محمود علي | لبنان
«إنك يا خليفة شيء أحبه.. أحبه جداً.. وأحترمه.. إنك ولد صغير ومغرور.. ويسكن في بقعة مظلمة.. ولكنك عندما تكتب تصبح إلهاً حقيقياً».
رسالة من الصادق النيهوم إلى خليفة الفاخري بتاريخ ۹ شباط (فبراير) ۱۹٦۳
رغم مرور ١٨ عاماً على رحيله، ظَلَّ خليفة الفاخري (۱۹٤۲ – ٦ يونيو ۲۰۰۱)، أيقونة حيّة في الأدب الليبي، تُستحضر نصوصه واقتباساته على الدوام من مُؤلَّفاته الثلاثة: «موسم الحكايات» و«بيع الريح للمراكب» و«غربة النهر»، بالإضافة إلى «منابت الريح» الذي كتب فيه صديق دربه القاصّ محمد عقيلة العمامي سيرته الأدبيّة بعد رحيله، وتضمن كتاباته غير المنشورة في كتبه الثلاثة السابقة.
إبَّان الحرب العالمية الثانية، في بنغازي «الخربة من وقع القصف» آنذاك، وَلَدَ «جنقي»، وعاش شقياً، مشاغباً، مشاكساً، رغماً عن الجوع والفقر والغارات الجوية، بعدما مات قبله ثلاثة أخوة. ومن الكتاتيب القرآنية ومكتبة «بوقعيقيص» الشهيرة والمراكز الثقافية الأجنبية، نال (رغم تركه المدرسة في سن مبكرة) قسطاً جيداً من المعرفة والدراية بالأدب والإلمام بعلوم اللغة العربية.. اللغة التي يعتبرها «كائناً حياً» لا مجرد صنم، حتى «أصبحت غولاً خرافياً لا علاقة له بالحياة». يدرس الإنكليزية وتنقل بين العواصم الأوروبية ليقرأ «الكلاسيكيات» بلغتها الأم. لكن الطفل الشقي ما لبث أن هدّأ، وترك هوايات الطفولة خلفه؛ كرة القدم (حيث كان لاعباً مع نادي «التحدي») والملاكمة، وشرع في كتابة القصة الواقعيّة، منذ بداية ستينيات القرن الماضي، منطلقاً من بيئته الليبية (البنغازية بشكل خاص) ومحيطه العربي، متأثراً بشكل كبير في بداياته بإرنست هيمنغواي والعديد من الكتّاب الغربيين، فضلاً عن الكثير من الشعراء والكتّاب العرب، قديماً وحديثاً. إذ سمى أبناءه على غسان كنفاني ومي زيادة وغادة السمان. كانت ملامحهُ «هيبيّه» على طريقة جيل الستينيات، بشاربيه وشعره الكثّ. سطع نجمه عندما بدأ بنشر مقالاته في صحيفة «الحقيقة»، حيث كان يكتب صديقه المقرب المفكر الصادق النيهوم (وصفه بأنه «ينحت الكلمة نحتاً»). والحديث عن أحدهما دون التطرق إلى الآخر يصبح ناقصاً. تأثر كل واحد منهما بالآخر، وظلت الرسائل المتبادلة بينهما (جمعها العمامي في كتاب «قطعان الكلمات المضيئة» بعد وفاتهما)، على عفويتها، من أجمل ما كتب كلٌّ منهما. لقد كانا «بطلين» بالنسبة إلى أبناء جيلهما حينذاك، بما حملاه من أدوات وأفكار جديدة وتمرد على المفاهيم السائدة باعتبارهما أبناء جيل «انظر خلفك بغضب».
إنّ الصداقة سمة أساسية في كتابات الفاخري، سمة تصل إلى حد القداسة، وتدور حولها معظم نصوصه؛ «وأرنو إلى الأصدقاء الذين زرعهم الشيطان بنفسه في المقاهي مثل حزم الصبار». وهكذا، لم يكن النيهوم الصديق المقرب الوحيد لصاحب «موسم الحكايات». الشاعر العراقي عبدالوهاب البيّاتي جمعته به علاقة وطيدة، كما جمعهما الحبّ والثورة والحلم بغدِ مشرق، وتأثر كلٌّ منهما بالآخر، وأصدرا معاً «يوميات العشاق الفقراء» و«عين الشمس» أثناء إقامة الفاخري في كوبنهاغن. وسمى البيّاتي أحد دواوينه على إحدى قصص الفاخري «عيون الكلاب الميتة»، فيما كان «جنقي» يستشهد كثيراً بأبيات من صديقه الذي وصفه بأنه «عالم شعري قائم بذاته».
