طيوب عربية

رقصة على ظهر الميركافا

قصة قصيرة لليافعين

الانتفاضة الفلسطينية (الصورة: عن الشبكة)
الانتفاضة الفلسطينية (الصورة: عن الشبكة)

حينما هبّت رياح الثورة، لم يتأخر فتى المدائن عن اللّحاق بركبها في ذلك اليوم الذي لا تنساه الأجيال، لقد كان الجميع على قلب رجل واحد. الموت لا يخيف الّرجال …! قالها: وهو ينهي مكالمته مع أحد رفاقه. هل مازلت تذكر يا اخي خليفة بالأمس القريب عندما كنا أطفالا نعترض دبابات العدو بالحجارة. أجل بالحجارة. !؟

لقد أبهرنا العالم، ونحن نقبل على الموت بصدور عارية ، وليس في أيدينا غير تلك الحجارة التي كانت ترهب جنود المحتلّ، فقد كانوا يرونها بأنّها حجارة تهبط عليهم من سجّيل من السماء

واليوم لقد كبر الأطفال.. ها هم الآن رجالا يذودون عن حمى الوطن المقدّس، وهم يصنعون أسلحتهم من معادن صبر أيامهم، ويبنون آمالهم من عزيمة الشــــهداء، وكبرياء المساجــــــين، ومن دموع الثكالى واليتامى.

كان فتى المدائن يحدّث جده عن رحلته الأخيرة الخطيرة التي قادته إلى سجن المحتلّ الغاصب قائلا:

– كنّا نحلم بأن تشرق علينا خيوط الشمس عبر منافذ تلك الزّنازين القذرة التي تموج بأسراب البعوض والجرذان، وكان كل واحد منّا ينتظر دوره في المحاكمة أو التّصفية النهائية فهل تعلم يا جدي بأنّ خيوط تلك الأشعة هناك أغلى ما يحلم به السّجين، كلّما كنّا نسمع بتلك التّصفية الجسدية التي تحدث من حين لآخر. وكان كلّ واحد منّا يودع رفاقه منتظرا دوره، وكم كانت تؤلمنا تلك الانتهاكات الصارخة التي تطال الرجال والنّساء، ونحن عاجزون عن فعل أيّ شيء تطوّقنا القيود، وكان الوحد منّا يكتفي بالصّراخ في وجوه الحراس الأوغاد، وها. قد شاءت القدرة الإلهية بأنّني كنت من بين أولئك المحرّرين الذين كنّا في صفقة متبادلة بين الأسرى.

صمت فتى الميادين قليلا، وهو يمسح دمعته التي طفرت على خدّيه، ثم واصل حديثه قائلا:

– أتذكر يا جدي لقد قتلوه أمام عيني…إنّه أبي وابنك فهل تريدني أن أجبن، أو أتخلى عن الثأر له ولكلّ شهداء الوطن …؟

حدّق الجد في وجهه مليّا، ثم قال: معك الحقّ يا بنيّ إنّ صمتي لا يعني الخوف من الموت ولذا فقد قرّرت حمل السلاح والانضمام إلى صفوف المقاومة، وسأكون عونا لك عليهم. فلا تحزن يا قرّة عيني…!

مضت الأيام سريعـة والجميع ينتظـــــرون ذلك اليوم المـــــــوعود الذي يفيض فيه الطوفان على خنازير الأرض التي اغتصبت التراب والزرع والعرض، وها.. قد بدأت قوافل الشباب يتردّدون على مراكز التدريب في سرّية تامة، وكلّ واحد منهم يحمل سلاحه ويعقد العزم على خوض تجربة المعركة الكبرى التي هي بمثابة الطوفان العارم الذي سيجرف حثالة جنود العدو المحتلّ.

في ذلك اليوم وقف القائد محمود الصفدي يخاطب الجميع قائلا: سأحدثكم اليوم عن حرب دبابة الميركافا التي هي العمود الفقري في جيش العدو المحتل، والتي يتكوّن طاقمها من أربعة أفراد، وهم السائق والمدفعيّ والملقّم والقائد، وهي مدرّعة بشكل محكم صعبة التّدمير، ولكن يمكن تدميرها إذا عرفنا كيف نقتنص أفرادها.

