طيوب النص

رسالة إلى أمي

من أعمال التشكيلية الليبية فايزة الغناي
من أعمال التشكيلية الليبية فايزة الغناي

كـم أتمنى يا أمي لو أنـكِ كنتِ صديقتي على الفيس بـوك، كـنت سأشير إليـكِ بتـاج و أنتظر ”  أعجبني” الخاصة بكِ، كنت سأرسل إليكِ رسالة على الخاص أخبركِ فيها أني أحبكِ و أرتب معكِ موعدا نشرب فيه قهوة الصباح ونثرثر كما كنا نفعل دائما، جميل أن نشعر في أشد لحظاتنا إحباطا بأن هناك حضناً يدفعنا حنينٌ مفاجئٌ إليه، لطالما نظرتُ إلى حضن أمي على أنه الفردوس الصالح للنحيب و الفرح بنفس القدر، هذا أنا يا أمي وهذا عام آخر مرَّ، كَويتُه وطويته جيدا ووضعته في خزانة العمر العبقة برائحتكِ، أتذكر كل عمليات الإلغاء والتعديل و التطوير التي قمتِ بها على حياتي وأنا صغير، كيف يا أمي أسترجع من العالم ما هو لي، أنتِ وكلماتكِ اللاذعة بسبب انهماكي المفرط بالحياة، أنتِ ووقوفكِ بيني وبين العالم تتحملين عني جهره بقدرته المخيفة على تحطيمي كإنسان، تتحملين عني أخطاره التي ما كنت لأتصورها بدون قولك: لا تخشَ أن تبدأ، ستعبر الحياة خطوة خطوة، ستكون هناك جروحٌ، ومعارك لا طائل منها تتسبب في بؤسكَ، لكنكَ ستكون بخير نظرا لإعجابكَ الشديد بالحياة، ها أنا يا أمي مع العالم وجها لوجه، لا هو قادر على اقتحام ضميري، ولا أنا قادر على دفع ثمن لحظة صراحة معه، العالم صعب بلا كلماتكِ، لأن صمت العالم أكثر مهانة من كلماته، أحاول يا أمي أن أكون وفيا لحلمكِ أنتِ، و إلا لما اخترتُ الحزن المُخيِّم على الكتابة، أتذكر كيف كنت ألعنُ حظي لأن أمي تجيد الكتابة والقراءة، ومن في جيلك كان يعيش هذا النعيم، ومن في جيلي كان يعيش هذا الجحيم، أنظر إليكِ الآن وأنتِ تخرجين كراساتي وأنا أتمنى أن تقع حقيبتي في هوّة وتنحدر لتصل الجحيم، لا مفر من كتابة الواجب للبدء بعدها في نقل الفوضى التدميرية إلى الشارع، “كاتب” هذه الكلمة المحببة لكِ والمثيرة للدوار بالنسبة لي هي السر الرائع بيني وبينكِ، لم تكوني يا أمي على علم بأن ليس للكاتب فضائل البطل، بل هو أكتيون الصياد الذي فاجأ أرتميس إلهة الصيد وهي تستحم فحولته إلى أيل، يقفز من كلمة إلى كلمة، من جملة إلى جملة، محاولا بقرونه دفع قسوة العالم عن قلبه وقلوب من يحبهم، أنتِ ومعنى الحياة تنتظران في الظلمة، أنا أعود آخر الليل ومعي الكثير من الأعذار، أما الموت فيأتي آخر الليل ومعه الكثير من الكلام السيِّئ ووميض نظرة تقول: أنا هنا أقف دائما بين الإنسان ومصدر متعته، الحب يا أمي يعيش في الحاضر وهذا ما يغضب الموت، كانت عيوني تمتلئ بالدمع كلما مددتِ يدكِ لي بثمن كتاب، بهذا فقط كنتِ تشعرين بإكمال فائدة وجودكِ ومتعتكِ، أعرف أنكِ كنتِ تكرهين صورة سارتر لكنكِ ضعيفة أمام رغباتي المنفلتة من كل تحديد، أعرف أنكِ كنت تتقززين من عناوين كتب فرويد، لكنك ضعيفة أمام أن ينفرد ابنكِ بهذا الفضول الرفيع على حساب أشباهه، كنتِ فقط تحبين عناوين الروايات وصورة ديستويفسكي التي تم إلغاء الشر منها، أحقد الآن يا أمي على سارتر، وأسخر من كلام  فرويد، لكني أحترم ديستويفسكي لأنه لم يخيِّبْ ظنكِ وكان دائما بجانبي في أسوأ اللحظات.

