قراءات

حبر على ورق: حكايات من البر الانكليزي

لم استغرب عندما وجدت المجموعة القصصية التي كتبها زميلي وصديقي جمعة ابوكليب، الاديب الليبي النازح الى لندن منذ عشرين عاما، تحظى بمرتبة اكثر الكتب توزيعا، في مكتبات لندن العربية، كما اوردت ذلك صحيفة عربية تصدر في العاصمة البريطانية هي الشرق الاوسط، لسبب بسيط هو ان القصص التي كتبها مؤلفها من واقع حياته في لندن وجمعها في كتاب عنوانه حكايات من البرالانجليزي لمست بصدق اوتار القلوب المهاجرة الى بلاد الصقيع والضباب، وقد رأى فيها العربي المقيم في لندن، جزءا من نفسه وحفنة من احاسيسه ، وصورا لخبراته وتجاربه في ارض الغربة تتقاطع وتتوافق مع الخبرات والتجارب التي اوردتها تلك القصص ، خاصة وان جمعة ابو كليب كتبها باسلوب شديد الرهافة والشفافية، وبعمق وتفاعل حقيقى مع الواقع المحيط به، وحنين الى مناطق الضوء والظل المخزونة من ارض الوطن، واستذكار لندوب وجراح جاء بها الى بلاد المهجر من وطنه القديم لم يجد لها بلسما في حي هارلي ستريب، شريان الحياة الموصولة باخر الفتوحات في عالم الطب والعلاج.

 غلاف كتاب_حكايات من البر الإنجليزي

وبين مطرقتي الحنين الى تلك العوالم واوجاع النفس والقلب التي اخرجته منها، وبين آفاق الحرية في مجتمعات العالم المتقدم وفضاءاته المفتوحة على التحقق والاشباع، وبين عتمة الاجواء المغلفة بضباب لم تألفه الروح المهاجرة، واحساس بالحصاروهو ينتقل من شساعة الاسقف المضيئة العالية للكون الصحراوي تنيرها شراسة اشعة الشمس في تلك القفار الى الاسقف الواطئة المصنوعة من ضباب وسحاب تلمسه باصابع اليد تدور هذه الحكايات العامرة باللمسات الشعرية والمواقف الساخرة التي تقتنص المفارقة الضاحكة رغم حزنها احيانا، ينجح جمعة ابوكليب في كتابة قصة تنفذ من وسط الحياة الى عمقها رغم انها لا تتعامل مع احداث درامية كبيرة ولا تستخدم الحبكة القصصية في التوسل لربط القاريء بها، وانما هي تتعامل مع الواقع في تفاصيله البسيطة، الاحداث اليومية التي يعيشها الانسان في مدينة كبيرة يركب حافلاتها ويدخل يبحث عن طريقه في شبكة القطارات داخل انفاقها ويرتاد مقاهيها ويتواصل مع قاطني المدينة من اصحابها بوسائل الاتصال الحديثة مثل الهاتف المحمول، ويتناول طعامه في مطاعم الاكلات السريعة والخفيفة، ويدخل مثل غيره من الناس سباق الفئران اليومي لملاحقة الرزق، ويقع في مقالب ومفارقات يصنعها اصدقاء وغير اصدقاء، بل تقوده الي هذه المقالب والمفارقات الصدفة احيانا كما يحدث معنا جميعا اثناء حياتنا في مثل هذه المدن.

احداث يومية نعيشها جميعا، ولكن قدرة جمعة ابو كليب تتجلى في كيف يستطيع القبض على رعب الحياة وكوابيسها من خلال هذه الاحداث اليومية البسيطة العادية ، ويجعلك تحس وانت تتابع هذا الفتى الذي يرتشف قهوته في واحدة من مقاهي الرصيف ويلتقي وفق الموعد مع صديق يأتي ليشاركه ارتشاف القهوة، كيف صار هذا الموقف كابوسا، وكيف صار لحظة تتأزم بها حياته، وتنتقل من الاسترخاء الى التوتر ومن سطح الروتين اليومي للواقع الى عمق التفاعلات التي تحصل في ميدان آخر هو العوالم الداخلية للانسان، وبين هذا الانتقال العفوي الذي ياتي دون تصنع ولا افتعال بين العالم الداخلي للشخصيات وبين العالم الخارجي المحيط بها ، تدور احداث هذه القصص التي لا تحمل احداثا، وانما تصويرا بارعا للحياة الحديثة وما تحمله من اوجاع والام ، لا تخفف منها كثيرا ما يتناثر فيها من مواقف ساخرة هازلة ، ومفارقات تصنعها الذات التي تبرع في صناعة ازماتها ، فها هو يبدي ضيقه من زخات المطر التي اعترضت مشواره في شوارع لندن ، ويستحضرفي ذات الوقت عوالم الحرمان التي عاشها وسط زمهرير بلاده وحياة المعاناة التي مر بها ، وايامة التي {عصف بها الريح والرمل} كما يقول في واحدة من هذه الحكايات الشائقة الماتعة.

__________________________

نقلا” عن جريدة القاهرة المصرية

مقالات ذات علاقة

من زاويةٍ أخرى

المشرف العام

الجلوبة وعبدالرحيم بوحفحوف

حسين نصيب المالكي

جيلاني طريبشان كما لا نراه كل مرة

ناصر سالم المقرحي

اترك تعليق