 قال فتى الميادين: هلّا أوضحت أكثر سيّدي القائد عن تلك الأسماء التي ذكرتها؟

أجاب: فهمت قصدك أيّها الفتى الذكيّ.

المدفعي: يجلس خلف السائق مباشرة ويتحكّم بالبرج والمدفع الذي يعتبر سلاحها الرّئيسي، ويضرب بعيار 120 ملم، وأمّا القائد فيجلس خلف المدفعيّ من جهة اليمين، ويمكنه أن يتولى مهمة المدفعيّ في حالة إصابته، كما يمكنه التّحكم في كاميرات المراقبة، وأمّا الملقّم فهو يتولّى مهمة تحديد نوعيّة الذخيرة المطلوبة بواسطة أزرار كهربائية.

وزّع محمود الصفدي خريطة خطة الهجوم، وحثّهم على السّريّة التامة كي لا تفشل المهمّة وأعطى تعليماته الصارمة للجميع على أن يكونوا في مجموعات صغيرة من ثلاثة أفراد في مواقع متقاربة، واستعدّ فتى الميادين مع رفاقها في الجهاد، وقد اقتحموا الجدار الحاجز وأحدثوا فيه ثغرات تمكّنهم من النفوذ الى قلب المعركة، وفي صبيحة يوم السبت من السابع من شهر أكتوبر تمّ السيطرة على اختراق الحواجز عبر السيارات الرّباعية الدفع، والدّراجات النّاريّة والطائرات الشراعية والوصول إلى البلدات المتاخمة للقطاع، والتي تعرف بغلاف غزة.

كان ذلك اليوم شاهدا على بسالة شعب يرفض الظلم والاحتلال، طوفان لا يشابهه إلا طوفان النبيّ نوح عليه السلام الذي عمّ الكرة الأرضية في العهد القديم، مع الفارق في الزمن والمكان لماّ بلغ عُمر نبيّ الله نوح ستة قرون، فانفجرت ينابيع ، وانهمر الماء من السّماء مطرا دافقا واستمرت الأمطار مدّة أربعين يومًا، ولكن طوفان الأقصى كان في يوم واحد عمّ كلّ تراب الوطن، فكانت الخسائر في صفوف جــــنود الغاصــــــب المحتلّ تقدّر بالآلاف ، وأسر العديد من العسكريين والمدنيين.

قال فتى الميادين متحدّثا عن تجربته في هذه المعركة:

لقد ركّزت كلّ فكري وجهدي على مهاجمة إحدى دبابات “الميركافا” التي كانت تقابلني وجها لوجه، وهي تطلق قذائفها نحونا، ولم تكن المواجهة سهلة لكننا نجحنا في إصابتها بقذيفة أحدثت بها عطبا، وكانت نيران رشاشاتنا كثيفة، وذلك ما مكّننا من السيطرة على عناصرها منهم المصاب إصابة خطيرة، ومنهم الجريح ،وكنت أولّ من صعد فوق ظهرها، وأخرج عناصرها، وساعتها تكفّل الرفاق بهم، أمّا أنا فرحت أرقص فوقها في حالة جنونية لا توصف. حالة امتزج فيها الفرح بالانتقام، ولما أفقت من جنوني بلغني أن بعض الرّفاق قد ارتقوا إلى بارئهم في عالم الشهادة، ورغم ذلك لم نفقد العزيمة والإصرار على مواصلة تحرير كلّ تراب الوطن، وكلّ مواطن عربي حرّ، بذلك يتحرّر القدس الشريف من كلّ المحتلّ.

مقالات ذات علاقة

سيرة حمار بين الواقع والتاريخ والخيال

زياد جيوسي (فلسطين)

أسمنتت سهرات المدينة! *

إشبيليا الجبوري (العراق)

ثقافة النخبة والرحيل خارج الأسوار

المشرف العام

اترك تعليق