خالد مطاوع قدم رسائلهما في كتاب “أثر الطائر في الهواء”
نشوة أحمد
لعل تأمّل بضعة عقود ماضية، يكفي للتحقق من أثر التكنولوجيا، في قلب حياة الإنسان رأساً على عقب، على نحو أصابه في كثير من الأحيان، بالصدمة والارتباك. وكان الاتصال والمراسلة من أبرز الحقول، التي بدّلت الطفرة التكنولوجية ملامحها، فالرسائل التي كانت أداة الإنسانية الماكرة، للتحايل على المسافات والغياب الجسدي، ومكَّنت الأدباء من ترك إرث إبداعي فريد، عبر مراسلاتهم الأدبية، كما في رسائل كافكا وميلينا، غوركي وتشيكوف، غسان كنفاني وغادة السمان، سميح القاسم ومحمود درويش وغيرهم؛ تعثرت، حين حلَّت الشاشة بديلاً عن الورق، وحين تقلَّص الوقت اللازم لبلوغ الرسالة وجهتها، حتى ظنَّ البعض أن هذا النوع الأدبي، انتهى ولن يعود مرة أخرى إلى الحياة. غير أن جوهر الرسالة، والاحتياج الإنساني الأزلي للتدفق والبوح، لا سيما بالنسبة للكاتب؛ استوعب التكنولوجيا، وطوَّع الوسيط الجديد، في خدمة الفكرة والجوهر، مما منح نفساً جديدا للمتعة، التي أرساها كتّاب كبار، عبر مراسلات نحتت حضوراً كثيفاً في ذائقة العالم، لتعود هذه المتعة الفريدة، مع مراسلات الشاعرين الليبيين سالم العوكلي، وعاشور الطويبي، في كتابهما “أثر الطائر في الهواء” (دار الفرجاني- القاهرة).
في تقديمه للكتاب، تناول الشاعر والأكاديمي الليبي خالد مطاوع -عبر دراسة مطولة شديدة الثراء- تاريخ المراسلات الأدبية، وأثرها على الأدب. وأرجع اختراع الأبجدية، إلى الرغبة الإنسانية في المراسلة. وأضاء الأدوار المهمة، التي لعبتها الرسائل في تاريخ البشرية، مثل دورها في تحرر كوريا من الثقافة الصينية، وتمكين الأقليات الثقافية والاجتماعية والسياسية في كوريا، من تطوير ثقافة جديدة خاصة بشعبها، إضافة لكونها مهد الصحافة، والفلسفة، والرحم الذي أنجبت اللغات، فضلاً عن دورها في الكشوف الثقافية. وارتبطت دائماً بالأفكار الجديدة الناشئة، التي تتحدى الفكر السائد، من أجل التنوير.
استعرض مطاوع أمثلة كثيرة للمراسلات المؤثرة على مر العصور، مثل رسائل الشاعر البرازيلي أنطونيوغونسالفيس، والشاعر الكوبي خوسيه مارتي، الجاحظ، عبد الحميد الكاتب، إخوان الصفا وغيرهم. وأبرز دور هذه المراسلات في التمهيد للرواية، وفي إفادة السير الذاتية، والدفع بعجلة الإبداع، مما جعلها في منظوره؛ حاضنة للاختراع في مختلف المجالات الثقافية والفنية، وهو ما يثير تحفظه في شأن عدم التعاطي معها اليوم كنوع أدبي، وإهمالها في الدراسات المؤسسية للأدب، على خلاف العصور السابقة، لا سيما الإغريقي والروماني.
قواسم مشتركة
حاول مطاوع في مقدمته، التقريب بين الأنواع الأدبية. ورأى أن الرواية هي أقرب الأشكال الأدبية للمراسلة، مدللاً بما حوته مراسلات الشاعرين الليبين العوكلي والطويبي، من توقعات الرواية، وحميميتها. وما اتسمت به من حوارية، فضلاً عن التشويق، والتواتر الدرامي، وتجاذب الأنواع الأدبية الأخرى. لكنه في الوقت ذاته، رصد اختلافاً بين الرواية والمراسلة، التي لا يتضمن سردها حبكة، أو تسلسلاً للأحداث. وأضاء ما اتسمت به رسائل العوكلي والطويبي، من عفوية وحضور لثنائيات “أنا/ أنت”، الزمان “الحاضر/ الماضي”، والمكان “هنا/ هناك”، وكذلك الحضور/ الغياب. وأبرز دور تلك الثنائيات، في تضخيم البعد الجغرافي تارة، وفي محوه تارة أخرى، وفي تغذية مشاعر مشتركة من الحزن والألم والشتات. والتقط التشابه بين هذه الرسائل، ورسائل الفيلسوف بسينيسيوس، من حيث القيمة العالية، وتنوع الموضوعات، والنبرات، والحالات المزاجية. وتوقف عند ما تقوتت عليه من شعر، ونثر، وفلسفة، وتراث من كل أنحاء العالم، ومن كل الأزمنة، مما سمح لها بخلق مساحة جديدة، تمكن عبرها الشاعران الصديقان، من تشريح الواقع الليبي، ولمس جراحه النازفة بالظلامية، والكراهية، والعنف، والقبح، وتقديم سبلاً لتجديد المشهد الليبي، ومرجعية تسمح بإنتاج ثقافة، تساند التحول من العبث إلى المعنى.
