الثلاثاء, 8 أبريل 2025
طيوب عربية

نَموذج مِن الأدَب النضَالي

الذكرة الـ37 لرحيل الكاتب والباحث الليبي نجم الدين غالب الكيب

من أعمال التشكيلية العراقية لينا الناصري
من أعمال التشكيلية العراقية لينا الناصري

حفنة تراب على نهر جغجغ، من منشورات اتحاد الأدباء العرب / بسورية.

يخطو الأدب الروائي في سورية خطوات كبيرة وعملاقة على يد كتابها كحنا مينة، وعبد السلام العجيلي، وزكريا تامر، وغيرهم، وفي هذا المقال نحاول أن نلقي بعض الضوء على روائي سوري آخر هو: وهيب سراي الدين، وذلك منا اخلال روايته القيمة: حفنة من تراب على نهر جغجغ.

ملخص الرواية:

تدور أحداث هذه الرواية في قرية (سيحة) حيث يجتمع عدد من الفلاحين في ربعة المختار في انتظار أن يوزع عليهم الموظف المسؤول في الإصلاح الزراعي سندات التمليك، وعندما يتم توزيع السندات يجمع المنتفعون على أن تكون حصصهم في الأرض البعلية (وتساوي خمسة أمثال الأرض السقوية المعروضة للتمليك) إلا خلف الذي انفرد بقراره في الاختصاص بالأرض السقوية التي تقع على نهر (جغجغ) وذهبت كل محاولة لإقناعه بالرجوع عن قراره هباء. وأثار هذا حفيظة المنتفعين (وفي مقدمتهم مختار القرية) الذين رأوا في اختصاصه بتلك الأرض ليس غباء فاضحاً فحسب بل وخروجاً على رغبة الجماعة التي رأت بالإجماع أن تختص بالأرض السقوية، ومن ثم أخذوا يصبون على رأسه اللعنات، واصمينه بأقذع النعوت. ويكتشف خلف أن امتلاك قطعة أرض ليس هو الهدف في حد ذاته إذ لا بد له من طريقة لاستغلالها، وكيف السبيل إلى ذلك وهو لا يملك أدنى متطلبات استثمارها. وهكذا نراه يبحث عن مصدر للتمويل ويجده في نهاية الأمر عند أحد أغنياء القرية (ليرة في اليوم في مقابل ملء حوض من الماء يسقي بها أغنامه وحديقة قصره). ويتردد مختار القرية بين الحين والآخر على مسكن (ظاهر) والد خلف حيث يدور الحوار بينهما حول هموم القوية، غير أن جزءاً كبيراً من حوارهما كان ينصب حول تصرفات (خلف) الذي لا يفتأ (المختار) في وصفها بالسذاجة والرعونة والغباء وذلك لاختصاصه بالأرض السقوية على نقيض ما فعل أهالي قرية (سيحة)!؟.

ومن خلال حديث يدور بين المختار وظاهر بحضور (خلف) يعرف الأخير أن المصارف تعطي سلفة مقدمة للفلاحين نظير رهن الأرض التي بحوزتهم على أن تسدد عند جني المحصول، ويحاول (خلف) أن يستفيد من تلك السلف الزراعية إلا أن المصرف لا يمكَّنه من ذلك بعد أن قفل باب التسليف بانقضاء موسم الزرع، ولا يحزن خلف على ما فاته، فإن في إحساسه الفطري رفضاً لمثل هذا الاستغلال الرسمي الذي يرمي في ظاهره لمساعدة الفلاحين بينما هو – في الحقيقة – يهدف إلى الاستيلاء على جزء كبير من جهدهم وعرقهم(!).

ويتدبر خلف أمر البذار والحراثة بما جمعه من نقود من أجره اليومي في سحب الماء، وينجح في اللحاق بموسم الزرع، ولكن السماء قد حبست أمطارها في ذلك العام، وبات الجفاف يهدد زرعه، وهو ما يزال خلفاً صغيراً، ولكن خلفاً يستعين بالخبرة التي اكتسبها في سحب الماء من البئر في عمله السابق، وصار يستغلها في سحب الماء من جوف النهر معتمدا في ذلك على قوة عضلاته!

