لا تبدوا الدعوة إلى ما يسمى (الاصلاح الديني) معقولة ولا مسوغة، وليكون القول محدداً فالقصد هو قول أنه ما من مسوغ من عقل يبرر القول بحاجة الإسلام إلى إصلاح، خصوصاً إذا ما جاء هذا القول من أفراد أو جهات يفترض صدورها عن الإسلام كمرجع، ومن منطلق الغيرة عليه والحرص على مصلحته، وإذ يحول منطلق تلك الدعوة دون مجرد الظن في نوايا معلنيها، فهو لا يجيب عن الأسئلة التي يطرحها التناقض بين الدعوة إلى إصلاح ديني في ثقافة دين جاء أصلاً لإصلاح ما حاق بالدين السماوي منذ بداياته الأولى من فساد وإفساد، وبين حقيقة هذا الدين نفسه من حيث هو رؤية فكرية وجودية متجاوزة لحدود الزمان والمكان، ومتسامية بالإنسان الذي تتجذر في ذاته على كل المتاح والمتداول مما هو مرتهن لتلك الحدود، ولأن اللغة هي أبرز تجسيدات المتاح والمتداول، فلعلنا نحظى بفهم لما تعنيه دعاوى الإصلاح الديني إذا ما نظرنا إليه من جهة اللغة.
إذ ما من شك في الكلمة التي لا تفيد معنىً محدداً هي كلمة ميتة حتى وإن ترددت على كل الالسنة في طوال الوقت وفي مناسبة وبدونها، كما أن جملة لاتستوعب دلالة (في الذهن أو في الواقع أو في كليهما) وتقصر عن البوح ببيانها هي جملة غائبة عن الوعي، وبموت الكلمة وغياب الجملة عن الوعي تصاب اللغة بالبكم، ولأن اللغة هي لسان الثقافة وأداة تعبيرها وإعلانها عن وجودها وحضورها إلى جانب غيرها من الثقافات، فإن أي من طلاقتها أو بكمها يتجلى في واقع تلك الثقافة وعبر لغتها المنطوقة والمكتوبة مثلما عبر ما يسودها من أفكار وآراء ومواقف وسلوكيات وعلاقات بين المنتمين إليها، إن الإمعية والببغائية والتبلد والابتذال واللامبالاة بما يستحق المبالاة فعلاً كل تلك أدواء تصيب المجتمعات وتصرخ جهاراً معلنة بكم لغاتها وتكسح وتحجر ثقافاتها ( الذي لا تفلح أساليب المواربة والمراوغة عبر توثين مفرداتها ودعوتها بالثوابت المقدسة ) في إخفاء حقيقة موتها، أيضاً لا يعقل أن نستعير لها كليشيهات لفظية نبتت وترعرعت وآتت أكلها في تربة وبيئة أخريين بوهم أن تلك الاستعارة ستعيد الحياة إليها، ذلك أنه لنعلن عن وجودنا كأفراد وكمجتمع وكثقافة لا يستوي أن نستعير الكوجيتو الديكارتي مرددين ببغائية مخزية ( أنا أفكر إذن أنا موجود ) دون أن نعي ما الذي يعنيه التفكير ولا الوجود فعلاً، أو أن نتشبث بمهوم أو مبدإ سبقنا غيرنا إليه، ودون أن نستوعب دلالته أو أن نحيط بظروفه التي نشأ فيها ولا الدوافع التي جاء عنها، فنفرغه من دلالاته لننتهي به إلى شعار أجوف وفارغ، فأن نبشر بالعلمانية التي كانت نتاجاً طبيعياً لما شهدته الثقافة الغربية من تفاعلات وخلافات بين مكوناتها ولمجرد أنها كانت حلاً ناجحاً لبعض من مآزم تلك الثقافة، فلا يبدو أن تفسيراً غير الكسل إن لم يكن التكسح الذهني بمقدوره أن يحيط بتلك الحالة، وكذا الشأن بالنسبة إلى الدعوة إلى الإصلاح الديني، والذي لم يكن فعلاً مطابقاً لتسميته حتى في إطار الثقافة الغربية نفسها التي جاءت عنها تلك التسمية، فما قام به المفكرون الغربيون مثل ويكليف ولوثر وزوكالفن وزونغلي وغيرهم لم في حقيقته إصلاحاً دينياً بل مجرد صراعات أيديولوجية تباينت أسبابها ودوافعها الظاهرة والمعلنة بين الشخصي والقومي والاقتصادي والسياسي، ودليل كونها أيديولوجية أنها لم تتأسس على الدين بل تأسست على الصيغة التي عرفها الغرب للدين وهي صيغة وضعية تعددت التحويرات التي تعرضت منذ شاوول الطرسوسي المعروف في تاريخ المسيحية ببولص الرسول والفريسيين ومروراً بما يسمى المجامع المقدسة بداية بمجمع نيقيا الذي انعقد بناءاً على دعوة من الامبراطور الروماني قسطنطين وبإيعاز من ورثة الطرسوسي واستهدف القضاء على دعوة آريوس التوحيدية الطامحة فعلاً إلى الاصلاح الديني الحقيقي، وتلك حقيقة لا تذكرها مصادر تاريخ المسيحية بل تصمها بالهرطقة وتدعوها بالكفر .
وفق هذا الفهم لا تبدو الدعوة إلى إصلاح ديني مقاساً إلى مفهوم الثقافة الغربية لتلك التسمية مؤسسة على فهم صائب للإصلاح فلا معنى للإصلاح الديني إلا باستعادة الأسس العقدية والأخلاقية الكفيلة وحدها بتحريرنا (ثقافة ومجتمعاً) من مغريات النزوعات الاستحواذية التسلطية التي تفرض بالضرورة الانسياق المخزي مع الانحيازات المتدنية (الإثنية والجهوية والطائفية والإيديولوجية) لتبريرها.