الطيوب
لم يكن مرور “عبدالله القويري” مروراً عادياً في متن الثقافة الليبية، خاصة وهو المغترب الذي يعود لأرض وطن سمع عنه، قبل أن يراه، عاش تفاصيله قبل أن يعيشه ويعايشه، لذا ظل الوطن حاضراً في فكر وأدب عبدالله القويري، بشكل قوي وواضح.
اليوم تمر 31 عاماً على رحيل هذه القامة الفكرية، بعد أن قدمت الكثير من عملها الفكري والإبداعي للوطن، بكل إخلاص وحب، لنجدنا أمام سؤال ملح؛ ما الذي بقى من عبدالله القويري؟ توقفنا فيه مع بعض أدباء وكتاب ليبيا، فهذه حصيلة من استجاب وتجاوب مع سؤالنا!!!
الكاتب “عمر أبو القاسم الككلي”: قصص عبد الله القويري مازالت قادرة على أن تفيد الشباب!
قلت، وكتبت، أكثر من مرة، أنني أعتبر نفسي محظوظا بكون معظم قراءاتي الأولى في القصة كانت في القصة الليبية التي اكتشفت، لاحقا، أنها كانت متطورة جدا وأنها أسست القاعدة التي بلورت لديَّ تصوري للقصة، وأنني حتى عندما اعتبرت نفسي مجربا ومجددا في مجال القصة القصيرة، كان هذا التجريب والتجديد عرفانا بفضل هذه القاعدة. أي بفضل قراءاتي في القصة الليبية.
من كتاب القصة الليبيين الذين أسهموا في بناء هذه القاعدة عبد الله القويري.
صحيح أن عبد الله القويري تكون في مصر وأصدر أثناء وجوده في مصر مجموعته القصصية الأولى “حياتهم: قصص مصرية”، لكنه عندما عاد إلى وطنه اندمج في مجتمعه.
وأعتقد أن هذا الاندماج لم يتطلب منه جهدا، وإنما ساعدته الثقافة التي تشربها في أسرته، التي يبدو أنها حافظت على ثقافتها الليبية، في سهولة ويسر هذا الاندماج.
ما لفت نظري في قصص عبد الله القويري، وأنا أحاول كتابة القصة، مسألتان:
1- حسن إدارته للحوار (ولعل هذا ساعده في كتابة مسرحياته، التي لم أهتم بها).
2- تغلغله وتغوره في نفسيات شخصيات قصصه.
أرى أن قصص عبد الله القويري مازالت قادرة على أن تفيد الشباب الذين يمارسون كتابة القصة، حتى ولو كانوا مجددين ومجربين في هذا المجال. فالتجديد والتجريب لا يتيسران إلا بالعلاقة مع نموذج سابق، أو نماذج سابقة.
الشاعرة “مريم سلامة”: المعلم الكبير!
ما الذي يبقى من كاتب كبير مثل عبد الله القويري؟ والاسم وحده يكفي للإشارة إلى تاريخ عريق من الفن القصصي والمسرحي والنقدي؟ في بلد مهشم مثل ليبيا كلما حاول النهوض أتته ريح عاتية لتقذفه بعيدا عن طريقه والخطوة التي وصل إليها؟؟
ولكن مع كل هذا الألم الذي نستشعره في مثل هذا السؤال؛ يبقى الكثير من أثر هذا الكبير فكرا و أدبا وإبداعا فهو مزيج من عصارة فكر خلاق و روح مبدعة.
في مكتبتي المتواضعة في بيتي الصغير، أجد (ذلك العساس) واحد من أقدم الكتب التي أسست هذه المكتبة قرأته مرات عدة وأنا على مقاعد مدرجات الجامعة مدركة معنى أن تكون الكلمة في مكانها فارضة وجودها رافعة صوتها وسوطها أيضا، الكلمة النافذة الناقدة الضاربة في المترهلات القاصدات ترف الحشو البلاغي ومدغدغة مشاعر القراء.. وهذا الإدراك شكل ذائقتي في القراءة ومنابع وعيي بقدرة الكلمة على إحداث التغيير.
احتفظت في مذكرة كنت أكتب فيها من جميل ما قرأت ومن عظيم ما تأثرت، اقتباسات عديدة من كتابات هذا المعلم الكبير، كنت في كثير من الأحيان عندما أعود إليها أجد فيها إجابات لأسئلة اليوم، ومشاركات في أحداث تدور اليوم تفسر لنا الكثير من الهوان الذي نتجرعه ونخشى مواجهته لأننا من الملومين في تمدد تماسيحه وتغول ألته الهادرة، السنا كتابا نتحمل مسئولية هذه الكلمة
للأسف ضاعت مذكرتي أو ربما اختفت في مكان ما لكن وجودها في وجداني أجد فيه هذا الشبه بين رحيل القامة الكبيرة صاحب القلم المعطاء جسدا من ناحية وخلود هذا العطاء وبقائه في أرواحنا من ناحية أخرى.. عطاء نفتخر بانتمائه إلى جوهر الوطن نستلهم منه ضرورة أن نبقى على إيمان وثقة أن الكلمة أطول عمرا، ولمبدعها البقاء ما بقيت الحياة على وجه الأرض.. وما الحياة إلا عصارة هذه الكلمة.
