انطباعات أولية عند حضور اللقاءات الفكرية
منذ مطلع العقد الثامن من القرن العشرين، ومع الدخول إلى عالم الدراسة الجامعية، والإنشغال في كتابة البحوث الدراسية، ومغامرات استكشاف الكتب بين مصادر مخطوطة ومراجع مبثوثة في ثنايا مكتبات العاصمة ومحلات بيعها، للوقوف على نافذة المشهد الثقافي والمحاضرات الفكرية التي تقام ضمن فعاليات المؤسسات المختلفة. حيث كان الحرص على حضور العديد منها، حضور خفي في كثير من الأحيان؛ حيث الانزواء في ركن الاستماع، دون حراك، في حالة من التهيب والترقب، وأن شئتم الخوف من واقعية هذا المشهد. حيث المرور بمرحلة الإعجاب وتوزيع الابتسامات ثم مرحلة رصد الملاحظات ثم مرحلة المغامرة بالتعليق أحياناً. ورغم الانقطاعات – ظروف العمل- عن حضور الكثير من الفاعليات، والغياب المتعمد أحيانا، حيث الدخول لمرحلة الانتقاء واختيار العناوين المناسبة، وكذلك ضرورة الانتباه لاسم المحاضر، حيث يبث روح المغامرة بالحضور من عدمه، على آمل عدم العودة بخفي حنين. حيث تتباين الفوائد العلمية المتحصلة من هذا الحضور بين الارتفاع والهبوط، في كل مرة. والأسطر القادمة تحمل جملة من الملاحظات والانطباعات الشخصية، تراكمت من خلال حضور الندوات، المختلفة المقاصد، الأدبية منها والتاريخية وحتى السياسية. والتي قد تساعدنا على فهم أزمة هذا المشهد الثقافي وتحليل مظاهرها البارزة.
قبل البداية نرصد ملاحظات عامة:
- كل ما سنرصده من أفكار وانطباعات لا نقصد بها البتة الإنتاج الأدبي أو الثقافي المطبوع. بل الندوات والمؤتمرات والمحاضرات العامة. وان اقترب الحديث عنه أحيانا.
- · “لا تعمم ما تقوله فهناك استثناء دوما” هذا الاعتراض الوحيد الذي نسمعه، وهو ذاته تعليق البعض على الأسطر التالية، وهي مقولة مكررة والجواب نعم، هنالك ثّم استثناءات لا شك، ولكنها ليست محل شغلنا الأن.
مظاهر الأزمة
من خلال رصد النقاط التالية:
- شاعرا كان ام روائيا كاتبا أو صحفيا، لا يعفيه الأسلوب الرقراق والتمكن اللغوي والحفظ الكامل للنصوص التراثية والإنشائية المبدعة، كل ذلك لا يعفيه من فهم المدار س الفكرية المختلفة في مجال النقد الادبي المعاصر منه والقديم.
- لا تكفي خلطة المفاهيم التي يعتنقها الأديب ويحصن به نفسه من الأفكار والقناعات التي تتجمع في مخيلته عبر مرتكزات تربّى عليها واعيا لها، أو بدون وعي منه، وهي عديدة منها الديني والأخلاقي، والمفاهيمي، والإيديولوجي، والمجتمعي. -لا تكفيه ولا تغنيه- عن التمكن وإن شئتم التسلح بالمناهج العلمية النقدية المعاصرة، مع ضرورة الإلمام بآلياتها، والإطلاع بتمكن بتاريخانيتها المؤسسة لها وفهم أطوارها المختلفة.
- عند الاستماع لهذه الفئة من الأدباء الغير مؤطرة منهجيًا وأبستمولوجيا، نجدها تنطلق في أطروحاتها وتنظيراتها، من واقعها الشخصي الفرداني، والتعبير عنه كمسلمات؛ محصنة بفكرة مغلوطة، ترتكز على مقولة يساء استعمالها: (هذه قناعتي الشخصية ولك قناعاتك)، حيث تصبح الانطباعات الفردية مقياس ذاتي لإصدار الأحكام، وخاصة في معالجة النص الأدبي، وعادة لا يصلون في نقاشهم لنقطة تلاق؛ حيث لا توجد نقطة مركزية يتم تحديدها بوضوح من الأساس لمناقشتها، وكذلك بدون أي وضوح للمنهج المتبع في علاجها. علاوة عن غياب أي إتفاق مفاهيمي للمصطلحات التي يتم تقاذفها بمناسبة وبدونها خلال ذلك الحوار، الذي هو أقرب لحوار الطرشان منه لنقاش منهجي بناء، يؤدي الى نتائج معينة.
