المقالة

بطولة مُحامي الرمز عُمر المختار

صورة حقيقية لمحكمة عمر المختار (الصورة: عن الكاتب عبدالحكيم عامر الطويل)
صورة حقيقية لمحكمة عمر المختار (الصورة: عن الكاتب عبدالحكيم عامر الطويل)

بعد 20 سنة من مقاومة الاحتلال الإيطالي يقع البطل “عمر المختار” تحت وطأة الشيخوخة بين يديْ الجيش الإيطالي الفاشستي، وحينما فشل “رودولفو جراتسياني” في تسخيره لإيقاف المقاومة الوطنية أمر حاكم ليبيا الإيطالي آنذاك “بييترو بادوليو” Pietro Badoglio (1871- 1956) في برقية له بتاريخ 14 سبتمبر إلى “رودولفو غراتسياني” Rodolfo Gratsiani بـأن يُقيم محكمة صورية له على أن يكون حكمها هو عقوبة الإعدام لإسباغ الشرعية على قتله شنقاً، كما يجب أن ينفذ هذا الحكم في تجمع سكاني كبير وهو أشهر معسكر اعتقال لليبيين في مدينة سلوق حتى يراه أكبر عدد من الليبيات والليبيين تنكيلاً به وإرهاباً لما بقي من المقاومة الوطنية.

وبالفعل أقاموا هذه المحكمة التمثيلية في 15/09/1931، والصورة المرفقة هنا هي صورة حقيقية نادرة لها، يتبين منها أن المخرج الأمريكي الراحل “مصطفى العقاد” حاول جهده لإعادة بناء شبيه لها في فيلمه عن عمر المختار “أسد الصحراء”:

حاكم ليبيا الإيطالي بييترو بادوليو Pietro Badoglio (1871- 1956)
حاكم ليبيا الإيطالي بييترو بادوليو Pietro Badoglio (1871- 1956)
رودولفو جراتسياني Rodolfo Gratsiani (1882- 1955)
رودولفو جراتسياني Rodolfo Gratsiani (1882- 1955)

وبما أن حتى المحكمة الصورية تقتضي حضور محامي عن المتهم، إضطروا إلى تكليف محامي لعمر المختار، غير أن القدر كان له رأي آخر! فبدل أن تكون محكمة صورية للتنكيل برمز المقاومة الليبية ضدهم تحولت إلى محكمة إثبات براءته وبطولته ووطنيته أمام ليس فقط الفاشيست والشعب الإيطالي بل أمام كل التاريخ حتى هذه اللحظة!!

وطبعاً من سخريات الدنيا أن الانقلاب القانوني الذي تنكبت به هذه المحكمة من الضد إلى التأييد لم يأت على لسان عمر المختار ولا على يد أي ليبي بائس في الجوار وإنما عملاً بالقول المأثور: من فمك أُدينك! تطبيقاً لقوله جل شأنه في آخر الآية 30 من سورة الأنفال: … وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ!!

فقد جاءت تبرئته التاريخية عن طريق ضابط إيطالي صميم، يحمل رتبة نقيب في جيش المشاة الإيطالي الذي لطالما عانى من ضربات المختار ورجاله الموجعة!

لقد اختاروا شاب إيطالي في الـ35 من عمره آنذاك هو النقيب “روبرتو لونتانو” Roberto_Lontano ليتولى عبء الدفاع عن عمر المختار صورياً، وربما اختاروا ضابط مشاة لا ضابط قانوني إمعاناً في صورية المحكمة حتى يكون دفاعه سطحياً هشاً يتماشى والدور الهامشي الذي أنيط به، بالإضافة إلى عقد مواجهة أخيرة بينه وبين سلاح المشاة الذي لطالما حاربه وهزمه

المدهش هو أنه بالرغم من أن مرافعته محفوظة في السجل الرسمي للمحكمة، إلا أنهم لم ينشروا إلا مقتطفات منها، لكن حتى هذه المقتطفات رغم أنهم حاولوا طمس معالمها وتقزيم حجمها ولوي معانيها وبالتالي قتل أثرها إلا أنها أثبتت بأنها قد صدمت الجميع: أعضاء المحكمة والجيش وعمر المختار ذاته والشعب الإيطالي والليبي والتاريخ كله فيما بعد!

