قصة

أمّنا عيشة

خبز التنور (الصورة: عن الشبكة)
خبز التنور (الصورة: عن الشبكة)

تحركتُ من مكاني مسرعةً ابتعدتُ قدر ما يمكنني لاحتضان نفسي الهَلِعَة، وخوفاً من أن يلاحظ مَنْ حولي ما حَلَّ بي تلك الساعة، مساء الحادي عشر من شهر (أمّنا عيشة)* كما أكَّدَتْ لي مُحَدِّثَتي -التي لا تعرف إلا أسماء الشهور الليبية*-عندما سألتها في أي يومٍ وأي شهرٍ نحن؟ غير أنها صمتت ولم تجبني عندما استزدتُها.. وفي أي عام؟

كانت أمسيةً من مساءات نوفمبر الباردة، لكن ليس إلى درجة سحب البطاطين على الأرجل كما كنا نفعل ونتشارك أحياناً في بطانية واحدة تَضُمُّنا وتبعث الدفءَ في أرواحنا. لا.. فالوضع مازال محتملاً. كانت الضحكات من حولي والصخب، وكانت المناسبة زفافُ إحدى بنات الأسرة. ولابد للشاي من الحضور وبجانبه ما يلزم من الحلويات وبالطبع وفي المقدمة خبز التنور* المصاحب لكل جلسات هذه المدينة العجيبةُ أحوالها.

مددتُ يدي إلى قطعة صغيرة من الخبز، فإذا بيدٍ لينة دافئة تمنحني إياها! إلى تلك اللحظة لم أكن انتبهت إلى ما يحدث، لكن وبعين ثاقبة لم أر أحداً بقرب طبق الخبز فقفزتُ من مكاني تاركةً كل شيء وخرجتُ والعَرقُ يتصبب مني وكأن ما جرى كان هَبَّةُ ريحٍ ساخنة في ليلةٍ نوفمبرية في مدينة قاسية الشتاء.

يا إلهي لو أن قطعة الخبز تنطق لتولّت عني سرد الواقعة ولأراحت أنفاسي المتقطعة وأنا أكتب لكم..

وأنا يا أنا! وفي دوامة ذهولي (سمعتُ صوتاً هامساً في السحر) *…لم أكن غافية أيها الخّيام العظيم كنت هلعةً فقط!!

أنتِ؟ أنا؟ نعم أنتِ..

أجبتُ: -وكان الصوت أنثوياً- من؟

فاقترب الجسدُ واقتربتُ، تلمَّستُ طريقي إليه فكان عناقاً فأشفقتُ على نفسي!!أنت تهذين…، ربما ما بك مرض ما، حرارة أو هلوسة، قال الصوتُ: بل ما بها هي به أعلم!

مَدَّت يداً بدت للناظر سمراء بها خطوط تعب وعلامات داكنة متناثرة. ربما كانت جروحاً اندملت بعد طول آلام وربما!؟ لكنَّني سمعت الصوت نفسه …لا شيء! لا شيء، لا تُفَكّري في ما بي، فكري في ما بك!

قلتُ ما بي؟ فلحظتُ ابتسامة،

ابتسامة؟  نعم ابتسامة! وسط ظلمة الليل، فاستأنستُ بها وقلت لا بأس، كل ابتسامة تفتح   في الظلام مسارباً للعبور.

سيدة في منتصف العمر. ومنتصف العمر عند النساء أجمله! وجه مستدير

وعنق طويل، وشعر أسود فاحم، تبيَّنتُ بعضاً منه من ضفائرها الطويلة، تركتْ إحداها تنسدل على صدرها العفي فلم تكن قد رُزِقَتْ بالوَلَد، فحافظ الجسد على فُتوَّتِه.. والنساء يُتعبهن الحَمْل والطلق، والولادة، والروحُ تختلف بعد

(الخِلفَة)، فتتناثر هنا وهناك، كقطع الشطرنج على رقعة الحياة، فلا يبقى لها إلا بعض طمأنينة ويسكنها قلق مكتسب بفعل ما يسمونه (الكَبِد)* أو لهفة الأمومة التي لا حَيلَ ولا حِيلة معها لترويضها وتسكينها. 

أمسَكَتْ بيدي وأخرجتني معها إلى حديقة البيت الخلفية وهنا لم ألاحظ انتباهاً من الجالسات حول (عدالة الشاهي)* فقلتُ لعل تلك الاطباق العامرة مَنْ ألهتْهُنّ عني وعمن أمسكتْ بيدي وأخرجتني من بينهن.

تجاوزنا معاً ممراً طويلاً تطل عليه غرف عديدة، كلها مفتوحة الأبواب، تفوح منها رائحة المسك والبخور الذي يصاحب الناس في هذه المدينة في لياليها الباردة عندما يفتحون البطاطين المخزَّنة من شتاء سابق فيضوع ما دُسَّ بين طياتها من هذه الروائح الطيبة …روائح درنة.

فُتحَ باب في آخر الممر فإذا(بجنان)* أبي مبتهجاً بي وبها. فنزل في النفس منزلة المُحِب حين يأنس بمن يهوى فتتفتَّح له مغاليق الذكريات فتفوح من الصور نسماتٍ لطيفة. وللصور نسمات تهبُّ من وجوه من فيها، تعلن المحبة، والشوق، والامتنان للتذكّر، والتذكّر يحيي الأيام الغابرة فتعود لأصحابها جَذلى تحضن وتقدم الحب والذاكرة التي نظن أنها بهتت لكنها تؤكد أن كل الألوان ساطعة ما أحييناها..

