الذكرى الثالثة لرحيل الكاتب الليبي محمد السنوسي الغزالي
كان يوما حالكا لم تبان فيه شمس.. غائما.. حارا.. رطبا.. تنقلب فيه السحنات.. يوما باختصار شديد.. من له حدس يحس ببؤسه ورداءته وسوء الطالع فيه.. رغم ان ابى علمني الا اتطير.. فشكرا له على هذا التناقض الذي زرعه في ذاتي.. قلت لكم انه يوم حالك لا شمس في نهاره ولا قمر ولا نجوم ولا سماء صافيه في ليلته.. يوم.. ليس ككل الايام، او كما بدا لي… يوم يختلف.. مغاير.. عندما خرجت من المنزل في صباحه احسست بانقباض شديد وكأن شيئا عظيما سيحدث.. شيء ربما تضخم في رأسي.. صحيح انى من النوع المندفع.. ولذلك اصدم بحقائق مذهلة بعد ان افيق من شرودي وانفعالي واندفاعي!! لكن هذا اليوم يختلف.. ربما فيه شيء مما ذكرت حول الاندفاع.. فما الذي حدث في هذا اليوم بالذات؟؟ في هذا اليوم ومن قعر الحكاية.. في هذا اليوم المختلف.. احتقرت صديقي سمير بعد عشر سنوات من الرفقة.. واحتقرت معه الحاج ابو العذارى!! لماذا؟؟ هنا.. بداية الحكاية التي قلت لكم قعرها.. ولذلك كان ذلك اليوم يوم مختلف.. لماذا لأني احتقرت سمير.. شعرت نحوه بالتقزز.. كدت ان اتقيأ من فعلته التي اعتبرتها أشنع من الشنعاء..
سمير شاب في وسامة ا امرأة وصفها شاعر جاهلي.. اذ قال عنها بما معناه ان قلبه تعلق بطفلة عربية.. حجازية العينيين.. رومية الكفل على ما اظن واتذكر وتتنعم بالديباج والحلى والحلل!! لا أذكر إلا معاني القصيدة.. وسامة سمير كانت تفوق المخيلة مهما رسمت وتخيلت وتفننت!! لذلك.. من الطبيعي ان يكون فارس احلام كل بنات الحي والشوارع القريبة منا.. رقيق.. حساس في مظهره.. حريص على هندامه… تقليدي لا يخرج الى الشارع الا بربطة العنق.. روائح التيوز الايطالية تفوح منه دائما.. لدرجة انى اصبت بالعدوى نتيجة الدوار الذي يصيبني كلما وصلت الى أنفي روائح هذا العطر الفريد.. فأصبحت استعمله لأنه يبقى برائحته لعدة ايام.. وسمير كان ذواقا في كل شيء.. في الاكل والشرب وطريقة الحديث.. والهدوء المفعم بعمق غامض!! رغم ضحالة ثقافته.. لكنه يلفت النظر في كل جلسة يكون هو البارز فيها.. وكنت احبه.. ارتاح اليه.. وكان مستشار غرام متفرد.. ليس الا بسبب وسامته التي اعطته هذا المخزون من الخبرة حول النساء ونقاط ضعفهن.. وكنت مؤمنا ايمانا مطلقا انه الوحيد القادر على فك طلاسم أي فتاة تحاول استعمال عقل المرأة في التعامل مع العشاق.. وكانت لاستنتاجاته.. مثلما حقوقي ضليع في مواد القانون واحابيله وحيله والخروج منه وفيه.. باختصار فتواه في أي فتاة لا يرقى اليها الشك.. مرجعية مذهلة في هذا الجانب.. لذلك ربما لم أفكر في جوانب اخرى فيه الا في ذلك اليوم الحالك؟؟!!وفى بعض جوانب حياته اشياء غامضة لا تفهمها ولا يدلى بها لأحد.. منها انه تزوج من قريبة له واقام عرس خرافي.. وليلة زواجه حاولت الانتحار عدة فتيات من الحي دون ان يدرك ذويهن السبب.. لكن في تلك الليلة بالذات عجت المستشفيات بعشرات الفتيات اللائي حاولن الانتحار بسبب زواج هذا الاسطورة بالنسبة لهن!! وكان العرس ايضا أسطوري مثلما هو العريس!! لكن لسبب ما.. هربت العروس بعد اسبوع من العرس المهيب ولا أحد يعرف السر.. ولا أهل العروس ولا أهل العريس.. لا أحد يعرف.. حاولنا نحن الاصدقاء بطريقتنا الخاصة معرفة السبب بعيدا عن غموض سمير.. لكن يبدو ان العروس لم تذكر الاسباب حتى لا قرب صديقاتها.. استغلالنا للفتيات لم يفدنا في شيء.. بقي هذا السر غامضا.. لم نسأل سمير ولم يشفى هو غليلنا!! ومرت سنوات وعادت الامور كما كانت رتيبة مملة.. جلسات سمر يومي.. سمير يستمر في غرامياته ومشوراته.. مع ذلك كنت أحب سمير حبا شديدا.. لأنه كان كريما طيبا في مظهره على الاقل.. وقد علمني ابى ان احكم بالظاهر.. لست مسئولا عن الضمائر وما تخبئه النفوس.. الى ان جاء اليوم الذي احتقرت فيه سمير.. فكيف حدث هذا؟؟
بداية القصة من ا بو العذارى الذي يعمل عنده سمير… ابو العذارى قبل ان اقرر احتقاره هو الآخر كنت اراه رجلا طيبا.. صاحب محل.. غنى.. متواضع.. يعمل سمير عنده منذ سنوات.. لكن في ذلك اليوم عندما دعا سمير الى العشاء في منزله.. وابو العذارى ليس لديه سوى أربع بنات وامهن.. وكان يمكن ان يمر الامر بهدوء.. لولا ان سمير بعد ان روى لي ما حدث دفعني الى احتقاره واحتقار ابو العذارى..
يقول سمير انه تناول عشاءا فاخرا في بيت ابو العذارى الفخم.. قال ان الطعام يدل على ان الطاهيات ماهرات.. او هكذا هو رأيه.. والامر الى هذا الحد عادى.. لكن الذي ليس عاديا ان سمير يقول مردفا: البنات جميلات لكن لسن من اللاتي يروقن لي.. إذا تزوجت لن اتزوج من هذا الصنف.. دهشت لهذا القول.. اذن الوليمة لسبب ما!! ابو البنات اخذ سمير الى المنزل لكي يعرض عليه بناته ويختار واحدة منهن ليتزوجها.. لكن سمير لم تحلو في عينه أي واحده منهن… لذلك كان ذلك اليوم بالنسبة لي مضنيا مكفهرا لا شمس في نهاره لا قمر ولا نجوم ولا سماء صافيه في ليله.. احسست بالغثيان والمرض والانضغاط.. ما الذي يدفع اب الى عرض بناته بهذه الصورة؟؟ احتقرت سمير.. هجرته.. هجرت الاماكن التي يرتادها.. توفى ابو العذارى بعد سنوات.. وبناته بقين بلا زواج لكنهن مثال للعفة والعصامية.. ظللت بضعة سنوات احتقر الاثنين.. بعد ان تزوجت.. وانجبت البنات.. وعرفت قسوة الحياة.. ورأيت نفسي في صورة ابو العذارى.. احتقرت نفسي لأني احتقرت هذا الاب دون فهم…. توقفت عن احتقار ابو العذارى وظللت محتقرا لسمير وبعمق..
لارنكا