لم أخبركِ يا أمي أبدا أني احترمتُ حبيباتي لمشاركتهن لكِ جريمة حبي وتاء التأنيث الخاصة بكِ، أحبهن يا أمي لأنهن طيبات مثلكِ، ويفهمْنَ جيدا أني ليس سوى طفل صعب المراس، يشتعل بوقدة الهامشيين والصعاليك والبؤساء ويعطيهم مأوى في قلبه، أحببتهن لأنهن مثلكِ قادرات على إنقاذي من خرابي، قلتِ لي مرة أن المرأة الرائعة لا تحب الولع بالدقة، وتكره الرجل المتيم بالادِّعاء الخاطئ، المرأة تقف إلى جانب الرجل الذي يعرف ما ليس بالضرورة أن يكون في الحب، أحب أن أفكر فيكِ الآن وأنتِ امرأة تعرف كل هذا القدر عن الحب ولا تدري، يا أصدقائي الأمُّ مثل المدينة هناك من يعبرها دون دخولها وهناك من يقيم فيها دون الخروج منها كل المدن ينطفئ نورها بعد أن نقترب منها أو نعتاد عليها، لكن قبلات أمهاتنا لا ينطفئ نورها من على خدودنا أبدا، لهذا أعيش فيكِ أنتِ كمكانٍ أليف تذهب اللحظات فيه نحو الأفضل بشكل عجيب، أصدقائي يا أمي هؤلاء الذين يحملون في طياتهم يقين استمراري، الآن يعرفون مِن أين جئتُ بتلك اللمسة الإنسانية، من أين جئتُ بتلك الأنامل التي تصنع فسحة صغيرة في عيون الموت، منكِ أنتِ تعلمتُ أن أَخِرَّ على التراب راكعاً لطلب الغفران للإنسان الذي يعذب نفسه بالانتقال من افتتان إلى آخر، كيف أكتب عنكِ بكل تفاصيلكِ الحميمة والصغيرة، الكتابة عن أمهاتنا تحتاج إلى هوامش كثيرة، المتْنُ غبيٌّ أما الهامش فيحفظ العواطف خوفا من تركها تتلاشى، الهوامش جميلة لأننا نربطها دائما بهدف أناني، أجلس على مدى الخط المنحني في عيونكِ، في ذاك الركن البعيد، صامتةً كملاكٍ، وحيديْنِ أنا وأنتِ، لا أعرف يا أمي الكآبة وأنا بقربكِ ولا الحزن الذي يسببه سوء فهم الناس لبعضهم البعض، قد أبكي فقط من خوفي أن ينجز الموت بالقرب مني معناه الكامل، قد أبكي ليس بسبب الحزن، لا، لكن بسبب أن الحياة لا تعرف مَن تُنزل به العقاب ولا من تعفي عنه، الحياة مغرمة بتدمير أجمل و أسمى ما فيها وهو العيش في بيت محاط بحنان الأم، تهرب دمعتي من ابتسامتكِ لأنها عزاء لا يمكن الوثوق فيه، أكتب فقط يا أمي لطرد هذا الخوف، من أجلكِ فقط  أحكي لأصدقائي هنا حكاياتٍ أنا نفسي لا أعرف نهايتها، التفكير في النهاية يا أمي وحده ما يصنع الكاتب وموته، كيف يا أمي يمكن ابتلاع الموت دون غثيان، الآن يا أمي أعرف لماذا كنتِ تكرهين سارتر، كأنكِ عرفتِ أنه هو من قال: ” الإنسان هو عاطفة اشتياق لا جدوى منها “، سوف أكون بدونكِ طفلاً جاهلاً مثيراً للشفقة ولا يعرف شيئاً عن نفسه، أرجوك لا تتركيني لفظاظة  سارتر واشتياق لكِ لا جدوى منه.


من كتاب: تاء مربوطة

مقالات ذات علاقة

وحكايات اخرى للغروب (2)

سالم الكبتي

هجرة غير مشروعة

فائزة محمد بالحمد

هل الموت إمراة أم رجل؟

قيس خالد

اترك تعليق