الكاتب “منصور بوشناف”: معنى الكيان! أول أسئلة الثقافة الليبية!
كان سؤال (معنى الكيان) أول أسئلة الثقافة في ليبيا بعد الاستقلال، وكانت الإجابة على هذا السؤال أول مشروع نظري لكيان حديث اسمه (ليبيا). كتاب عبدالله القويري (معنى الكيان) طرح السؤال، وحاول “القويري” في كتابه الرائد الإجابة عن معنى الكيان الليبي، عن جذوره التاريخية وتجليات وحدته في مواجهة الاخر (الغازي)، ووحدة مكوناته الاجتماعية ووحدة ثقافته ومعتقداته رغم تنوعها.. الثقافة الليبية الحديثة لم تنشغل كثيرا بمعنى الكيان الذي انتجها، لم تنشغل بمكوناته الاجتماعية وتنوعه الثقافي بل ظل يظهر في وعيينا عبر تلك الثقافة “جغرافيا تسكنها قبائل تتكلم العربية وتدين بالإسلام (وتاريخها ينحصر في مقاومة الترك والطليان)، أي أن التاريخ الليبي لا يزيد عن ستة قرون من الحروب والثورات..
أعتقد وبالطبع قد أكون مخطئاً إن العقل الليبي الحديث ظل أسير (عدمية تاريخية) لا ترى من ماضيها إلا القريب من آثار أقدامها على رمل الكيان الليبي التي تمحوه الريح كلما هبت. هذه العدمية التاريخية أدت إلى معرفة ناقصة ومعيبة لهذا الكيان، وبالتالي عدم الإدراك لعوامل وأليات النهضة والسقوط الخاصة به.
الانفجار العظيم؛ ظللنا نرى عبر ثقافتنا الكيان كتلة واحدة صماء، ونرى تنوعه وتعدد مكوناته ومصادر ثقافته أعراض أمراض مؤقته تزول بعطسة قد تأخذ شكل حروب قبلية صغيرة أو حملات تأديب من المركز على الأطراف. ظللنا نرقص (الكاسكا) من حين لآخر دون أن نطرح سؤال الثقافة: لماذا الكاسكا؟ لم نسأل: ما سر خلود رقصة الكاسكا؟ دون غيرها منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام على الأقل وإلى هذا اليوم. الكاسكا رقصة ليبية قديمة صورتها لوحات فرعونية لمقاتلين ليبين وهو يتقاتلون بالعصي، ثم عثر على لوحة تصورها على جدار بـ(إسكتلندا) لجنود “سبتموس سيفيروس” الليبيين عند غزوه لتلك الأصقاع في القرن الثاني للميلاد، ولازال الليبيون يرقصونها الى هذا اليوم.
الكاسكا تصور صراعاً بين قبيلتين على بئر ماء منذ نهايات العصر المطير وحتى اكتشاف أول بئر للنفط. في كتاب عبدالله القويري (معنى الكيان) لا تظهر (الكاسكا) كأحد ملامح الكيان الليبي غبر تاريخه، أعني ملمح الصراع بين أهله من أجل الماء والغنيمة، ولكنها تظهر فقط كمظهر من مظاهر مقاومتهم لغزاة هذا الكيان. وربما هذا أحد ما أخفاه القويري عن اجيال جديدة وطموحة في تلك الفترة تسعى لترميم واعادة بناء ذلك الكيان من جديد .
القويري في (معنى الكيان) يشير غلى معركة الليبيين ضد الجغرافيا الشاسعة التي تشتتهم وتعزلهم، قرى وواحات متباعدة ومدنا هشة ونجوعا تهيم على ظهور رواحلها بحثا عن الماء، يقول إن الليبيين انتصروا في تلك الكاسكا بالثقافة والتاريخ، وظلوا شعباً مترابطاً واحداً رغم حواجز الجغرافيا الكبيرة.. اليوم وبعد أكثر من نصف قرن على صدور كتاب عبدالله القويري ينهمك الليبيون في رقصتهم الدموية، قبائلا وأقاليما ومدنا هشة، ممزقين كيانهم الهش إلى نتف ستذروها الريح، وكل هذا الرقص الدموي يجري على إيقاعات موسيقى يعزفها لهم الأشقاء والأصدقاء والأحبة والجيران ووقدها الليبيون والحجارة