قراءات

عزة المقهور وثلاثون قصة طرابلسية (1)

سالم قنيبر

ثلاثون قصة من مدينتي.. للأديبة عزة كامل المقهور.. وللوهلة الأولى وأنا أقلب صفحات الكتاب ذات الحجم المتوسط.. وأطلع سريعا على عناوين القصص الذي وردت بها.. تبادر لي أنني لن أستغرق وقتا في قراءتها.. إذ أن معظمها قد جاء في بضعة صفحات ولن تحوجني – كما حدث لي بعد ذلك – إلى(التروي).. أو (التأني)… وأيضا (التمهل)… إذا ما أردت متابعة القراءة والتعرف على محتوى القصة.. وربما العودة إلى فقرات منها لتمثل خصائص تتفرد بها أو ما يتميز به أسلوب الكاتبة  العام في كتابة  الرواية.. وما تقصه من الحكايات.

عن الشبكة

• (بعينين راصدتين).. التقطت الصور لمن تتعرض له أو تعرضه من المشاهد.. وتأخذ في تقديمها وصفا متتابعا.. بتفاصيل دقيقة، تنتقل بك إلى المكان أو بمن  تتعرض له وتقدمه من الأشخاص، أو وقائع الأحداث، لتراه بالنظر قراءة.. بمعنى أنها تستحث الرؤية البصرية للتعامل مع النص.. ولا تترك المجال للخيال أو التخيل الذي يصيغه  القارئ ذاتيا من خلال القراءة. المعتادة للرواية.. وتلك الصيغة الغالبة لنهجها في الكتابة.

• وقد نحتاج لتقديم بعض من النصوص للتعريف أو التمثيل… وسنتخير البعض منها للتدليل.. وها هي  تنقلنا معها إلى حديقة بيتهم الخلفية الذي هو – أي البيت – في حي الظهرة، فتقول.. (في حديقة بيتنا الخلفية، في حي الظهرة.. شجرة زيتون يخيل إلي دائما أنها عجوز يتهدل شعرها بفوضى على كتفيها، فأرى أوراقها القصيرة المتناثرة وكأنها شعيراتها المجعدة المتناثرة فوق رأسها، وأرى تجاعيد وجهها على ساق الشجرة.. وألامسها من حين لآخر.. وتبدو جذورها وكأنها عروق العجوز وهي تبرز على يديها المتغضنتين).

• وليست شجرة الزيتون  تلك هي صاحبة القصة.. لكنها تمثل المدخل للقصة أو هي الموقع لصاحبة القصة وهي (الدرجيحة)… التي تقدمها لنا بأسلوبها المميز بدقة بالوصف فتقول.. (كانت الدرجيحة محور يومنا بحبليها المفتولين المتينين المشدودين، المنتهيين بعقدتين تلتفان حول ثقبين جانبيين محفورين على قطعة لوح خشبية مسطحة… كانت سبورة، نقفز عليها بمؤخرتنا التي نجركها بتململ لنعدل من جلستنا ثم نترك سيقاننا للريح.. وبحركة شبه آلية ندفع بها إلى الأعلى ثم نثنيها نحو الخلف.. وهكذا رويدا نتأرجح بين الأعلى والأسفل بشعور أقرب للطائر وهو يحلق في طيرانه).

• ويمضي الزمن وتكبر صاحبة الرواية التي تصف علاقتها  بالدرجيحة بالعلاقة الحميمية المتشابكة.. ويتبدل  بهما الحال بمرور الزمن (… لكن الدرجيحة تشيخ.. تنسل خيوط حبلها.. ويتشقق وجهها.. حتى يأتي ذلك اليوم الذي ينقطع بها الحبل.. فتميل وتظل معلقة من جانب واحد أو يتهشم لوحها، وتتفرق وتتدلى من جانبين منفصلين)… وتختفي الدراجيح  من أماكن إقامتنا… لكن محلها يظل عالقا بالذاكرة).

