اول طبيب ليبي متخصص في مدينة بنغازي. ابن حي الظهرة بطرابلس والمولود به عام 1882. رجل اجاد مهنته وعشقها. وتمرس فيها واعطى من جهده ودمه الكثير.
الدكتور محمد حسن الفيتوري.. أو (الدكتور بك) كما يحب ان يسميه صديقه شاعر الوطن احمد رفيق. أرسل من طرابلس الى اسطنبول للدراسة وهناك تخرج في المدرسة العسكرية متخصصا في الطب ومعالجة الامراض ضمن دفعة شملت العديد من ابناء الإمبراطورية المترامية الأطراف. وعقب التخرج عين الدكتور بك للعمل في بنغازي اوائل القرن العشرين. تزوج احدى بناتها واستقر بها الى وفاته ايام الحرب العالمية الثانية.
الفيتوري بك كان طبيبا تابعا للجيش العثماني تلك الايام في قصر البركة وساهم فيما بعد في الجهد الميداني الطبي اثناء المعارك الاولى التي وقعت دفاعا عن بنغازي وما حولها منذ مجيء القوات الإيطالية الى شاطئ جليانه ومباشرتها قصف المدينة اعتبارا من 19 اكتوبر 1911.
امتاز الفيتوري الطبيب بالثقافة واتسم بالذكاء وعرف بين الجميع بانه صاحب مهارة وانسانية واضحتين. وعندما احتلت بنغازي بالكامل لم ينسحب مثلما فعل البعض مع الجيش التركي ولكنه _ وهو المواطن الذي يفيض حبا لوطنه ومواطنيه _ التزم البقاء في بنغازي مدينة السباخ والملح ليعالج مرضاها ويخفف من آلامهم مستمرا بكل وطنية (لا تعلن عن نفسها!) في مهنته الإنسانية والطبية الرفيعة وسط ظروف الاحتلال اللعينة وعبر ايام وليالي الفقر والمجاعة المتلازمة بالطبع مع انتشار المرض بأنواعه وتفشى الأميه والتخلف والجهل.. وهي اسلحة فتاكة مثل الاحتلال ذاته.
في زحام وجود الاطباء الايطاليين في بنغازي الصغيرة.. برز اول طبيب ليبي هو الدكتور الفيتوري.. فتح عيادة اضافة الى عمله الرسمي في المستشفى الكبير الوحيد بالمدينة.. استقبل في العيادة المرضى بكل ترحاب وابتسامة ودوده. لم يميز بينهم في العلاج ووصف الدواء وتابع مراجعة الحالات. يروى من عاصره باْنه كان كثير الزيارات بنفسه للبيوت والاكواخ في المناطق الشعبية حاملا حقيبته (عدة الشغل) وليقترب شخصيا من معاناة المواطنين وامراضهم والكشف عليهم. ويذكر ايضا اولئك المعاصرون باْن كبير الاطباء في مستشفى بنغازي وهو إيطالي بدرجة استاذ كان كثيرا ما يحترم اراء الطبيب الليبي الوحيد.. الفيتوري بك.. ابن البلد.. يستفيد منها ويقدر بكل ثقة وعلمية تقاريره
ووصفاته التي تطابق مقتضى الحال!!
هذا الفيتوري.. الذي اصوله من زليتن.. والقادم من الظهرة في طرابلس وخريج إسطنبول.. انصهر في بنغازي وارتبط بصداقات وطيدة مع أهلها.. أحبوه واعتبروه جزء منهم كما لازم مثقفيها وحضر مجالسهم بالقدر المتاح لهم تلك الايام.. وكل ما سنحت له الفرصة من مشاغل العمل ورائحة الأدوية واستهواه الادب والشعر.
احمد رفيق الشاعر الكبير أحد اصدقائه الخلص. ذكره في مقالته الشهيرة (القطوس)
وهي لفظة فصيحه. كانت المقالة بروح القصة ونشرها على قسمين في العددين التاسع والعاشر من مجلة ليبيا المصورة الصادرين في اغسطس _ سبتمبر 1938 بعد مراجعة له إثر الام أحس بها.. رفيق نتيجة عضه قطوسه!! كانت موضع تندر من رفاقه ولم يشأ ان يخبر الطبيب بالسبب.
يقول في سياق القصة.. المقالة (.. فقررت ان ابوح للطبيب في خلوه واستكتمته الامر وجاء حضر الدكتور بك متلهفا ولكن جاء معه ايضا ما أكره ووقع ما احذر وهو صديق يحبني بسلامته.. يحرسه الله بزيادة وكنت احبه فامتعضت من مجيئه وبلعت غصتي وصبرنا لحكم الله غصبا عنا وفوضت امرى الى الله.. وقلت ما اطيحني.
وبعد الترحاب قال الدكتور.. ايه.. ايش بيك لا بأس عليك أمس وانت مثل الاسد قلت البعوضة تدمى مقلة الاسد. فظنني محموما اهذى. فقال بعوضه. ها. صدقت ان البعوض ينقل العدوى الحمى فمتى تجئ نوبة الحمى. قلت لا يابك ليست حمى كما تظن لكنه جرح خفيف في رجلي اهملت العناية به فاستفحل امره!)
والقصة طويلة.. وطريفة جمعت بين شاعر وطبيب في بنغازي الصغيرة تلك الأيام.. اشتهرا بوطنيتهما وصدقهما وظرفهما ايضا.
هذا الطبيب الوطني الانسان وصف باْنه (أكثر من طبيب).. هذا الدكتور محمد حسن الفيتوري.. توفى يوم 15 نوفمبر 1941 ايام الحرب العالمية الثانية. كانت بنغازي مدينة السباخ والملح تشهد قصفا ناريا متواصلا يزلزل اطرافها من قبل الحلفاء والمحور. فيما شرع اهلها الذين لم ينسوا طبيبهم الانسان في اللجوء من ذلك القصف المهول الى الضواحي والمناطق الريفية المجاورة.