- يجري تداول وتناول مسميات المدارس المنهجية والفكرية الأدبية منها وأصولها الفلسفية، ومصطلحاتها، عند العديد منهم، -كما في الدراسات المنشورة- لأجل خدمة الجانب الإستعراضي للكاتب حيث يريد إيصال رسالته التي تفيد كونه غني بهذه المفاهيم المصطلحية، وأنه قادر على إقحامها، وإجادة استحضارها، كيف ما اتفق بغباء فاضح في كثير من الاحيان.
- اللافت للإنتباه كثرة الهواة الذين يتصدرون هذه المحافل، والغريب أن يتم التعامل معهم كأدباء مخضرمين، وذلك لذيوع صيتهم في الحضور الفيزيائي بذواتهم المنتفخة بالغرور، أكثر منه حضور لمخرجات أدبية رصينة. حيث يدفعك الفضول للإطلاع على تلك الورقة البائسة التي تود تعريفنا بالكاتب والتي خطها بعناية في رحلة إعلان الوجود القسري، وبعد استعراض المعلومات الأساسية؛ تصدمك قائمة تشبه قائم المطاعم، حيث يصبح حضور الندوات واللقاءات والمقابلات هو الرصيد الوحيد الذي يملكه هذا المتطفل على كراسي المشهد العلمي الأدبي.
- هناك كمية كبيرة من النصوص تجد طريقها للنشر عبر الفضاءات المختلفة، دون تأسيس منهجي يؤطرها. لنجد في غزارة ما ينتجونه (نص نثري-قصيدة شعرية-قصة قصيرة- الرواية) مجرد مشاريع لهواة مبتدئين أو لنقل بناء أدبي عشوائي. مثل عشوائيات البناء المديني.
- أدى ذلك كله لاختلاط الحابل مع النابل فلا نستطيع تمييز الغث من السمين إلا بصعوبة. حيث تراجع بعض الأدباء المبرزين، في حين ترك بعضهم الآخر الساحة للهواة، ويملك هؤلاء الادباء بحق روح مثابرة انتاجاً وعميقة فهما ومنهجا ومستمرة في العطاء، بين حالات مد وجزر من الحضور، وهي جماعة يغلب عليهم طبع التسامح أو لنقل التساهل مع الهواة.
- الوعي بخطورة التأثير في المتلقي؛ حيث يعجز الكثير من الكتاب بمختلف مشاربهم في تبين خطورة الكتابة وتبعية الإسقاطات التي يقومون بها في حقه وما قد يترتب عليه في تغيير وعيه أو نظرته للموضوع والمجتمع والإنسان.
- يشكّل هؤلاء الهواة “قبيلة المثقفين” يحمون حماها من اي وافد جديد، والنظر اليه كمتهجم على حرم القبيلة ومتعدي على أملاكها. وعادة ما يكون الهجوم عبر رسائل الإهمال والتهميش والازدراء أحيانا، ومحاولات استمالة أحيانا أخرى في حال ضمان انضمامك لكراسي المصفقين لسيل ترهاتهم.[1]
هذا يصل بنا الي ملاحظة أخيرة تكمن في غياب النقد؛ حيث يعد النقد بوصلة التوجيه في بحر الإنتاج المتلاطم الأمواج تحت رايات الادب بكل أشكاله. ولعل الخلط بين الشخصاني والموضوعي هو أساس هذه المشكلة، حيث نجد أغلب المتصدرين بالحضور لا يقبلون إلا كلمات الشكر والثناء لنصوصهم وأنفسهم، ونلحظ ذلك بجلاء عند ردود بعضهم التي لا تقبل أي إختلاف لما يطرحه من معلومات أو أفكار مهما كانت ضحالة الفكرة وأحيانا سخافتها. وبالمقابل لا نجد من المعلقين أو المناقشين من ينتقد سخافة ما سمعه وما أهدره المحاضر من وقت لمن جاء يأمل في سمع بعض العلم أو بعض من الثقافة العامة.