انصدموا بتجاهل النقيب روبيرتو في مرافعته – أو على الأقل تظاهر بالتجاهل – بأن هذه المحاكمة ليست سوى صورية تحاول أمام العالم إضفاء الطابع الرسمي لحكم الإعدام المُقرر سلفاً لعمر المختار، لكن النقيب روبيرتو تجاوز الدور الذي كان مخصصاً له، وبدل أن يطلب الرحمة لشيخ عجوز .. قدَّم مرافعة قانونية مُحكَمة كانت على قدر مذهل من الاحترافية القانونية الذكية في صف المُدعى عليه!

فلم يتوقع الحاضرون أن يقول بأن “عدوه” قد حارب من أجل بلاده! كما نفى عنه تهمة التمرد والخيانة العظمى التي تتهمه بهما المحكمة بتسلسل منطقي قانوني مدهش في دقته، مبرراً به حق المتهم في اعتباره أسير حرب بدل ذلك، ثم ختم مرافعته بالاقتراب قليلاً من رغبة أسياده، لكنه ما كان له أن يقوله لو لم يتوافق مع قناعته الشخصية، فقد طلب ظروف مخففة له بالاستناد إلى تقدمه في السن وتعصبه الديني.

بالطبع ساد الهرج في قاعة المحكمة وغضب القاضي منه وهدده بأنه تجاوز الأوامر التي أعطيت له، وهما عسكريان يدركان مغبة مخالفة وعدم تنفيذ الأوامر، ثم دخلت مرافعته أحد أدراج التاريخ المُشَرِّف، لكنها لم تساعد للأسف حتى في تخفيف الحكم عليه! إذ حكم القاضي مباشرة بإعدام المختار وحدد حتى مكان الإعدام المحدد سلفاً – سلوق

في اليوم التالي مباشرة من هذه المحكمة (16/09/1931) أعدموا عمر المختار، حيث تحول هذا اليوم في ليبيا إلى عطلة رسمية باسم “يوم الشهيد”، لكن ما أهمله التاريخ من هذه القصة المؤثرة هو أنه في ذات اليوم قبضوا على النقيب “روبرتو لونتانو”!! وعاقبوه بالسجن 10 أيام في زنزانة جزائية بتهمة نطق دفاع بنبرة متعاطفة مع الجاني، مما أضر تماماً بحياته العسكرية، بل ربما بما بقي من حياته، إذ بحثت طويلاً عن سيرته فلم أجد شيء غير ما كتبت عنه هنا للأسف، حتى تاريخ وفاته ومكن رقاده الأخير وأسبابه لم أتمكن من معرفته!

ثم تدور السنين ويعود إلى الظهور مرة أخرى وبشكل مشرف في فيلم سينمائي سنة 1981، حيث قام الممثل الإيطالي “لوتشيانو بارتولي” Luciano Bartoli بدوره خير قيام في فيلم “أسد الصحراء” الذي أخرجه المخرج الأمريكي الراحل “مصطفى العقاد” حيث مثَّل فيه نخبة من كبار نجوم العالم السينمائيين،

وقد كان لوتشيانو ممثل إيطالي عمره آنذاك 35 سنة (مواليد 1946) أي بالضبط في عمر المحامي الذي قام بدوره! في لفتة ذكية جداً تُحسَب للخبرة الكبيرة التي ملكها الراحل مصطفى العقاد.

ثم توفى هذا الممثل هو كذلك في غفلة تامة منا في مدينته روما سنة 2019 بعد أن شارك في تمثيل 16 فيلم في الفترة من 1967 وحتى 2007.

إنني أنقل لكم هنا نص مرافعة النقيب “روبيرتو لونتانو” كما جاءت حرفياً على لسان الممثل “لوتشيانو بارتولي” في فيلم “أسد الصحراء” بعد أن ظن الكثيرون أنها مجرد حبكة سينمائية تشويقية لزيادة مبيعات الفيلم لا حدث حقيقي بحذافيره:

لونتانو: أنا جندي إيطالي، وفي الميدان أنا عدو له، ولكن هنا، أنا مُضْطر .. أنا مُعَيَّن للدفاع عنه،

أنت مُسِن، أكبر منا جميعاً، ولن أُتعبك بطرح أسئلة كثيرة، هل خضعت يوماً للسلطة الإيطالية؟

عمر المختار: لم أخضع!

