المقالة

قطرة عطر.. في بحر الشعر

 

في منتصف القرن الماضي, صدر كتاب (الشعر والشعراء في ليبيا) بتأليف (محمد فريد أبو حديد).. ولا أعلم.. ما إذا تضمن هذا الكتاب أية أسماء لشاعرات ليبيات أم لا?..

فالعثور على كتاب قديم, أمرٌ بالغ الصعوبة, في مكتبات تفتقر للحس الواعي, بأهمية الحفاظ على الطبعات القديمة من الموروث الفكري, والسعي لتعويض كل الفاقد من العناوين, والشعور بالمسؤولية التاريخية تجاه الأجيال القادمة.

لذا يتعذر علينا, أن نؤرخ للشعر والشعراء والشاعرات في ليبيا, من المصادر والمراجع القليلة, الخالية من مقاصدنا التاريخية للبدايات الأولى في الشعر, ومن خلال الإطلاع على العدد السادس من مجلة (الرواد) الأدبية عام 1965، الخاص بالحركة الشعرية, حيث تناولت بالنقد والتحليل والعرض, الكثير من النصوص الشعرية, التي شارك بها كل الشعراء في ذلك (العدد الممتاز) مثل: (إبراهيم الأسطى عمر, رجب الماجري, علي صدقي, خالد زغبية, أبوالقاسم أبودية, حمدان المصراتي).. وغيرهم.

إلا أننا في هذا العدد لا نعثر على أثر للشاعرة!.. باستثناء قصائد الشاعرة المصرية (كوثر نجم) التي يغلب عليها الطابع القومي أو الإنساني, البعيد عن البوح العاطفي, وإلى جانب قصائد أخرى لشاعرات لم يتركن أثراً واضحاً لهن فيما بعد, كما خلت تماماً كل الأعداد السابقة واللاحقة, من هذه المجلة منذ بداياتها, إلى حين توقفها في مطلع السبعينيات من كل أثرٍ إبداعي, ولم ينشر للشاعرة الليبية أية قصيدة فيها !..

هنا لابد من الاعتراف بالفضل العظيم للتأثير الذي أحدثته الشاعرات العربيات, اللاتي نشرن نصوصهن الشعرية المقفاة في أغلبها, والتي تراوحت في مواضيعها بين الوطنية والمشاعر الإنسانية (المألوفة!).. وهي التي كوّنت لها تأثيراً فاعلاً, سدت به الفراغ الناتج عن غياب الشاعرة الليبية المترددة, كما شجعتها على المحاولة, ودعتها بطرفٍ خفي إلى حدائق الشعر الملونة لترقب آفاقها السحرية, وتلتقط ما أمكنها من الصور, بأنامل انثنت طويلاً, وكلّت الإمساك بلحاف يغمم وجهها وعقلها, ولا يفتح أمامها غير ثقب مثلث, ترى من خلاله الدنيا بما حفلت.

كما استظلت الليبية الكاتبة فيما سبق, واحتمت بالجمعيات النسائية في بداية النصف الثاني من القرن الماضي, واسترشدت بقيادة رائداتها الفاضلات, وكان للالتحاق بها فضل في سماع صوتها, وألق حضورها, وإطلاق عنان طاقاتها المكبلة, طيلة قرون من القمع الاجتماعي, متدرجة في أولويات اهتماماتها ومطالبها من التعليم والعمل واتخاذ القرار, إلى السفور والحرية في التعبير, بكتابات اتسمت في البداية بالمقالات الساخنة والحانقة, في رفضها لأوضاع اجتماعية خانقة وظالمة, تسلحت فيها الكاتبة بصياغات إنشائية متشابهة, ومعادية للرجل في بعض الأحيان, بل ومحاربة له أيضاً!.

ثم تحولت إلى الحكاية أو القصة التي تصوّر من خلالها المشكلات الاجتماعية الظالمة لواقع المرأة وحقها في التعليم والحرية, وهي مرحلة تالية حققتها بإنشائية ساذجة في أغلبها, تغفرها لها, البداية, وحسن النوايا, وقلة التجربة.

وظلت المقالات والقصص أسهل منالاً من النص الشعري لوقت طويل, لما يشترطه المناخ الشعري من ثراء لغوي, وقافية ذات جرس منغم, والأهم ما يعوزها من استحضار للصور العذبة التي لا تُرى من خلال الحُجب الثقيلة.

كما اهتدت الشاعرة الليبية بما أضأته لها الشاعرة العربية في تجربتها أثناء عبورها لنفق الإبداع النسائي، وتتبعت باستحياء آثار خطواتها فيه, لكنها أطالت الوقوف وترددت كثيراً أمامه, وبدت في إقدامها متعثرة وهي تحفر طريقها بأيد خالية من الأدوات المعينة وبلا زاد من التجارب السابقة في شق درب طويل لا يحفزها على عبوره غير ذؤابة نور رقيقة من روحها المهفهفة الشاعرة.

