طرابلس – مراسلون:
أسواق المدينة القديمة المقسمة بحسب نوع المنتجات المنتشره صناعتها في كل شارع، أصبحت تمتلئ بالمنتجات المستوردة الرخيصة وعديمة الجودة. لم يخفِ الحاج رمضان الدغري – 85 عاماً –، استياءه مما آل إليه حال سوق المدينة القديمة، والذي كان يعج بمختلف المنتجات التقليدية، فيما غزته اليوم بضائع أقل جودة وثمناً مستوردة من دول العالم المختلفة. “لولا كبر السن ما تركت حرفتي التي أفنيت عمري فيها” يقول الدغري، ويستدرك قائلاً “أبنائي يعلمون جيداً أن حرفة النوالة والنسيج لن تطعمهم خبزاً هذه الأيام، لذلك لم يفكر أحد منهم باحترافها”.
عزوف الحرفيين
هو لا يلومهم على هذا العزوف بل يقول “لا أرى أنهم مخطئون فالصناعات التقليدية في بلادنا أصبحت تعاني الكثير من الإشكاليات، وحتى أنا حملت آلة النسيج – النول – التي رافقتني مشوار حياتي لأكثر من خمسين عاماً إلى منزلي، إيذاناً مني بترك حرفتي”. حالة الدغري لم تكن الوحيدة بالسوق، فقد قرر الحاج محمد حمزة المشهور بصناعة الفرامل العربية العريقة (وهي صدرية مطرزة يلبسها الرجال فوق القميص الأبيض الطويل في الزي الليبي التقليدي)، قرر حياكة الطلبيات الخاصة جداً. ترك حمزة مهنة الخياطة والتصنيع، “فقد امتلأ السوق بالبضائع الدخيلة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال منافستها في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها الصناعات التقليدية”، يقول لمراسلون.
رخيصة ورائجة
ويضيف “بعض التجار يجلبون بضائع من دول مختلفة من العالم كالصين والهند ومصر وغيرها، وبأسعار مناسبة جداً للمستهلك، وإن كانت ذات جودة متدنية”، حيث أن الفرملة الرجالية التي يتم تصنيعها بالكمبيوتر تباع في السوق الليبي بعشرة دنانير فقط، فيما يصل سعر الفرملة العربية الأصلية إلى 130 دينار ليبي على أقل تقدير. وبسبب انخفاض أسعارها فالبضائع المستوردة تلقى رواجاً، رغم الفرق الكبير في جودة المواد الخام الداخلة في صناعة الفرامل الليبية الأصلية.
استيراد النحاس
غير بعيد عن هذا التوجه قرر حرفي آخر – طلب عدم ذكر اسمه –، يملك محلاً في سوق “القزدارة” لصناعة ونقش النحاس تأجير محله المتواضع لتاجر عملة، وذلك بعد فشله في مواكبة السوق المحلي الذي غزته المنتجات الصينية والمقلدة، وعزوف المستهلك عن اقتناء المنتجات المحلية لغلاء أثمانها. فيما يعزو الحرفي عبد الرؤوف النحاحسي أسباب قيام جل مزاولي مهنة “القزدرة” (صناعة ونقش المنتجات النحاسية) في السوق بترك المهنة وتغيير نشاطهم، لعدم اهتمام الدولة بهم وتواضع الإمكانيات المتاحة للعمل. ويؤكد النحاحسي أنه وغيره من مزاولي هذه الصناعة يضطرون لتوفير موادهم الخام من خارج البلاد، بما في ذلك الفحم والنحاس، ويواجهون في سبيل ذلك مشكلات كثيرة تتعلق بسوء النظام المصرفي ومشاكل توريد هذه المنتجات الممنوعة وغالية الثمن إلى ليبيا.
التجار والحرفيين
تجارة الصناعات التقليدية في ليبيا كما في دول الشرق الأوسط عامةً تلقى رواجاً كبيراً لدى السياح الأجانب، إلا أن غياب الرقابة على المنتجات وغياب دور الحرس البلدي، فضلاً عن عجز نقابة الحرفيين عن توفير أي دعم للحرفيين الليبيين بسبب قلة الإمكانيات، ساهم في جعل هذا السوق يخلو تقريباً من الصناعات الأصلية. هذا ما يوافق عليه الحرفي عادل رمضان، الذي يلقي اللوم أيضاً على التجار الذين يسعون لتحقيق أرباح مادية سريعة على حساب أبناء السوق الأصليين، عن طريق إغراقه ببضائع مستوردة ورخيصة. ويقول رمضان بحسرة أن محال المدينة القديمة تفتقر لأبسط الشروط الصحية من حيث التهوية والاتساع، كما أنهم يعجزون عن توفير الأدوات الأساسية المستخدمة في الصناعة، مستشهداً بقطعة من الفولاذ يستخدمها لطرق النحاس قائلاً “ورثت هذه القطعة عن أبي الذي ورثها بدوره عن والده”.