• وتأخذنا معها إلى شقة عمتها (بالدور الثالث  وسط المجمع السكني بشارع الشط)… لتطلعنا على الشرفتين الأمامية والجانبية  اللتين تختص بهما  الشقة .. وما استقر عندها من ذكريات طفولة  تقدمها لنا تصوير كتابة (… تستخدم عمتي الفيراندا الجانبية لنشر الغسيل صباحا.. تعبئ غسيلها الناصع في سلة بلاستيكية.. تمسك المشابك بأسنانها.. تنحني نحو السلة.. تنفض القطعة بشدة حتى يتناثر رذاذها.. ثم تمدها على الحبل وتثبتها بالمشابك الخشبية). وتأخذنا معها أو مع المشاهد التصويرية إلى (الفيراندا) الأمامية التي تطل على البحر، (.. كانت ضيقة ومستطيلة.. تعلوها أقواس، تمتد على سورها  رخامة بيضاء، وتزين جدرانها ثقوب خشبية متشابكة مطلية باللــون  الأخضر).. وعندما تسمح لها عمتها بالوقوف على الكرسي الخشبي وهي تحتضنها بقوة.. (أرى البحر في زرقته.. والسفن وهي تمخر ببطء، وراء سفينة أصغر.. تبدو وكأنها تجرها نحو الميناء بينما يعلو صفيرها ودخانها).

• ومشاهد أخرى استقرت في ذاكرتها تستعاد بوضوح وجلاء رؤية أولئك الرجال الذين يجلسون أمام مقهى سيدي الشعاب.. والآخرون الذين يتوجهون نحو الجامع… (بينما المؤذن ينادي لصلاة المغرب بصوت غير متناغم)… وهي من موضعها ذلك   تختلس النظر إلى أسفل  لرؤية الجيران وقد افترشوا الحصير وبعثروا مناديرهم.. – كانت فيرانداتهم أوسع لذا.. كانوا هدفا سهلا للبصر – ثم تقول: وتهمس عمتي في أذني (عيب ما تشبحيش للجيران). ونترك العمة وما خلفته من الأثر في نفس الصغيرة ورواية ما ذكرته من شئون ذاتية تخصها… سنعود لتعقبها في حينها. (فيراندا ص 13-144)

• وقد تكون الصور المكتوبة المعبرة عن الصياغة متحركة… مرئيات تتلقاها  تتابعا من الطريق الذي تسير فيه السيارة.. أو من تجوال راجل في شوارع طرابلس وأحيائها وأسواقها  وميادينها.

• (وضغطت بمشط قدمها على دواسة الوقود) ثم.. وعند الإشارة الضوئية في الميدان الواسع الذي تراصت فيه السيارات (متحفزة) بأشكالها وأنواعها… وما إن  ينبعث الضوء الأخضر حتى تنطلق مزمجرة لاستباق الدخول إلى الطريق الموازي لشاطئ البحر.

• ويأتي الوصف التسجيلي للطريق الساحلي الذي يمتد (بين جزيرتي دوران تتوسطهما ثالثة).. وتخبرنا عن الرصيف الذي يفصل جانبي الطريق (كان جزء منه يتزين بشجيرات نخيل الزينة، تنمو ببطء تقاوم رياح البحر وملوحته).. تلك الشجيرات تقول (أقتلعت وحلت محلها لافتات إعلانية تزاحمت على الرصيف تجري في عروقها شحنات كهربائية تضيئها ليلا)، وهو أي هذا الطريق يبدأ بانعطافة إلى اليمين ثم يسير بخط مستقيم لينعطف إلى اليسار ثم إلى اليمين مجددا… وهي تظل تقود سيارتها (وتترنح مع كل انعطافة… يقودها الساحل ويرسم لها خط سيرها).