كل ذلك يؤدي بنا الى تفهم بعض أسباب تقهقر القيمة الادبية لهذه النصوص، وعدم دعمها لتراكم فكري وأدبي رصين يحرك البنيات الفكرية والثقافية للمجتمع، وهذا يحيلنا الى استقراء الساحة الادبية الحالية 2023 من حيث كينونة المثقفين الذي يقدمون تلك المناشط المختلفة تحت اسم المشهد الادبي، وهل يجوز اعتباره كذلك؟
ولعل الأزمة (إن جازت التسمية) تبدو واضحة في ضبابية هذا المشهد، قبل الحكم عليه بكثرة الأعراض المرضية، عوضا عن تكوين والتزام (مشهد علمي/أدبي حقيقي يسهم في دفع الحركة الثقافية في المدينة، وهذا يحيلنا للتساؤل عن وجود المثقف أو الأديب في المشهد ودرجات تأثيره وتأثره، في حركة دورانية تسهم في تشكل بنيته. مع ضرورة بإلتزام المثقف المعاصر بآليات مضبوطة وفق إحدى المنهجيات المدرسية المعاصرة. أم ترانا أمام مظاهر جديدة للثقافة فرضتها تغيرات المجتمع السياسية والاجتماعية عبر عقود مختلفة ومتخلفة.
ميليشيا الثقافة
في حال وجدنا من ينطبق عليه اسم المثقف بشكل علمي وفلسفي رصين وصار إتفاق على صحة إطلاق هذه التسمية على بعضهم بنسبة 51٪ فلعلنا نجد منهم في هذا الوطن أنواعًا مختلفة منها:
الفئوي/المؤدلج/ الوطني/والإنساني، وقد نجد بينهم من يحمل توصيفًا مركبًا يحتمل أكثر من نوع، أما الأكثر انتشارًا عندنا فنجد:
1- مثقف السلطة. | 2- مثقف القبيلة. |
3- مثقف المدينة. | 4- مثقف الايديولوجيا |
5- مثقف الوطن. | 6- المثقف الشمولي الانساني |
الأصناف الأربعة من النوع الانتهازي المتملق العامل لحساب جيبه أولًا ولحساب الجهة الذي رهن نفسه بالانتماء اليها تانيًا، وتجذر الإشارة بكون تفوقهم وقدراتهم الأدبية والعلمية والفكرية عموما، لا علاقة لها بمنظومة الأخلاق التي تحركهم في سعيهم لتغيير المجتمع، لأن العامة من الناس يتوقع من المثقف أن يكون خلوقًا خيرًا، متصفًا بكل الفضيلة، وهنا تكمن نقطة ضعف المجتمع حيث يتسلل المثقف والسياسي أيضا -بإعتباره مثقفًا- من هذا النقطة، ليحقق مآربه الخبيثة، والتي تتفاوت درجات الخبث فيها من حالة إلى أخرى.
اما الصنف الخامس قد يكون الأقرب لخدمة التعريف الذي لأجله سمي مثقفًا، ويظل يعمل في صمت لأجل مجتمعه ووطنه، إلى حين، تتكالب عليه أشكال الصنف الأول بكل شراسة في محاولة لاحتوائه، حيث يمثل موقفه المتفرد عنهم، حالة غير مرحب بها، تجعل منهم مفسدين أمامه، ويصير مرآة لإفتضاح أمرهم بين المجتمع والوطن. ويبقى كذلك إلى أن يعلن عجزه عن الصمود ضد تيار الفساد الذي يقوده الصنف الأول، ويأتي عجزه بعدة أوجه محتملة: إما العزلة والانزواء في طيات المجتمع المنسية، أو بالانغماس ضمن أصنافهم الفاسدة، وعندها سوف يكون المبّرز بينهم لأنه سيكون مطلوب عند رعاة الفساد بإعتباره الوجه الأقل تلوثًا.
والنوع السادس فهو المغرد خارج السرب الذي لن يجد من يسمعه؛ حيث يسبح في آفاق غير قابلة للتخيل أو التصور من قبل المجتمع.
مع ملاحظة عدم تعرضنا للهواة المنتفخة رؤوسهم بالأنا المشبعة بالثناء، والذين يتسابقون يملئون كراسي الحضور ومنابر الكلمات في ضجيج تذبح فيه المنهجية العلمية، يجعلك تسرع بالمغادرة، أو لعلك تستمر في حضور ذاك الضجيج؛ ليكون نصيبك فقط كأس قهوة في بوفيه مفتوح تريح فيه عقلك وآنت تشاهد نشوة الإنتصارات الموهومة.
وتبقى قلة من الأصدقاء الأدباء والكتاب والمثقفين، الذين سوف تتسع صدورهم لكلماتي حيث لعله عبّرت عن بعض ما يجيش في خاطرهم.
وبذلك نقول وداعًا للإنسان والمجتمع والوطن، إذا لم نسارع بتربية أنفسنا، ونسارع بها في ركب التغيير.
[1] هذه النقطة اقترحتها احدى الصديقات التي تشاركني الرأي فيما ذهبت اليه.