراء الأبواب الموصدة تُوجّه ميساء اللوم لزوجهاا بصوت خافت (مافيش داعي كل شي تعاوده لأمك، علاش مقايللها تلاقيت مع صحباتي؟ ما سد متهجرة من حوشي وما سد نرعش من الضرب كل ليلة وأني حامل مازال بنضحي حتى باستقلاليتي في حياتي الخاصة وخدمتي وفي من نواصل ومن ما نواصلش ؟)، ويرد أحمد كل مرة بنفس الإجابة غير المقنعة وبملامح يعلوها الاستسلام (باهي تبيني نكذب في وجه أمي لما تسألني ؟).

في مجمع ميساء وصاحباتها صانعات المحتوى في شركة (سيفن ستارز) للدعاية والإعلان، لابد أن تتطرق الأحاديث اليومية للأمومة وتحدياتها وثرئها حيث إن نصف الموظفات بطفلين على أقل تقدير، أو حوامل كميساء أو على الأقل فضوليات طبيعيا عن الأمومة التي ليست حكرا على من تلد فحسب فيبدو أن جُل الآنسات أمهات بالفطرة للأشياء من حولهن ولغيرهن تقوّت العلاقات بين الموظفات منذ أن وهبتهن المسؤوليات الجديدة بُعدا آخر لتمتد فيه مشاعرهن، وهو ما لاحظه مدير قسم التسويق على منصات التواصل الاجتماعي، ودفعه لتوليتهن محتوى المجتمع والأسرة على منصات الشركة، وتحديدا (تيك توك) التطبيق الجدلي الذي بدأ يستحوذ على اهتمام المجتمع، وخصيصا الشباب . ما بين نصائح (التربية الناعمة)، و(كسر حلقات العلاقات السامّة) تشارك ميساء ما في جعبتها من تجارب قاستها في طفولتها، وأماني مستقبل ذُرِّيتها نصب عينيها المنهكتين من حاضر دموي.

هذه الأيام ثقيلة، إن لم تقتلك الرصاصة قد تفعل العدوى، والتفكير بالموت هو المرادف الأكثر واقعية للولادة في ذهن أم مرهقة ومكتئبة ونازحة من بيتها، وكأنها تعايش نوعا من اكتئاب ما قبل الولادة بدا جليا في نتاج المقاطع التي تنتجها للتيك توك ولا يمكن القول بأن التفاعل مع المواضيع التي تطرحها كان إيجابيا كالتعليق الذي كان انهيارها في آخر يوم لها في العمل، والذي يصف المحتوى بالوهمي، لا تختلف التعليقات عامة فبالنسبة لمجتمع يعايش أحلك فتراته ظلمة تبدو مصطلحات كالتربية الناعمة والأبوة الإيجابية واللعب مع الأبناء بالصلصال – ضربا من السخافة فالكل يتسارع للنجاة وحسب، ومثلما يتراءى لهؤلاء المستخدمين فضرب الأهالي (كبرهم عاقلين وما يشكوش من شي).

(حتى إنت مولية حساسة زيادة عن اللزوم يا ميساء، وعندك حق مش قصدي نتفه مشاعرك لكن ما تنسيش حتى عزوزتك متضايقة من التبهديل ومتأرقة زيك) خاطبتها أبرار. (وباهي طالما متضايقين كلنا من الوضع علاش تصعّب فيه علينا بالنكد ؟! ماه نسايسوا رواحنا من غير التدخل في خصوصياتي، والتعليقات اللي مافيش داعي منها كل إللي نبيه نولد وأني هانية ونسمي بنتي زي ما نبي أني وبوها ونعيش التجربة من غير خوف وسحن، أياماتنا حرفة وإللي يستنى فيا في المستشفى في الوضع هدا أحرف وأحرف، ونخمم في ستة آلاف حاجة ما يعلم بيا إلا ربي أصلا مفروض الإجازة واخدتها من السابع هذا كله باش نتجنب نصطدم معاها في الحوش…ربي يهديها ويصلح حالها ! مدّيلي ورقة التوقيع بالله عليك).