• وتتعدد المرئيات التي تشاهد على جانبيه، ، البرج العالي الذي يبرز عند فتحة الطريق.. ثم العمارات الشعبية بعد ذلك على يمينه (ذات الطوابق العشرة التي تئن جدرانها وتتصدع.. يلف ساحتها الترابية سور لا أبواب له).. ويأخذنا معها الطريق للمرور بأعلى المباني  في البلاد (برج تسعيني عال مقوس القامة  لونه مزيج من). وعند انعطافة الطريق إلى اليمين يتراءى (مبنى أنيق وعريض) وبعد (إنعراجة) الطريق يمتد سور شاهق (بملامح تاريخية).

• ولا تغفل وهي تتابع مرور المباني عن الوجود البشري  الذي يشغلها ويعنيها بأكثر مما قامت بوصفه من البنيان… ولنا هنا أن نتوقف عند المشاهد القادمة التي تطالعنا ونتريث متأملين… تقول: “ما يهم على طول هذا الطريق ليس المباني التي تحفها.. ولا البحر الذي يتدفق بأمواجه على شواطئها  بل جموع الرجال والنساء الذين يتجمعون في أرض فضاء تنحصر بين البرج التسعيني الشاهق.. والفندق الفاخر على يمين الطريق”… أولئك هم (… بشر من كل لون.. منهم من يخفف الوطء.. ومنهم من يسير بتثاقل، تتجمع هموم الدنيا على كتفيه كأنها الوسق.. نساء شاحبات الوجوه.. يرتدين جلابيب، يغطين رؤوسهن بمحارم ذات ألوان داكنة ينتعلن شباشب بلاستيكية أو أحذية صنعت في الصين تآكلت كعوبها)…” ورجال يرتدون قمصان (تتهدل) على سراويلهم.. يجرجرون أقدامهم بتثاقل كأنهم يسبحون في برك من الطين..ينتعلون شباشب سوداء أو بنية تنزلق في مقدمتها أصابع أقدامهم المبللة بالعرق. وعلى الجانب الآخر الذي هو مقصدهم نساء ورجال.. لعبور الطريق إلى الرصيف المقابل.. (الذي التهمه بالكامل جدار معدني بطلاء رمادي باهت تتمدد على وجهه ملصقات ذات نقوش وألوان زاهية تعد عباراتها بالنعيم الآتي… بمدينة غير المدينة…. وزمان غير الزمان…!!!) ثم تخبر عن النسوة اللائي عبرن الطريق بعد مشقة واستجداء… (ما إن يصلنه لاهثات حتى تنغرس أقدامهن كالجواريف في الأتربة المتراكمة).

• وتأتي على ذكر الرجال  الذين توجهوا نحو الستار المعدني يقطعون الطريق وعيونهم زائغة دون وعي  فتقول (ما إن يعبروا حتى يصدهم الستار المعدني الرمادي.. تنغرس أقدامهم في الأتربة المتجمعة على حوافه يسيرون على طوله.. يلتصقون به).. وتلك هي المعالم لما كانت عليه (مدينتها الجديدة) وما هم عليه العامة من سكانها ذكورا وإناث الذين يعبرون الطريق باتجاه تلك الملصقات الواعدة فيصدهم الجدارالرمادي المعدني وتنغرس أقدامهم في الوحل والأتربة. (مدينتي الجديدة ص 114 -118 القصة كتبت بتاريخ 27/6/2009)

• مشاهد وصفية.. تم تسجيلها تلقيا مباشرا من مواقعها ويتم استعادة تقديمها بدقة تفاصيل ووضوح رؤية ثابتة أو متحركة… وقد اتخذت من مدينتها طرابلس ومن عدد من بيوتها والكثير من سكانها أقارب وعامة مادة متخيرة لتقديمها والحديث عنها.