وبينما كان أهل القرية من المنتفعين بالأرض البعلية في قلق بالغ على مصير زرعهم المهدد بالموت عطشاً كان زرع خلف من القمح والقطن يتماوج في زرقة تشبه زرقة السماء!؟ مما جعل أهل القرية يرمقون زرعه بشيء من الغيظ والحسد لأنه لم يتأثر بالجفاف، وبدأوا يدركون أن اختصاصه بقطعة الأرض السقوية يوجد له ما يبرره: وإن كانوا يكابرون ولا يجاهرون بذلك صراحة!؟

ويشتد المرض بأم خلف ويستدعي الأمر إدخالها للمستشفى، وبينما كان المفروض أن تتلقى العلاج السريع، نرى الطبيب المعالج لا يهمه من أمرها إلا رأسها الذي رأى فيه مادة تصلح لاستكمال أطروحته التشريحية في جهاز الرأس البشري وتموت المرأة بين يدي الطبيب بينما كان منهمكاً في تقليب رأسها يميناً وشمالا، ويعود خلف بأمه الميتة إلى القرية جثة بلا رأس!؟

ويزداد الجفاف حدة بعد انحباس المطر ويتأثر زرع خلف أيضاً بهذا الجفاف بعد أن جف النهر هو الآخر من بقية ما فيه من مياه، ويتفتق ذهن خلف على إنشاء بئر في أرضه يسقي منها زرعه الذي أوشك على الهلاك، وما إن ينتهي منه حتى بسقط فيه أحد المارة من أفراد القرية، ويساق خلف إلى السجن بتهمة القتل، وتبرئ المحكمة ساحته من قضية القتل بعد أن اتضح لها بالدليل القاطع أنَّ الحادثة كانت قضاء وقدراً.

ويعود خلف إلى أرضه ليواصل عمله الدائب في سقيها من البئر حتى نضج زرعه، واعطى إيراداً طيباً من القمح والقطن، وهو الإيراد الوحيد الذي درته قرية سيحة كلها في ذلك العام!؟

ينطلق كاتب هذه الرواية من فكرة تمجيد العمل البدوي في الأرض، وهذا ما نستشفه من حمية زائدة فيولا، اتخلف القطعة الأرض التي آلت إليه، حتى لقد صار العمل فيها يشبه نوعاً من العبادة. فهو يذهب إليها مدفوعاً بغريزة الحب – فرغم صغر حجمها وقلة شأنها – إلا أنه (لا يبدلها بمئات الألوف من حفنات الذهب والفضة فهي بالنسبة إليه كنز وترابها تبر، ويتمنى لو بإمكانه أن ينقل الأرض كلها ويضعها في قلبه المفتوح)!؟.

إن قطعة الأرض التي صارت إلى خلف بحكم سند التمليك كانت بمثابة الحادث الذي أذاب ذلك الجليد المتراكم في حياته الباردة التي ليس فيها سوى مظاهر القسوة، والبؤِس والفاقة، أنها تعني بالنسبة إليه الحرية التي أحس معها وكأنه ولد من جديد، وصار عالمه رحباً يسع كل شيء، ومن خلالها أطل على الدنيا، وبدأ يرى لأول مرة ميلاد الشمس والقمر، وحمرة الأرض وزرقة السماء، وغناء الطير، وينبهر خلف بعالمه الجديد، ويتعجب من نفسه التي استقطبتها مشاعر لم تكن مألوفة لديه من قبل، ويتساءل:

– لم لم أكن من قبل ما أكونه الآن؟ كأن كل شيء جديد في هذا العالم بالنسبة إلي. كأنني آت إلى هذا الكون لتوّي. رغم أن أمي قد اسقطتي من بطنها منذ ثلاث وعشرين سنة!؟

وتستلفت انتباهنا شخصية خلف باندفاعاتها وتحدياتها وإصرارها، ويتضح هذا بصورة جلية من خلال تفرده ببعض المواقف، وثباته عليها – بعد ذلك – فهو لم يشأ أن يكون في عداد المنتفعين بالأرض البعلية رغم أنه يعلم أنها أضعاف الأرض السقوية التي آلت إليه لأنه لا يريد أن يقع في كمين الاستغلال والمستغلين الذين ينصبون شباكهم للفلاحين السذج ويجعلونهم بقبلون بأن تزرع أرضهم نيابة عنهم.

