عبدالحكيم عامر الطويل
منشور بنتي زمردة هذا الذي عبَّرت فيه عن حُبها لزهرة اللوتس هو الذي حفَّزني على كتابة هذا البحث!
في الواقع سبق وأن كتب آخرون عنهم، غير أنني كتبت عنهم هنا بطريقتي وأسلوبي الخاصيْن، مع إضافة مقارنات واستنتاجات أظنها جديدة تُنشَر لأول مرة.
بخصوص من؟ بخصوص “أَكَلَة اللوتس” Lotophagi (من يأكلون اللوتس). هو اسم اشتهر في التاريخ على أنه اسم أحد القبائل “الليبية” القديمة قبل دخول العرب لشمال أفريقيا، لكن علينا أن نحذر دائماً من الخلط بين قبائل الليبو والليبيون القدماء ومواطني ليبيا المعاصرة الذين ما عرفوا هذا الاسم إلا في 1912 نسبة إلى مستعمرة إيطالية سماها الإيطاليون أنفسهم ولأول مرة في تاريخها باسم ليبيا، في استعادة مقصودة لولاية “رومانية” قديماً حملت هذا الاسم، حتى يحاولوا إقناع أنفسهم وأجدادنا والعالم بأنهم ليسوا محتلين وإنما مجرد عادوا إلى أرض أبناء عمومتهم القدماء.
على أي حال كان اسم “الليبيون” يحمله سكان شمال غرب أفريقيا وهم الذين نعرفهم اليوم بالاسم الشامل الحديث نسبياً: الأمازيغ. فأكلة اللوتس إذاً هم من شعوب شمال أفريقيا من أجداد الأمازيغ كانوا يأكلون ثمرة اللوتس، والكثير من الخرائط القديمة تبين أن مناطق سكنهم محصورة بين طرابلس الغرب ومدينة قابس في الجنوب التونسي دون تحديد دقيق (أنظر الخرائط المرفقة).
الحقيقة هي أن أول ما عرفناهم بهذا الاسم كان في الكتاب التاسع لملحمة هوميروس الشعرية الشهيرة «الأوديسا» Odyssey، حيث تروي في أحد صفحاتها كيف أن أوليس/أوديسيوس الملك بطل الملحمة قد رسى على جزيرة قرب شاطئ غرب أفريقيا وبعث بعض رجاله لاستكشاف معالمها، فقدّم إليهم سكانها ثمرة اللوتس، التي كانت – حسب الأسطورة – تسبب في نومهم وبقوا في حالة من اللامبالاة السلمية حتى أنها جعلتهم ينسون وطنهم ويرغبون في البقاء على الجزيرة! لدرجة أن اضطر ملكهم إلى جذبهم من شعورهم ليعود بهم إلى السفينة ومنع باقي الطاقم من النزول !(أنظر اللوحة المرفقة للرسام البريطاني هيث روبنسون 1872-1944 Heath Robinson). هذا هو وصف هذه الحالة بكلمات هوميروس:
(دفعتني الرياح العاتية من هناك لمدة 9 أيام على البحر، لكن في اليوم العاشر وصلنا إلى أرض أكلة اللوتس الذين يعيشون على طعام يأتي من نوع من الزهور، هنا هبطنا لأخذ المياه العذبة، وحصلت أطقمنا على وجبة منتصف النهار على الشاطئ بالقرب من السفن، عندما أكلوا وشربوا أرسلت اثنين من الرفاق ليستطلعو كيف يمكن أن يكون الناس في هذا المكان، وكان رجل ثالث معهم، بدأوا في الحال، وذهبوا إلى أكلة اللوتس، الذين لم يؤذوهم، لكنهم أعطوهم بعض اللوتس ليأكلوه، الذي كان لذيذاً جداً لدرجة أن أولئك الذين أكلوا منه فقدوا الاهتمام بالوطن، ولم يرغبوا حتى في العودة وإخبارنا بما حدث لهم، رغبوا فقط في مضغ اللوتس مع أكلة اللوتس دون التفكير في عودتهم لنا! ومع ذلك، ورغم بكائهم بمرارة أجبرتهم على العودة إلى السفن وربطتهم للمقاعد، ثم طلبت من البقية أن تعود إلى متن السفينة فوراً خوفاً من أن يحب أي منهم طعم اللوتس ويتخلى عن الرغبة في العودة للوطن، لذلك اتخذوا أماكنهم وضربوا البحر الرمادي بالمجاذيف الخاصة بهم.)