لونتانو: هل تسلمت يوماً نقوداً أو أيةَ مساعدة من الحكومة الإيطالية، لقاء التزامك بحسن السلوك؟

عمر المختار: لم أفعل! أبداً!

لونتانو: إني أُعلن، أن عمر المختار، أبداً لم يخضع لنا، أبداً لم يأخذ مساعدة منا، أبداً لم يعترف بحقنا في حكم هذه المستعمرة، إذاً لا يحق لنا منطقياً أو عدالة أن نُحاكمه كمتمرد، وإذ نقبض على عمر المختار، وقد أمضى في المعارك 20 سنة، فإننا مجبرون أدبياً على معاملته كأسير من أسرى الحرب!

كانت نقلة شطرنجية محترفة جداً من هذا المحامي الشاب أن يقول قوله هذا! إذ أن بإثباته أنه سجين حرب لا متمرد فإن ذلك يقتضي قانوناً ” فك قيوده ومنحه حرية المأكل والمشرب والقبول بفدية مقابل إطلاق سراحه أو مبادلته بمجموعة من الأسرى ” بعد أن أثبت للجميع وعلى الملأ أن عمر المختار لا يستحق الإعدام في عقر المحكمة التي صُنِعت لإعدامه، ولو كانت تتواجد أيامها محكمة الجنايات الدولية لما أمكن للإيطاليين إعدامه بعد هذا الدفاع الموجز المكثف والبليغ!   

لكن كم هو مُحبط أن حتى الليبيين لم يلتفتوا إلى بطولته النادرة هذه التي كلفته حياته العسكرية!

لم نسمي عليه شارع ولا صنعنا فيلم عنه ولا حتى بحثنا عن أكبر أحفاده لنكرمه عن طريقه!

لقد دافع هذا الشاب بملء إرادته وبشرفه العسكري على رمز مقاومتنا للاحتلال الإيطالي ووقف معه في الوقت الذي تخلى عنه الجميع الجميع! كل ذلك دون أن تكون هناك أي قرابة أو مصلحة له في ذلك وإنما فقط حسب ما أملاه عليه ضميره رغم ما فيه من مخالفة صريحة لأوامره العسكرية وخطورة معاداة قادته ووطنه وشعبه، وقد دفع بالفعل ثمن تضحيته هذه غالياً لوحده، حيث غاب عنه الجميع وكأنه واثق من أن جزاؤه العظيم لن يكون إلا عند ربه الذي لا تفوته مثقال ذرة من أعمالنا.

ومع ذلك فقد سمعت من والد زوجتي الدبلوماسي لمتقاعد بعد أن تقاعد في 2009 إن الرئيس الليبي الراحل “معمر القذافي” كان في آخر زيارة له لروما للقاء رئيس وزرائها “سيلفيو برلسكوني” قد طلب مقابلة أقارب “النقيب لونتانو” محامي عمر المختار، لكنني لا أظن أنه قابله وإلا لكانت كل وسائل الإعلام الليبية والإيطالية قد كتبت عن مثل هذا اللقاء التاريخي الكبير! يبدو أن “برلسكوني” قد أشغل القذافي بمتاع الدنيا الإيطالية حتى نسي البحث عن إجابات سؤاله التاريخي هذا، فهل يمكن لسفيرنا في إيطاليا اليوم أن يُكمل هذه المهمة؟

أريد أن أسجل هنا وأريدكم أن تشهدوا أنني أول من يطلب هذا المطلب الوطني من سفيرنا في إيطاليا في رسالة مفتوحة إليه عبر أشهر المواقع الليبية الثقافية وأعرقها!

فلنقدم خدمة فعلية في سيرة شيخ الشهداء، لا أن ننشغل بحلب المزيد من الإثراء والعطلات من وراء سيرته

مقالات ذات علاقة

تُونس من جِلدِ ثورٍ ليبي، وجدارها من رمل!

أحمد الفيتوري

في متاهة المينوتورات

علي عبدالله

الأول من مايو: العمال في عيدهم، هل نالوا حقوقهم؟

ميلاد عمر المزوغي

اترك تعليق