إنها أيامُنا …

مررنا معاً على قنطرة صغيرة يندفع تحتها ماء سريع الجريان حتى كأن صوت حركته يعلن الاستعجال كأنه يقول (امنحوني لأرضكم ولا تُسّرِفوا ولا تتباطؤوا فما زال الليلُ طويلاً ومازالت مزارع المدينة تنتظر.. كل له وقت ليروي عطش الأرض ثم يتركني أواصل جرياني لأمنح البركة والكثير من الخضرة وكلها لكم فخذوا ما لكم واتركوني للناس من بعدكم) هكذا سمعت ذلك الخرير أو هُيئَ لي وما أكثر تهيؤاتي هذه الليلة.

لم تترك يدي لحظةً واحدة وكنتُ اتأمل يدها وفي النفس ألم وسؤال: ما بها؟

غير أنها لم تنتبه لنظراتي المُلِحَّة المنشغلة بحالها. بل جاوزت بي القنطرة ونزلنا درجتين إلى قطعة الأرض الصغيرة النامي كل ما فيها من خضرة، وورود وشجر وثمر. غير أنها أدخلتني أولاً إلى ما يشبه المربع مسقوفاً بغطاء بلوري شفَّاف وطلبت مني أن أجلس فأطعتها ثم أشارت إلى جهاز أعرفه*، ولم أكن بحاجة للسؤال عنه، قالت:

كم زجاجة زْهَرّ* تلقيتِها منه؟ لعلك لا تعرفين، قلتُ: الكثير، فأومأت ممتنَّة.

قلتُ: حملتَه معي إلى كل أرض وطئَتها قدماي، فابتسمتْ فضجَّ مبسمها

بصفين من اللؤلؤ وبدتْ بصف المقدمة سنٌ ذهبية-كانت من علامات الغَنَجْ في عصرها-أعجبتني الابتسامة وراقت لي فقلت:

(ما اسمح ضحكتَّا

وما اسمح هاللولي وبسمتّا

غزيل ومضوّي ليلتّا

سهاري وزويل* وونستَّا)*

فزاد الدلال بهاء الثغر وجماله ولم تكتفِ بل أخرجتني مما أنا فيه من ذهول وأسرعتْ بي إلى مكان أعرفه وأهابه لكنها كانت ملكته. قالت:

-وقد وضعت يدها على تنّور ذي حجمٍ كبير وأشارت بيدها الأخرى إليه-وقفتُ هنا بعدد ما صنعت لكم من خُبزٍ (ومثاريد)*وبعدد ما ضيَّفتُ من بشر وكنت أنا الملكة عليه رغم لهيب نيرانه التي طبعتني بعلامات أزعجتك لكنها لم تزد ذراعَيَّ إلا زينةً وجمالا.. كنت أحبكم وأحب ما تحبون.

وقفتُ عند التنور* ذاهلةً مذهولةً

و(مزجت دمعاً جرى من مقلة بدمٍ)*….. وخجلتُ من مواجهتها واستدرتُ مواجهةً جنان أبي فتراءت لي كل الوجوه التي أحببتها وغادرتنا وكانت بينهم فعجبتُ واستدرتُ باحثةً عنها فلم أجد أحد..

كان ذلك في إحدى ليالي نوفمبر من شهر (أمنا عيشة) * وحتى الآن لم يُجبني أحدٌ من شهود تلك الليلة في أي عام كنَّا.


*أمّنَا عيشة: أحد أسماء الشهور الليبية

وهي كالتالي:

العيشورا: محرَّم

صفر: صفر

الميلود: ربيع أول

تويبعات الميلود: ربيع ثاني وجمادى الأولى

أمّنا عيشة: جمادى الآخرة

رجب: رجب

اقصِّير: شعبان

سيدي ارمضان: رمضان

العيد الصغير: شوال

عيد اللحم: العيد الكبير ويسمى أيضاً العيد الكبير 

*( سمعتُ صوتاً هامساً في السحر)):

لعمر الخيام ترجمة احمد رامي

*عدالة الشاهي: أدوات صنع الشاي الليبي

*الكَبِدّ: كناية عن عاطفة الأم

*جنان: حديقة صغيرة

*الجهاز هو القَطَّار لتقطير زهر النارنج الذي تشتهر به مدينة درنة

*زَهْرّ: نسميه هكذا وهو سائل الزهر المقطَّر

*(ما احلى ضحكتها….: نصٌ للكاتبة

*ازويل: تدليل زول وتعني الإنسان الجميل

*مثاريد جمع مثرودة أو ثريد

*التنّور: فرن خاص لخَبز الخبز

*(مزجت دمعاً جرى من مقلة بدمٍ)

من قصيدة(البُردة)للإمام البوصيري 

*(سمعتُ صوتاً هامساً في السحر)):

لعمر الخيام ترجمة احمد رامي.

**شكراً للدكتورة هنية الكاديكي والأستاذة وفاء الكوَّاش ووالدتها العزيزة لمعلوماتهن الممتازة حول الأشهر الليبية.

**المراجعة اللغوية للدكتورة هنية الكاديكي مع محبتي وجزيل شكري.

مقالات ذات علاقة

شتاء وجوع ونشيد

المشرف العام

بـرتـقـالــي

عطية الأوجلي

مسرحية الحياة

رشاد علوه

اترك تعليق