بمناسبة ذكرى وفاة الأديب والفيلسوف الليبي الصادق النيهوم
سامي الرياني
يا صديقي.. إن حق للمرء أن ينادي من يكبره بألف سنة وليلة.. سأقول لك يا صديقي..
أقول لك يا صديقي لتهنئ.. ودعني أزف لك البشارة..
أبشرك يا صديقي بأنه ما عاد لدينا صحيفة محلية ولا رئيس تحرير يكدس الكلمات والذباب في درج مكتبه وتتعفن، فنحن الآن يا صديقي نفتح كل صباح صفحاتنا الشخصية ونقذف هُرائنا ومقالاتنا الاستفتاحية في حجور الآخرين، ونطلق الذباب يتسكع على وجوه القُرّاء فوق انوفهم.. ثم ننتظر.. وفي غضون ذلك نتسلى بطلاء أظافر لوحة المفاتيح المتخمة، نلونها بألوان الجوع والوجع وقبسات من أدب عالمي موغل في فلسفة خلق الانسان من ظهر سعدان..
نتسلى كذلك بالنكات، والسخرية من آلتك الكاتبة الجهنمية، فأحرفها لطالما دقت على الورق كمطارق الحدّادين وانطلقت من اليمين الى الشمال، ونحن يا صديقي لسنا حدّادين ولا نُصنّف تحت اي حرفة أو صنعة، نحن فقط فرسان بلا معركة، نمتطي كيبوردات بلاستيكية بلا ورق، لأننا ما عدنا نحب الورق إلا مُعبئ برشفة قهوة لم تعد عربية، فتركض عباراتنا فوق الزجاج طوال العام دون ان تصل الى أي مكان..
فلتهنئ.. ودعني ازف لك البشارة..
ابشرك ايضاً يا صديقي أننا نعيش في جحيم فكري يفوق الجحيم الذي صقل آلتك الكاتبة الجهنمية، تلك الآلة المُقززة هائلة الصوت والتي تجعل المرء يموت من الضحك، ورغم ذلك فكيبورداتنا البلاستيكية الخفيفة – التي تصدر صوتا يشبه مواء القطة – تعجز عن اللحاق بحصانك الحديدي الذي دهس رئيس تحرير الصحيفة المحلية وأذاب الثلوج على طرق هيلسنكي، حتى أن صهيله سُمع هناك.. فيما بين القطبين.. فلتهنئ يا صديقي، فنحن لم يعد لدينا صحيفة محلية ولا رئيس تحرير.. فقط شيء من مقالات مُعلبة وبعض الذباب العائد من المقبرة!
نحن يا صديقي مازلنا نمسح مصباح علاء الدين كل يوم، فيترع المارد البراميل وناقلات الزيت التي لا تشبع، ونقبض ثمنها أمنيات جاهزة في أكياس بصل أو عُلب سردين بلا مفتاح، علب ما برح متعهدو التموين ينهبون ثلاث ارباعها من اجل ان تحظى غجرية من الشمال بدعوة على وجبة كافيار داعرة في بلاد اصحاب اليمين!
فلتهنئ يا صديقي.. أقول لك او لا تهنئ.. فنحن إن هكذا أو هكذا مازلنا نحتفل بأعياد الشوارع الواسعة في ازقتنا الضيقة المظلمة، ونحتفي بتواريخ مزورة وإنجازات لم تتحقق.. ينبت الشوك والطلح في حقول القمح المنسية، ويزدهر البرسيم على موائد طعامنا، لأننا يا صديقي مازلنا نبيع البترول ونقبض ثمنه بعض الأمنيات الجاهزة، نستلمها دائما في اكياس بصل..
فبلدنا كما قلتَ يا صديقي ليس بلدا صناعياً، وها أنا أبشّرك ايضاً انه لن يكون زراعياً، لأن انساننا الليبي المعاصر هو مجرد صبي حلّاق متواضع الامكانيات أسمه علاء الدين، سيعود يوماً ما للعمل في دكان الحلاقة بمجرد أن يفقد مصباحه السحري، فيكتشف ان امنياته الجاهزة لم تعد اكثر من كرات شعر ستنثرها الرياح أو تبتلعها مستوعبات القمامة بجانب سردين متعفن، فالعُلب لطالما كانت بلا مفاتيح..
فلتهنئ.. ولننتظر نحن بجانب المقبرة.. ننتظر موتاً أخبرتنا ذات شتاء أنه لا يحمل منجلاً، وها نحن نعلم أنه لا يحمل كذلك آلة كاتبة تدُق وجه الورق الشاحب، لكننا على ثقة بأنه مازال يمضغ اللبان بنابين من ذهب، وتفوح منه رائحة كولونيا بماركة عالمية، وتذرع عربته الفارهة الشوارع الواسعة فلا يصل أزقتنا الضيقة المظلمة سوى صوت ابواقها و(زفرة) الكافيار، لكنه للأمانة هو مثلنا يكره اسرائيل – هكذا قال – وأقول لك انا فلتهنئ انت في قبرك..
لكن قبل ذلك آسف ان اخبرك بأننا مازلنا نعود من مكة معتقدين أن الدينار الذي نسرقه خيرٌ من ان يسرقه مسؤول البلدية، لأننا – على الاقل – حصائر غُسلت في صحن الكعبة، وربّما قد نفعلها ونسرق الدينار قبل الطواف مباشرة فلا تراهن علينا، اقصد ان لا تراهن على ان الحمار لا يصدر بين حين وآخر صوت يشبه مواء القطة، فقد بتنا نؤمن بما هو ألعن من ذلك، ولا نمل تصديق وعود القادة.. وسرقة الدينار..
فلا تراهن علينا، ولتهنئ في مثواك.. فالأضواء مازالت كما هي- منذ ألف سنة وليلة- تلعق الارصفة ولا ترتفع لأعلى كالغبار والبالونات.. فلتسقط الاضواء إذاً مادام الكل يعلم أن أصدق المقال ما انطلق في الظلام من اليمين الى الشمال، وأن كل الكُنى قد تليق بصاحب الآلة الكاتبة الجهنمية إلّا ان يُكنّى بمسيلمة الكذاب ابن تفاحه ..فنحن يا صديقي نتسلّى فقط ..نتسلّى ونتظاهر بالنهم تجاه كل ما يبدو انه سيبدأ من اليمين ثم ينطلق من الشمال، لذلك ظلت كيبورداتنا البلاستيكية تقتل المرء من الضحك، وتطلق الذباب والريح في وجوه البراغيث، فما من قُرّاء يستجم الذباب على انوفهم أو اوراقهم، فنحن ايضاً رغم انوفنا لم نعد نحب الورق إلا حينما يستدير حول رشفة قهوة .. لم تعد عربية..
فلتهنئ انت.. ولنكتب نحن على الزجاج وننتظر، ريثما يولد صادق آخر من جديد.. او يتم دفننا.