لكن هذه الملحمة للأسف لم تذكر لنا هذا المكان، ربما لأنه كان مشهور في وقتها للجميع حتى لم يحتج هوميروس عناء التعريف به! لكن أبو التاريخ هيرودوت الذي عاش في القرن 5 قبل الميلادي (يعني 400 وحاجة) كان على يقين من أنهم كانوا مازالوا موجودين في أيامه .. أي أنه كان معاصر لهم .. لكن أين؟
في “ليبيا” الساحلية حسب وصفه، وكما أوضحت أعلاه فليبيا الساحلية مقصود بها شمال غرب أفريقيا، من ليبيا إلى المغرب، فماذا قال عنهم؟ هذا ما قاله في كتابه ج 4 الفصل 177 الفقرة 1:
(نتوء يبرز في البحر من بلاد الجندانات Gindanes (قبيلة ليبية أخرى قديمة) يسكنها أكلة اللوتس، الذين يعيشون بالكامل على ثمار شجرة اللوتس، حيث تبلغ فاكهة اللوتس حجم توت اللينتيسك Lentisk تقريباً وتشبه حلاوة التمر! حتى أن أكلة اللوتس ينجحون في الحصول على نوع من النبيذ منه.)
هذا ما قاله هيرودوت بشأنهم حيث يُقربنا من موقعهم بأنهم يعيشون على نتوء في بلاد هذه القبيلة القديمة (أنظر موقعها في جنوب تونس في الخرائط المرفقة)، لكن المؤرخ اليوناني بوليبيوس Polybius يُزيل حيرتنا بشأن مكانهم الدقيق وسر تعلق هذا المكان بزهرة اللوتس حينما يؤكد في كتابة الأول الباب 39 بعنوان “إزدهار القرطاجيين” في الفقرة الأولى على أن أرض أكلة اللوتس هي جزيرة: مينيكس Menix:
(… أخيراً وصلوا إلى جزيرة أكلة اللوتس المسماة “مينيكس”، والتي هي ليست ببعيدة عن خليج سرت الصغرى Lesser Syrtis (أي خليج قابس).)
خليج سرت الصغرى هو اليوم خليج قابس حيث تقع مدينة قابس في جنوب تونس في منتصف ساحله، فأين هي مينكس اليوم؟
ينهي سترابو Strabo هذا الغموض الذي يُحيط بهذا المكان حينما يوضح في هامش له يُعَرِّف فيه بجزيرة مينكس التي يسميها في كتابه الأول الباب الثاني الفقرة 17 مينينكس Meninx بهذه الكلمات:
(في هذا المكان كان هناك مذبح مُكَرَّس لأوليسيسUlysses (أوليس/أوديسيوس الملك بطل ملحمة الأوديسا!) حيث تُعرف مينينكس Meninx الآن باسم جزيرة “زيربي”Zerbi ! على جانب خليج السرطانات Crabs، على ساحل إفريقيا.)
خليج السرطانات الباين هو خليج قابس .. وجزيرة “زيربي” هي جزيرة جربة اليوم! لكنني لم أتصور أن الجرباويين قد بنوا مذبح باسم ملك الأوديسا لمجرد أن زارهم لساعات، عموماً لمعرفة مكانه سأسأل جرباوي متخصص في تاريخ وآثار جزيرته.
على أي حال ما كنت أعرفه عن هذه الزهرة هي أنها مائية تعيش وتنمو في المياه الضحلة، وبالفعل ظهرت زهرة اللوتس التقليدية هذه في العديد من الرسومات القديمة التي حاولت توثيق قصة هؤلاء (مرفق إحداها) حيث تُريهم وقد أسكرهم أكل هذه الزهرة أو ثمارها، وقد بدا لي أن تكون جزيرة جربة هي أرضها منطقي جداً طالما أنها تعيش غارقة في البحر وهناك منطقة ضحلة كبيرة بينها وبين الساحل التونسي يعرفها كل الليبيين الذين ذهبوا إلى تونس بسيارتهم، حيث يلاحظون أن الطريق هناك تكاد تكون طريق البحر!
إلا أنه تبين لي أن لها عدة أصناف، وأن لوتس هوميروس غير مُحدد بدقة للأسف في المصادر التاريخية، وإن كان البعض يرشح الشجيرة المسماة باسم لوتس الزيزفوس Ziziphus lotus، حيث أنها نبات به فاكهة صالحة للأكل وترتبط ارتباطاً وثيقا بشجرة العِنَّاب، والأهم هو أن موطنها هو منطقة البحر الأبيض المتوسط في أوروبا وآسيا … وشمال إفريقيا! فهي في ليبيا وتونس تعرف باسم شجرة الزنزافور (مرفق صورتها)، ثمارها مثل النبق والعِنَّاب، تزهر أزهار ذات رائحة طيبة جداً، يمكن أن يصل ارتفاعها إلى 5 أمتار، ذات أوراق خضراء لامعة يبلغ طولها حوالي 5 سم، ثمرتها صالحة للأكل من نوع الحَسَلة، أي ثمرة مثل الخوخ والمشمش تتكون من جزء خارجي يوجد بداخله نواة صلبة كيرة نسبياً، كروية بقطر 1 سم ونصف ولونها يشبه لون ثمرة العِنَّاب، مع العلم بأنها في طور الانقراض في تونس!