لعل البداية التاريخية للكتابة الشعرية تطالعنا عبر صحيفة (بريد برقة) الصادرة في:3/3/1967، وهو العدد رقم (4644) وتحت عنوان (شاعرة من بلادي).. تحقيق صحفي كتبه (علي محمد الرويعي ) يقول فيه: (المحافل الأدبية في مصر تعرفها المعرفة الكاملة في الصحف والمجلات والندوات الأدبية والمهرجانات الشعرية, التقى بها الكثيرون, إنها شاعرة رقيقة (شاعرة الحب) كما يسمونها هنا.. اسمها (عزيزة بن كاطو) وهي من أصل ليبي ).

يلي هذا التقديم حوار تتحدث فيه الشاعرة عن بداياتها عام 1955، وعما نشرته في المجلات الأدبية مثل الرسالة والثقافة ومجلة شعر, حيث درست وتخرجت من كلية الحقوق بمصر عام 1962, وبأنها تعتبر (أحمد رفيق المهدوي) رائداً للشعر في الوطن العربي, كما تتابع المجلات والجرائد الليبية مثل (ليبيا الحديثة, الرواد, الإذاعة ) وتقرأ ما ينشر فيها من أشعار “عبد ربه الغناي” و”خالد زغبية” و”الرقيعي” و”علي صدقي” وشاعرة ليبيا الأخت “كوثر نجم”(!!).

ثم تضيف بأنها شاركت في مهرجان الشعر العربي الخامس بالإسكندرية, ونالت بعض الجوائز الأدبية, كما التقت بالشاعر الشاب -حينها- (راشد الزبير)، الذي يمثل شعراء ليبيا في مهرجان الشعر العربي السابع في غزة بفلسطين- وهو ما يؤكده العدد السادس من الرواد وبعد شهر من المهرجان المنعقد في (23-27/4/1966) بنشر قصيدة طويلة للشاعر (راشد الزبير) وهي تقع في صفحتين وتتكون من (71) بيتاً شعرياً, فيها تحية للمهرجان وحزناً على فلسطين والجزائر!.

وتختم الشاعرة حديثها بخبر عن ديوانها الذي -تحت الطبع- وهو بعنوان (من أجلك أنت).. كما يزدان المقال بصورتين واحدة للشاعرة وأخرى تحادث فيها الشاعر (أحمد رامي) وبرفقة تأطير رقيق يحتوي على قصيدة من نظمها بعنوان (رسالة إليه).

إنني لا أقصد أن أعطي لهذا المقال أهمية لا يمثلها, نظراً لغياب الشاعرة قلباً وقالباً عن الساحة الشعرية في ليبيا, سواء بنشر نصوصها خارج ليبيا, رغم متابعتها الحريصة, ونشرها في الصحافة الأدبية المصرية, فهي لم تنشر أية قصيدة في المجلات الليبية – الرواد مثلاً?، ولم تتفاعل بالتواصل مع رموزها, كما أنها لا تفسر أسباب حضورها المهرجان السابع للشعر العربي، وما إذا كان بسبب اهتمامها الخاص أم أنها كانت تمثل شعراء وشاعرات مصر ?!..

ويبدو الأمل في الحصول على نسخة من ديوانها معدوماً, للغموض المحيط به وعن مدى حقيقة خروجه سالماً من -تحت الطبع!- وهي العبارة التي كثيراً ما تضلل الباحثين في توثيق عناوين دواوين ظلت تنتظر الطبع إلى الأبد!.

لقد أشار الراحل “نجم الدين الكيب” في العدد الشعري من مجلة (الرواد) وفي الصفحة 36 إلى ما يلي: (ما يزال من بين شعرائنا من لم تنشر أشعارهم, وهي لديهم كمشاريع لدواوين تنتظر الطبع, والحقيقة أن تجربة النشر في عموميتها مغامرة يتهيبها الشاعر والناشر معاً, وهي تشكل مغامرة كثيراً ما يخرج منها صاحبها بخيبة أمل مريرة ).

إنها الخيبة المريرة التي نخرج بها من عرضنا لشاعرة ذاع صيتها -حسب قولها- ولا يذكرها أحد.. ولا شواهد لنصوصها ولا امتداد لتجربتها الإبداعية التي ولدت من أصل ليبي ونمت واختفت دون أثر يذكر.

___________________________________________________

صحيفة الجماهيرية.. العدد:4021.. التاريخ:13-14/06/2004

مقالات ذات علاقة

حول الزواج!!!

عطية الأوجلي

رواية التبر .. توطين سرد الصحراء

مفتاح العماري

أيُّ إصلاحٍ يعنون؟!

علي عبدالله

اترك تعليق