• وقد نترك طرابلس لنتحرك معها إلى (خارج المدينة) إلى الساحل.. إلى البلدة المجاورة بأزقتها الترابية التي تحفها التلال العالية والطوابي والسواني الخضراء المعمرة بأشجار الفواكه.. وقد قطعت السيارة إليها الطريق الطويل المعبد الضيق (كدودة الأرض) الموازي للساحل… والذي يقع في منتصفه   (السبيتار) بسوره الأبيض المنخفض.

• وعند (جامع بن طاهر) الملاصق له (دكان الحاج علي… المليء بالحلوى والبسكويت) تنزلق  السيارة بهم إلى زقاق ترابي يفضي إلى البلدة… (تنزلق السيارة بيسر عبر الأزقة تعلو وتهبط عند الحفر وتستحث دواليبها الغبار وتستثيره.. تدخل الهلع على الدجاجات التي تسارع بأرجلها الصفراء تستبق أجسادها.. تتطاير على جنبات الزقاق وهي تصيح.. بينما الديك بعرفه الأحمر يقف شامخا على تلة ترابية.)… وبعد بضعة أمتار تتوقف السيارة أمام بيت مضيفتهم… السيدة العجوز.

• بلغت من الكبر عتيا… كأنها (تطل عليهم من زمن سحيق) بوجهها (المجعد كجذع النخلة.. لفحته الشمس كأنه تمثال من البرونز محفورة ملامحه بدقة… قصيرة القامة بفعل ظهرها المحدودب) ويتواصل تقديم السيدة المسنة ليفضي إلى وصف البيت بداية من بابه الوحيد (السماوي اللون) المؤدي إلى الفناء المربع الذي يقع في منتصفه البئر المغطى  بقطعة غليظة من الخشب  و(يتدلى من حبله البني المفتول دلو أسود)… ويتتابع الوصف للبيت الريفيي بحجراته بأفنيته بدالية العنب في أقصى طرف الفناء.. والنخلة السامقة التي (بالكاد يستبين سعفها).. ويؤدي الفناء إلى فناء آخر أكثر اتساعا تخرج منه أكثر من حجرة أسقفها من جذوع الشجر).

• وجلسة نسائية عند حلول المساء.. تتحلق فيها النسوة حول (عالة الشاهي).. وتتابع الصور(الملونة) تصف معدات عدة الشاهي وعملية إعداده.. فنشاهد البراريد (الملونة) المصنوعة من المعدن المطلي.. والكؤؤس الزجاجية ذات الرقاب القصيرة… وتتربع إحداهن أمام العدة.. تضع على الكانون المتوهج براد الماء.. تبعثر فيه حفنة من أعواد الشاي الأحمر ثم تبدأ في عزف سيمفونية كركرة الشاي.

• ومن عملية إعداد الشاهي وتفاصيل تحضير الرغوة إلى تحميص الكاكوية على الكانون… إلى حين الفراغ من إعداد الكأس الثالثة مع الكاكوية… عندها  تتطوع أصغر النسوة سنا  لجمع الكؤوس من الجالسات وهي تدور بالسفرة بينهن.. تتجه بها نحو حنفية مغروسة بين شجيرات نوار العشية والعطر.. تشطف الكؤوس بأصابعها ثم تدلق المياه على الشجيرات العطشى… تعود بالسفرة وهي تطرقع بأصابعها عليها وتدندن بصوت منخفض “أسقي النوار في العشية.. أسقي النوار.. مع الغالي بو عيون كبار في العشية “. ويهبط الليل فجأة على الساحل وتتوقف الحياة إلا من حفيف سعف النخيل.. و.. و.. ونغط في نوم عميق.

يتبع…

بنغازي، 28 يناير 2017

____________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

الشاطئ الرابع: “أن تعيش مع سرّ يعني أن تكون مقيّدًا”

المشرف العام

السلام على منصورة

يونس شعبان الفنادي

إضاءة على كتاب (مملكة الحيوان) للكاتب سعد العريبي – ليبيا

المشرف العام

اترك تعليق