إن خلفا فد اختار الطريق الصعب عندما اعتمد على نفسه في كل ما يتعلق بزراعة أرضه، رفضاً منه لنمطية المعاملات الظالمة التي يخضع لها أهل قريته وحتى لا يكون عنصراً مشجعاً على (التمبلة) و(الاستغلال) وعندما أراد أكتراء جرار لحرث أرضه نراه يسأل سائق الجرار:

– هل هذا الجرار ملكك؟

ولما استغرب سائق الجرار بين ربطه لملكية الجرار وبين زراعة أرضه، كان جواب (خلف) متطابقاً مع انتماءاته الرافضة لكل أشكال الاستغلال

– لأنني لا أريد أن أحرثها إلا بجرار يسوقه صاحبه بالذات!؟

وعندما اختار (خلف) قطعة الأرض السقوية كان قد حفر بظلفه طريقاً آخر غير طريق (التمبلة) والخنوع ووضع نفسه في انفس الوقت – على واجهة الثورة على (السائد والمتعارف عليه) بحكم العادة، شجبا صريحاً للتبعية العمياء، وها هو ذا خلف يحاول أن يضع إصبعه على مكامن الداء في حوار دار بينه وبين هار القرية:

– قل لي يا مختار من الشخص الذي زرع لك قاعك؟

– أبو .. أر .. تي. ن

– آ ولماذا كل هذا الخجل؟ من هو أبو أرتين هذا؟

– إنه مزارع نشيط، ولديه (مصلحة) جرارات، بذارات، حصادات، لقد استقدمناه من منطقة رأس العين، وتعاقدنا معه نحن الفلاحين المنتفعين بالأرض البعلية.

– ألم يبق أحد لم يتعاقد معه حتى الآن؟

– لم يبق إلا أنت، وأنت لا يجوز أن تؤجر أرضك لأنها (سقوية) هکذا یقول القانون .. یا عنید!

– تماماً وكيف تم الاتفاق بينكم وبينه؟

– نحن نقدم (القاع) وهو يقدم كل شيء: البذار والجرارات والحصادات.

– وماذا يقدم لكم من الغلّة؟

– يقدم عشرين بالمائة.

– وماذا بعد؟

۔أنا أعرف أن الذي سینتفع (بالقاع) يجب أن یعمل، کما كان يعمل عند الإقطاعي لما كان قنّاً.

– تعهد شخصيا بأن يشحن حصص الفلاحين إلى قبابهم

(مساکنہم) مجاناً؟

ويزيد خلف من تطويق (المختار) بأسئلته المحرجة في محاولة للكشف عن مكامن العيب في المعاملات الدارجة لدى المزارعين في قریته.

– ماذا سيشتغل الفلاحون المنتفعون، وأنت منهم طوال أيام السنة.

– مالك سكت، عدت إلى عدم فهمك .. هي .. هي.

(فنطق أبو خلف).

– سكوت المختار يا ولد يدل على غضبه فقال خلف على الفور:

– فليشرب البحر.

أدرك خلف أن سكوت المختار هو بمثابة اعتراف ضمني بالوضع غير السليم الذي دأب عليه فلاحو قرية (سيحة) في استغلالهم للأرض وبدا أن (الكسل) – الذي يكابر المختار في الاعتراف به بشكل الركيزة الأساسية في إفساح المجال لمن يستغلهم.

(وبعد لحظة صمت بهت فيها الرجلان تابع خلف):

– طيب أنا أجيب عنه.

فرد المختار.

۔ تفضل.

– ستشتغلون في (طق الحنك) وغزل الحكايات في (الربعة) اليس كذلك.

ويفند خلف رأيه هذا فيقول:

– أنا أعرف أن الذي سينتفع (بالقاع) يجب أن يعمل، كما كان يعمل عند الإقطاعي لما كان قنّاً.

