قصة

بيتنا

البيت المصراتي من رسوم الكاتب يوسف الغزال
البيت المصراتي من رسوم الكاتب يوسف الغزال

انتزعوا ابني البكر فجراً من فراشه الدافئ، خرج قسراً معهم ولم يعد، دموعي ودموع والدته المنهمرة بقوة لم تكف، سقطت بغزارة على بعض متاع بيتنا الفسيح فأنكمش واضمحل.

 بعد ليلة طاعنة في الشعور بالعجز، مزدحمة بالكوابيس، جلست في فراشي مرعوباً، اتسعت مقلتي في خوف، النافذة ايضاً صارت كوة ضيقة، سقف غرفتي انخفض كثيراً وكذلك ارتفاع الباب!!! شعرت بالاختناق وكأن ما أعبه في صدري ليس بهواء

نهضت بمشقة، حاولت ان امد قامتي كالعادة، لطمني السقف بقوة، اذعنت للحال، أحنيت ظهري لأتمكن من الحركة، اكتشفت عند خروجي ان العطب لم يصب سقف غرفتي فقط، كل أسقف البيت وابوابه كانت كذلك، وجدت زوجتي بالمطبخ تحضر الافطار وهي محنية الظهر، شعرت بغصة عندما وقع نظري على ظهور ابنائي المقوسة وكأنهم شيوخ في أرذل العمر، طوتني الحيرة في تلابيبها، (كيف سأعالج الأمر؟؟!، كيف سأمحو علامات الجزع المرتسمة على الوجوه؟؟)

اشحذ عزيمتهم بكلمات الصبر والجلد لكنني لا املك شيئاً منها في داخلي، يجتاحني الكمد كلما سمعت تذمر زوجتي وأناتها في جوف الليل:

-آه ظهري يزداد انحناءً وألماً بسبب البرد!! الا يعرف الدفء طريقه الى هذا البيت؟

 الوقت ربت على معاناتنا، جعل كل شيء محتملاً، بمروره اعتدنا، صار الانحناء وكأننا خُلقنا به حتى عند خروجنا من البيت، لم تزُل الشكوى والألم من العيون لكن الصمت كان سيد الموقف.

لم يكف جاري الثرثار يوماً عن تلميحاته كلما مررت به صباحاً وانا أكاد أسقط على وجهي وعلامات الاستياء منطبعة على تقاسيمي وكأنها جزء مني:

-باب رائع لا يملك أحدنا مثله

يقول ذلك وهو يشير الى باب بيتنا الخارجي الواسع، اشعر بشيء يقبض قلبي، لكنني لا الومه، كلهم يقولون مثله.

 ذلك اليوم كان فارقاً بالنسبة لنا:

– أبي الجيران يسخرون منا، يسمون بيتنا بيت (الحُدْب)

قال ابني وامارات غضب ممزوج بالأسى تلوح على ملامحه اليافعة، شعرت بحزن كبير من اجله، ازددت حزناً عندما طافت بذهني ملامح الغائب …

اجتمعت واسرتي تلك الليلة والتصميم يعلو محيا كل منا، قررنا ان نعيد بناء بيتنا، ان نغير الاسقف المنخفضة والنوافذ الضيقة والابواب القصيرة، بدأنا في العمل دون تنظيم او تخطيط، هب بعض الغرباء لمؤازرتنا، انهمكنا دون توقف، لاح الإعياء في العيون، تصفد العرق من الأجساد، أختلط الدم بالتراب في الكفوف، كنت انظر مشفقاً الى العيون المتعبة والأبدان المنهكة، لكن العزيمة المنبعثة من السواعد الفتية منحتني الطمأنينة والقدرة على المواصلة.

وصلت بهجتي الذروة عندما رأيت العمل مكتملاً، البيت عاد رحباً، هبت عليه نسائم البحر القريب وتسللت اشعة الشمس الذهبية من نوافذه:

 -وأخيراً شرع بيتنا أبوابه للربيع! وأخيراً وأخيراً.

كررت دون توقف وانا مغمضاً عيني في نشوى، يملأ صدري عبق زهور الربيع المنتثرة في الانحاء، وينعش بدني اريجه فيعتدل ويستقيم.

، لا أستطيع وصف الفرح الذي سكنني، وما زادني فرحا هو يقيني بأن الايام الناضحة بالبهجة لن ينتهي عهدها ……

لكنني استيقظت من النوم ذات ليلة والضيق يجتاحني، العتمة تغرق المكان، تفحصت الجدار مفزوعاً، لم تكن في مكانها!! من سرق النافذة؟ جلست دفعة واحدة، فركت عيني بقوة لأتيقن مما أرى.

(يا إلهي، السقف لا يبعد عن وجهي كثيراً، الباب لا يستطيع الولوج منه سوى الاقزام).

هذه المرة لم اتمكن من الوقوف، خرجت زحفاً.. ابحث عن بقايا الآخرين.

مقالات ذات علاقة

تذكرة

هدى القرقني

أقْوَى الأَسْلِحَة

عبدالحكيم الطويل

الــضــرة…

فهيمة الشريف

اترك تعليق