عاش ساعياً «خلف وجوه الأصدقاء». وفي غربته البريطانيّة، تكفل بترجمة كلمات أغنية «تعاطف» لفرقة «راري بيرد» الإنكليزية، وأرسلها إلى أصدقائه؛ «ليس ثمة حبّ يكفي الجميع.. والتعاطف هو ما نحتاج له يا صديقي». وامتدت عاطفته إلى باقي الكائنات الحية. منذ طفولته، حظي بصداقة حميمة مع خروفه الصغير الذي كان يصحبه معه إلى البحر ويغسله ويمسد شعره حتى «يصبح كلي البياض مثل عين الشمس». حتى جاء العيد وذبح أمام عينيه وظل الخروف ينتفض مثل قلبه. يستدرك معلقاً على شهداء «حرب أكتوبر» الذين قتلوا «كقربان على مذابح سيناء من أجل إعادة العلاقات الدبلوماسية الأميركية» بالقول: «ليست الخرفان وحدها السيئة الحظ… الإنسان كذلك!».
«فتحرك يا رفيق/ وانطلق في العمر مرة/ كي نريق../ دمنا فوق الطريق/ لنرى في الليل ثغرة»، هكذا كانت محاولاته الشعريّة في البداية، متأثراً بوالده الذي اشتهرت قصائده في الخمسينيات عندما تغنى بالاستقلال والثورة الجزائرية، غير أنه توقف عن ذلك مبكراً مستشهداً بـ«عبقري اللغة» الخليل الفراهيدي عندما قال عن تجربته الشعريّة: «رديئه لا يرضيني، وجيّده عصيّ عليّ». كما استشهد بدواوين عباس العقاد المنسية؛ «من يتذكر الآن العقاد كشاعر؟» يسأل. لقد أدرك أنه لا يمتلك الموهبة التي تؤهله لأن يكون شاعراً لأن الموهبة شرط أساسي إلى جانب الثقافة والتجربة واللغة عند «الكاتب الحقيقي» بالنسبة له، و«إسقاط أي عنصر من هذه العناصر هو إسقاط للكاتب ذاته». ومتى ما توفرت هذه العناصر، فإن الوصفة السحرية لنجاح أي كاتب هي في «أن يكون صادقاً.. لا غير!».
مع هذا، كتب الفاخري قصصه وحكاياته ومقالاته بروح النثر والشعر، مطوّعاً الأحداث لرؤيته المستقبلية دونما أن ينتمي إلى مدرسة أدبية معينة. المدارس التي اعتبرها مجرد علامات على الطريق ولكنها ليست الطريق نفسه، مستشهداً بأبو يزيد البسطامي عندما قال: «غِبْ عن الطريق، تصل إلى الله!». لقد كتب القصة بما هي «تأريخ للشعوب» على طريقة غوستاف فلوبير في كتابة الرواية. تاريخ الأزقة الشعبية؛ الأطفال الأشقياء والفتيات الطائشات والعجائز الطيبون والسكارى المترنحون والجزارون الغشاشون و«أصحاب الصمت الوقور» والعمال المـستغلون في معسكرات التنقيب عن النفط حتى «ظلت أكتافهم الندية تعكس أشعة الشمس». وبشكل عام، كان يرى بأنّ التاريخ العربي والإسلامي كُتب من وجهة نظر السلطة، ويحتاج إلى إعادة قراءة وكتابة من جديد. التاريخ الذي أهمل حيثيات ثورات «أهل الأحداث» و«الزنج» و«القرامطة» و«الخوارج» و«التوابين» و«المحررين»، واكتفى بوصفهم بأنّهم خارجون عن الدين.
باختصار، لقد عاش الفاخري حياته مشغولاً بهم الكتابة على نار هادئة. ومتى ما عجز عن ذلك، انصرف إلى أعمال أخرى كونه أيضاً رساماً وخطاطاً ونحاتاً (له منحوتة مميزة على «ديك الجن» الذي تأثر كثيراً بشعره). وإذا ما استعضنا عن الاختصار بما قاله هو شخصياً، سنجده كمن يرثي نفسه سلفاً. كتب يوماً في إحدى قصصه: «ظللت أذرع طريقي طيلة سنين.. وشعرت أخيراً بالإعياء والتعب، ثم قيل لي في النهاية أن المرء، لكي يحب حقاً، لا بد أن يموت.. أن يموت في الحب.. أعني هكذا، على طريقة الفراشات، والأنهار، والحلاج».
نشر بصحيفة الأخبار (لبنان)؛ السبت 2019/6/15 العدد 3782.