والذهب والجلود
الاستياء والشكوى هو لسان حال صياغ الذهب بسوق باب الحرية أيضاً، فقد أجمعوا على أنهم متضررون من انتشار أنواع مستوردة من الذهب في السوق عياراته متدنية جداً تصل حد تسعة قيراط، ناهيك عن انتشار ما يعرف بالذهب الأفريقي (وهو ذهب مقلد يشبه الحقيقي وأسعاره رخيصة جداً). أما سوق الحلقة المشتهر بالصناعات الجلدية فلم يتبق فيه سوى عائلة واحدة – عائلة بن حمودة – لا زالت تعكف على صناعة السروج الليبية، في حين تنازل الحرفيون بالسوق المذكور عن محلاتهم للتجار، الذين تفننوا بدوهم في إغراقه بكافة المنتجات الدخيلة وبأسعار زهيدة. وقد تبدلت في سوق الحلقة السروج الليبية الأصيلة التي تأخذ ألوانها ونقوش تطاريزها من التراث الليبي، وتصنع مجوهراتها من الفضة والذهب، بأخرى مزينة بمواد بلاستيكية، وملونة بالطلاء.
نقل التبعية
عضو نقابة الصناعات التقليدية جمال محمود الداقيز أكد لـ”مراسلون” أن الحرفي الليبي يعاني بشكل كبير من عدة مشكلات، والنقابة لا تملك أكثر من مخاطبة الجهات المختصة والإلحاح عليها لوضع حلول لهذه المشكلات. ويلفت النظر إلى أن السبب الأكبر وراء الخلل الحاصل حالياً هو نقل تبعية إدارة الصناعات التقليدية من وزارة السياحة إلى وزارة الصناعة، خاصة وأن الأخيرة لديها الكثير من المشكلات التي لا تترك حيزاً للاهتمام بموضوع الصناعات التقليدية “وهو ما يضع همومنا في خاتمة المهام المناطة بوزارة الصناعة”، يقول جمال. ويضيف الداقيز بصفته أحد الحرفيين الذين ينسجون الأردية التقليدية النسائية في ذات السوق أن “ارتفاع إيجار المحلات وقيمة الضرائب التي يقوم الحرفي بسدادها، وكذلك عدم وجود ضمان صحي أو قانون خاص بسن التقاعد للحرفيين، الذين ينبغي أن يتقاعدوا مبكراً بسبب صعوبة عملهم، كل هذا يؤثر على ازدهار الصناعة”.
شهادات تقدير
ويشتكي الداقيز قائلاً “وزارة الصناعة لاتتذكر وجودنا إلا عند طلبها بعض المقتنيات للمشاركة في المعارض والمحافل الدولية، والتي لا نتلقى مقابلها إلا بعض شهادات التقدير، ناسين أن الحرفي يضطر لترك عمله الذي هو غالباً مصدر رزقه الوحيد للمشاركة في هذه المعارض إرضاء للوزارة”. رغم أنهم – يقول الداقيز – مروا خلال الثورة بفترة كساد طويلة، ولم يكن لديهم خلالها مصدر للرزق، لكنهم لم يطالبوا كغيرهم بمعونات مالية، وهم في الوقت الحالي يدفعون الضرائب والإيجارات، مع أن وزارة الاوقاف بعد أن آلت إليها تبعية المحلات بمشروع المدينة القديمة زادت الإيجارات بنسبة 65%. كما أن بعض القوانين الاقتصادية التي لا تزال سارية من عهد النظام السابق – وفقاً لجمال – تعرقل أحياناً عمل الحرفيين، ضارباً المثل بقانون حظر استيراد وتصدير النحاس من ليبيا، رغم أن هذا المعدن متوفر وبكثرة كمادة خام، ولا يحتاج سوى لإعادة تصنيعه على شكل سبائك في إحدى الدول المجاورة.
حلول الوزارة
وزير الصناعة الليبي سليمان الطيف لم ينف علم الوزارة بمشاكل الحرفيين وسوء أوضاعهم، وصرح لـ”مراسلون” أن هناك “لجنة تابعة لوزارة الصناعة تعمل في الوقت الحالي على تذليل الصعاب التي تواجههم”، معرباً عن استعداد الوزارة لتقديم المساعدة المادية لمن يرغب في إنشاء مصنع وتطوير حرفته، حيث تم إقرار صرف قروض لهذا الغرض. أما الخطوات التي تمت بالفعل في إطار دعم الصناعات التقليدية يقول الوزير أنه يتم العمل على “تسريع تهيئة المناطق الصناعية وتوزيع القطع الاستثمارية على المستثمرين بأسعار مشجعة، رغم المعوقات المتعلقة بالانفلات الأمني والاعتداء المسلح من طرف بعض مدعي الملكية السابقين”. فضلاً عن إنجاز الوزارة دليلاً يوضح للحرفيين الإجراءات المتبعة للحصول على قروض للمشاريع من هذا النوع، بالإضافة إلى آلية التوزيع العددي لهذه المشاريع على مستوى المدن ومراقبات الصناعة.