وكان ذلك الثالث من يناير آخر يوم من عمل ميساء في الشركة قبل مباشرة إجازتها لوقت غير معلوم لم تعلم حينها أن الساعات القادمة على وشك تغيير حياتها للأبد، وقد تسارعت : ألمّت بميساء آلام الطلق في الليل على نحو مفاجئ قبل موعد دخولها المحدد مع طبيبتها أسرعت عائلتها بالتوافد للبيت، وجهّزت أختها ووالدتها حقيبة المشفى جلست نجمية جوار كِنتها، وتمسّكت بيدها وهي تلفظ الوهن أنينا من حنجرتها وصل أخوها عليّ ليُقلهم جمعيا للمشفى فأحمد في نوبة عمل مستعجلة في…لا تتذكر ميساء أين، كان قد أخبرها مسبقا ولكن الألم الذي تصارعه يستمر بتشتيتها تستمر نجمية بالاتصال بابنها على هاتفه، ولكن دون جدوى تتصل ميساء بطبيبتها منتصف الليل لا إجابة تركب العائلة السيارة تتصبّب الجباه عرقا تتجه السيارة نحو مستشفى الجلاء للنساء والولادة ترتبك القلوب أمام مشهد الجرحى والمصابين وهم محمّلون على الأسِرّة يُنزل على نافذة السيارة يسأل رجل الأمن عما يحدث، ويعلمه باستعجال حالة الولادة في الكرسي الخلفي، يُخبره بان يذهب لمشفىً آخر فالجلاء مُخصص لحالات الطوارئ الليلة نتيجة الاشتباكات في منطقة الهضبة، وهو يصرخ :استمر استمر !

تُسرع السيارة نحو إحدى العيادات الخاصة القريبة، جميع الغرف محجوزة، والمتاحة لا تقل عن ثلاثة آلاف دينار لليلة تصرخ ميساء وهي تُجرّ على الكرسي من ممرض النوبة الليلية وتتبعها عائلتها (اتصلوا بأحمد ما نقدرش نخش بروحي)، يعلو القلق ملامحهم جميعا تستهل وضعها وتتجارى الممرضات من حولها تنتظر العائلة خارجا تشير العقارب للساعة الثانية إلا عشر دقائق، ترتعش أصابع نجمية وهي تدق على رقم الهاتف للمرة الخمسين. ثلاثة، اثنان ، واحد، وقف العقرب على الساعة الثانية تماما صرخت ميساء ثانية، وصرخت السماء رفعت نجمية رأسها والطنين يخترق أذنيها الكل مدهوش أينما حطت هذه القذيفة فلابد أن تكون على مقربة منهم، تسارعت اخطى في الممر المؤدي لجناح الولادة ظهرت الممرضة وهي تحمل ريموت التلفاز في يدها، بدأ صوت مذيع الأخبار يتضح أكثر فأكثر وهو ينقل خبر قصف الكلية العسكرية طرابلس الذي حدث للتو، ويذكر أنها مليئة بالطلاب اللذين يستعدون لخوض امتحاناتهم تلك الفترة وكوادر التدريب الطبية العسكرية.

وكأن ركبتيها لم تعرفا تأثير الزمان، ركضت نجمية نحو حجرة الولادة وأيا كان ما قالته الممرضة التي تصرخ بها فهي لم تسمعها، وتوجّهت لميساء التي تبدو منهكة وهي تدفع لمرة واحدة جسد الطفل الذي ينزلق على يديّ الطبيبة، نظرت لعينيها وقالت (في الكلية العسكرية تفكرت توا وين قالي بيبات الليلة شوفيه بلكشي تحصليه). لا تتذكر ميساء يوما رأت فيه اللاها باعتبارها إنسانا لا أُما، خلاثة لتجارب مريرة لم تتحرر منها، وظلت حبيستها حتى بعد أن زوّجت ابنها، ولكن في تلك اللحظة رأت في عينيها امتدادا لنفسها هي بكل الاختلافات بينهما، هذا الامتداد الذي تتحقق فيه النبوءات وترتبط من خلاله الأمهات للأبد أيا كانت أعمارهن، وأيا كانت قناعاتهن عن أساليب التربية الصحيحة، وخلافاتهن التي لا تنتهي حول عمل المرأة أو لزومها البيت لرعاية أبنائها.

بدتا كوجهين لعملة واحدة سقطت من جيب أحدهم سهوا نحو ظلام دامس، وأحسّت وكأن أصابع قوية تُطبق على حنجرتها وهي تشاهد أم زوجها تنهار على الأرض قبل أن تصرخ الطبيبة بلحظات : (مبروك جاكم وليد ! ).

(1)- اللاها بلهجة أهل طرابلس تعني حماتها أم زوجها.

مقالات ذات علاقة

طابور

زكريا العنقودي

حُلُـمٌ

خالد السحاتي

تفــــاح بلـــون الـذهـــب

محمد العنيزي

اترك تعليق