رغم امتثال الشاعرين لقانون الشعر، الذي يقضي بالتحرر من المكان، والعيش داخل القصيدة، لم يحل ذلك دون أن تلعب الأماكن، دوراً رئيساً في مراسلاتهما، ففضلاً عن كونها المسؤول الأول، عن تعزيز حاجتهما الإنسانية لتقليص المسافات البعيدة، الفاصلة بين العوكلي، الذي يعيش في كرسا في ليبيا، والطويبي، الذي يعيش في تروندهايم في النرويج -عبر الدور الوظيفي للرسالة- كانت أيضاً رافداً غنياً، يغذي الخيال والذاكرة بالوجوه، والصور، والشعر. فكانت الصحراء رافد الماضي الذي يحمل طفولة سالم، وشغله صغيراً بتقطيع الحطب، وجلب الماء، ورعي الجداء. كما كانت مفردات المكان الليبي نفسه، رافداً آخر، يغذي النوستالجيا لدى الطويبي: “بعض أحلامي في أيامي الماضية كانت عن شجرة التوت في بستاننا… عن رائحة شجرة التين أمام بيتي في الطويبية، عزيزي سالم… هل تذهب إلى البحر القريب إلى بيتك، أم تفضل الذهاب إلى الغابة؟ هل بإمكانك إعطائي وصفاً للنباتات المحيطة ببيتك، وكذلك الكائنات، صغيرها وكبيرها، ليتك تقصص عليَّ ما تعرفه عنها جميعها! ويا ليت لو كانت باللهجة الليبية” ص 142.
كذلك مثّل المكان مرجعية وثيقة الصلة، في غالب الأحداث والقضايا، التي تطرَّق لها الشاعران، والتي تنوَّعت بين هم خاص، وهم عام يتصل بالشأن الليبي، فكانت درنة المحاصرة، مناسبة لاستدعاء قضايا العنف، والتطرف الديني، والجهل والظلامية. وأحال دُرج السجل المدني المزدحم، الذي يكلف المرء، خمسة أيام للحصول على شهادة ميلاد؛ إلى البيروقراطية، والتردي، في حين كانت الشوارع التي تحمل أسماء الشهداء “حتى شهداء الحرب الأهلية”، مناسبة لاستدعاء ذكريات الحرب، والعنف، في زمن الكراهية.
وعبر المكان أيضاً، برزت بعض الثنائيات المتقابلة بين الأنا والآخر، الشرق والغرب، المدينة الباردة والقيظ الحار، الوطن، والمنفى. وفي زخم هذا التقابل، تدفق الشعر، وتدفق الحنين، وبلغ كل من الشاعرين؛ الطبقات الأعمق في نفسه، فتكشَّف عبر البوح، حزنهما الأزلي المشاكس، الذي لا يخلو من انتظار وأمل.
يتسق الحضور الكثيف للشعر في المراسلات، سواء ذلك الذي أنتجته قريحة الشاعرين، أو الذي استدعياه من التراث، أو الذي ترجمه الطويبي عن لغات أخرى؛ مع خلفيتهما الشعرية، ومع أيديولوجيتهما، التي تجعل من الشعر ترياقاً، لكل سموم العالم وشروره. فكانت القصيدة في رسائلهما؛ أداة لإضاءة النفس الإنسانية، ومواجهة قبح الواقع. واستدعى حضورها، قضايا ورؤى نقدية حول حداثة الشعر، غنائيته، جدواه، الصوت الواحد، والصلة بين بعض الشعراء العظام والطغاة، انتهاء الدور القديم للشاعر كمؤسسة إعلامية لقبيلته، وتطور الشعر نحو الهمس، والغموض، والالتباس، والحراك الشعري في المشهد الليبي، الذي تجلى في قصائد تعاقر الواقع، تنوء بالغضب، وبالشعور باللاجدوى، وأحياناً بالخوف؛ نتيجة للقوى الضاغطة خارج النص. وكما ناقش الشاعران قضايا الشعر والإبداع، أرسيا مفاهيمهما الخاصة، فكان الفن الأصيل عند العوكلي؛ هو اتقان ما نفعل برؤية جمالية، لذا فالفنان في منظوره “قد يكون رساماً، أو شاعراً، أوموسيقياً، أو نجاراً، أو ممارس حب، أو صوفياً، أو حتى لصاً يده رشيقة”. أما الإبداع والمخيلة عند الطويبي، فهما نقيضان للوضوح، واللغة الخالية من الظلال.
استفاد العوكلي والطويبي مما يتيحه أدب الرسائل، من انفتاح على الأجناس الأدبية الأخرى، وهو ما بدا من الحضور الكثيف للشعر، والغناء، بالإشارة إلى فيروز، وعوض الدوخي، وأم كلثوم، وعبر استدعاء الرواية، لا سيما رواية “اللحية” للعوكلي، ورواية “الحياة في مكان آخر”، لميلان كونديرا. وأتاح التجاذب بين الأجناس الأدبية المختلفة، إمكان الاشتباك مع قضايا إنسانية، فنية، اجتماعية، سياسية عديدة، مثل العنف، الجهل، الظلامية، العنصرية، الكراهية، الاحتفاء بالموت، ومخاصمة الحياة، وكذا الجسد المطعون إما بتسليع السوق، وإما بخطاب الإثم والإقصاء.
إندبندنت عربية | الثلاثاء 16 يناير 2024