ويفلح خلف في القاء الحجة على (المختار) بعد أن برهن له على أن لا فائدة ترجى من امتلاك الأرض (فامتلاك الأرض ليس هدفاً في حد ذاته) ثم يتركها مالكها لمن يستثمرها بأسلوب ظالم لا يتحقق معه أي قدر من العدالة الاجتماعية.

تبرز في هذه الرواية أكثر من شخصية واحدة (مختار القرية) (أبو خلف) (أم خلف) غير أن خلفاً يتميز من دون الجميع بملامح متقنة، وسمات بارزة، وبنية نفسية واجتماعية وفكرية شديدة التماسك، وتكاد تكون متجانسة في أفعالها، وهي من الناحية المزاجية تنمو نمواً طبيعياً ومتوافقاً مع سماتها الثورية الرافضة!؟

ونكاد نقول أن هناك أكثر من وشيجة واحدة تجعل من (خلف) (زوربا) سورياً جديداً على غرار (زوربا اليوناني) الذي أبدعته براغ الكاتب اليوناني (نيكوس كازنتزاكي) خاصة فيما يتعلق بتشبثها العنيد بالحياة ف (زوربا) عندما يرى كل ما بذله من جهد في تشييد منجمة ينهار بانهيار المنجم يرتفع صوته بالغناء والرقص على مرح الكارثة ويفلح في الحيلولة دونه ودون أن يغرز اليأس أنيابه في قلبه!؟

نرى في المقابل أن خلفاً عندما يواجه زرعه الذي رواه بدمه وعرقه يوشك على الموت بعد انحباس المطر ينزل إلى النهر يسحب الماء من باطنه، وعندما جف النهر غاص في أعماق الأرض بحثا عن الماء الذي يروي زرعه، حتى إذا ما رأى الماء قد انبجس، وملأ قعر البئر صاح بأعلى صوته: –

– يا إلهي ما أعظم عملي … يا بهجتي، لقد فجرت الماء.

وسأسقي به زرعي، وبقي خلف ساعة يدور حول فوهة البئر كأنه لولب يدور حول محوره!؟

إن أحداث الرواية تنمو في تلقائية، وتناسق تامين، فهي من الناحية البنيوية تنطلق من أساسيات درامية متماسكة كالنسيج الجيد لا تبدو منه ثغرة أو تلوح منه بادرة ضعف يخل ببنائها العام ولسنا نرى ما يفسد مذاقها الواقعي إلا الطريقة الساذجة التي جاء إليها خلف في إدخال أمه إلى (مستشفى القامشلي) فهذه الطريقة تبدو من الناحية الواقعية غير مستقيمة مع منطقية الأحداث المبنية بصبر وتؤدة على منطق شديد العقلانية(!).

وبالنظر إلى البيئة الاجتماعية التي اتخذها كاتب الرواية مسرحاً لأحداث روايته وهي بيئة ريفية يسيطر عليها ذلك الثالوث الرهيب الفقر والمرض والجهل، فقد أتت هذه الرواية غارقة في أطياف من البؤس حتى لكأنها قطعة من حلم مزعج أو كابوس ثقيل ملي، وبالقساوة والصلافة والغلظة، ولم يكن ليخفق من إيقاعها الكابوسي الحاد إلا عنصر التشويق الذي يجعل القارئ في حالة استقطاب يلهث وراء تطور أحداثها الدرامية وما تأتاي به من مفاجآت في سياقها العام – فضلاً عن روح الدعابة والنكتة والتي غطت جزءاً من صفحاتها، هذا إلى جانب أسلوبها السهل الممتع الموشى بالأخيلة والاستعارات الجميلة.


الناشر العربي | رقم العدد: 2، 6 فبراير 1984م

مقالات ذات علاقة

فلسفة اللغة وتحرير الفعل الاجتماعي

إبراهيم أبوعواد (الأردن)

الومضة الشعرية في كتاب

المشرف العام

نداء يونس في جرش وسيت، وشعرها إلى الفرنسية وفي أنطولوجيا لشعراء عالميين

المشرف العام

اترك تعليق