يتبقى لي سؤال لأشقائنا التوانسة؛ هل مازالت الزنزافور موجودة في جزيرة جربة؟ وهل هي نوع فريد من اللوتس عاش عندهم؟ أم أن هوميروس كان يتحدث عن نوع منها انقرض مثلما انقرض نبات السلفيوم من بلادنا؟ أم مازالت بقاياه تنمو هناك في غفلة من الجميع؟
على أي حال كون رجال الأوديسا هبطوا على جزيرة جربة لا يعني أن أكلة اللوتس يعيشون فقط فوقها! إذ سبق وأن أوضح بأنهم يعيشون على نتوء يبرز في البحر من بلاد الجندانات Gindanes وهي قبيلة ليبية أخرى قديمة، هذا يعني أنهم عاشوا في المنطقة من شمال الجندانات إلى البحر، ما بين غرب ليبيا وجنوب شرق تونس، البعض يُزيدنا تحديداً لهذه المنطقة: على البحر ما بين الحدود الغربية لمدينة لبده الأثرية إلى قابس شرقاً .. وجزيرة جربة هي في منتصف هذه المنطقة الشريط الساحلي.
فهل زوارية اليوم من أحفادهم؟ لم لا وهم يعيشون في أرض اللوتوفاجيين منذ مئات السنين وربما حتى ما قبلهم؟
إلى أن نجد إجابة أود أن أختم بإجابة سؤال ليس فقط لم تجيب عليه المصادر التي ذكرت هذه القصة بل لم تطرحه أصلاً ! مما يجعل ما سأذكره الآن بحث يُنشر لأول مرة!
السؤال هو: ما سبب نعاس البحارة بعد أكلهم للوتس؟ ولماذا لم يعودوا يرغبوا في العودة إلى وطنهم؟
إذا كان ما أكلوه هو حقاً ثمار الزنزفور فإنني لم أقرأ ما يفيد بأنها تُسبب النعاس والكسل وكراهية الوطن! حتى زهرة اللوتس ذاتها لا تتسبب في ذلك!
حتى القصة ذاتها تقول بأن هذه الثمرة هي طعام سكان الجزيرة الرئيس!! فكيف استقبلوهم يقظين في حالة جيدة من النشاط ولم يقل هؤلاء البحارة أنهم وجدوهم فاقدي الوعي أو نائمين على أرض جزيرتهم؟
لذا الأغلب عندي هو أن سبب رغبة البحارة في البقاء في الجزيرة ليس الثمرة ذاتها وإنما طيبة وحسن ضيافة أهلها وكرمهم .. نساء ورجال! أضف إلى ذلك أنهم بحارة، ومن المعروف أن حياة البحارة وعرة صعبة يعانون فيها يومياً من برودة الجو ومصارعة الزوابع والأمواج وجذب المجاديف والحبال الخشنة الثقيلة مع تأرجح سفنهم طوال الوقت لدرجة أن أسرة نومهم عبارة عن شباك معلقة!
وكأن كل هذا لا يكفي كانوا قد وصلوا إلى الجزيرة – وكما يقول مصدرنا الأول هوميروس ذاته – منهكين جداً بعد صراع مرير مع البرد والأمواج والرياح ورعب الموت غرقاً طوال 9 أيام متواصلة!
فإذا أضفنا أن رحلتهم هذه كانت رحلة من رحلات بحرية مضنية عديدة أبعدتهم عن وطنهم طوال سنوات عديدة مضت … نُدرك أن هؤلاء البحارة التعساء لم تُسكرهم ثمار اللوتس بقدر ما وجدوا في جزيرتها الجمال والهدوء والكرم والضيافة والراحة بعد عناء 9 أيام متواصلة مع المجهول!
أفلا يكون من الطبيعي أن يتركوا أجسادهم تسترخي على أرض الجزيرة خصوصاً وأنها قابلتهم بالماء والثمار المغذية الحلوة والمعاملة الحسنة من أهلها بدل الخوف منهم ومقاومتهم بصفتهم غرباء؟
لا علاقة إذاً للثمار اللذيذة التي تناولوها إلا في أنها أجبرتهم على أخذ قيلولة ممتعة في هذا المكان الجديد الجميل، والتفكير في الاستقرار هنا مادام الوطن قد صار بعيد جداً عنهم زماناً ومكانا!!
فالأغلب أنها إشاعة أطلقها ملكهم حتى يمنع باقي طواقمه من الهروب من جحيم حياتهم على متنن سفنه والإقامة في هذه الجزيرة متنعمين بحياة جديدة بعد أن يأسوا من العودة إلى الوطن بعد سنوات!
هذا رأيي الشخصي على أية حال!