المقالة

“الغرفة211” كتاب دوري يلم شمل الثقافة الليبية

عبده وازن|لبنان

مجلة الغرفة 211
مجلة الغرفة 211

واجه الأدب الليبي الحديث والراهن حالاً من التهميش طوال عقود، وبلغ ذروة التهميش خلال سنوات حكم معمر القذافي، لا سيما حين قرر القذافي أن يكون هو أديب الأمة الليبية من غير منازع، فأصدر قصصاً ونصوصاً سردية، علاوة على “الكتاب الأخضر” الذي ترجم إلى كل لغات الأرض ومن ضمنها اللغة العبرية. ووجد القذافي من حوله أدباء ليبيين وعرباً تطوعوا في حملة ترسيخ “عمادته” الأدبية، فأصدروا عن أدبه مجلدين ضخمين، ضمّا دراسات كتبها نقاد وروائيون وشعراء من ليبيا والعالم العربي، وبعضهم من الأسماء الشهيرة.

وعندما حلت الثورة الشعبية على الحكم الدكتاتوري وشارك فيها مثقفون معارضون، تمكن الثوار من إزاحة القذافي وإسقاطه، ولكن عوض أن تحقق الثورة أحلام الثوار، راحت البلاد تقع في حرب أهلية، فرُسمت خطوط التماس واندلعت المعارك، ولا تزال البلاد حتى الآن رهينة الانقسام والتقاتل المريب. أسهمت هذه الحرب في تهميش الأدب الليبي أيضاً، وانعكست سلباً على رواده الجدد، وسعى الكتّاب جميعاً، المقيمون والمحاصرون في الداخل، والمنفيون والمهجرون، إلى فرض أسمائهم في الحركة الأدبية العربية، وأسسوا روابط وجمعيات وأصدروا مجلات لم تدم طويلاً، ومنها مجلة “عراجين” في القاهرة.

المشهد الأدبي

لكن المشهد الليبي العام ظل يسيطر عليه إسمان كانا الأبرز في الساحة العربية، وهما الروائيان إبراهيم الكوني الذي أقيمت حملة لتجريده من هويته، وأحمد إبراهيم الفقيه، اللذان كانا من جماعة النظام ونالا دعمه علناً وبلا حرج، على أن الفقيه انقلب على الحكم خلال الثورة.

تمكّن هذان الروائيان من السيطرة ولو إعلامياً على المشهد، على الرغم من بروز أسماء مهمة وطليعية لا يمكن تجاهلها البتة، ومن هذه الأسماء الروائية والشعرية والقصصية التي تتوزع في المنافي أو في الداخل  والتي يصعب جمعها كلها: خالد المطاوع، عاشور الطويبي، نجوى بن شتوان، وفاء البوعبسي، عبد الرسول العريبي، فوزية شلابي، جمعة عبد العليم، سالم العوكلي، محمد الأصفر، الصديق بو دوارة، أحمد يوسف عقيلة، عبدالله هارون، منصور بو شناق، ومحمد النعاس  وهو أول روائي ليبي يفوز بجائزة البوكر العربية عن روايته “خبز على طاولة الخال ميلاد”.

حال التشتت والتهميش التي يعانيها الأدب الليبي الراهن لا تزال مطروحة بُعيد اندلاع الحرب الأهلية التي تشهدها البلاد والتي أسهمت في تبديد المشهد الثقافي الليبي بين داخل ضئيل وخارج واسع بصفته منفى.

 من هنا انطلق مشروع الكتاب الدوري الصادر حديثاً بعنوان “الغرفة 211” وهو عنوان شبه مستغرب، وكأنه يعود إلى عمل روائي أو قصصي أو حتى شعري، لكنّ هيئة التحرير التي يرأسها الشاعر والأكاديمي خالد المطاوع المقيم في أميركا، توضح التباس العنوان في المقدمة التي وضعتها للكتاب الذي يمكن اعتباره أيضاً مجلة دورية تتخطى صفحاتها ال250، فالعنوان أُخذ من نص للأديب الليبي الراحل خليفة الفاخري عنوانه “موسم الحكايات” وفيه يصور الفاخري، كما جاء في المقدمة، “كاتباً منعزلاً في غرفة تحمل الرقم 211، في فندق عتيق يطل على مدينة ضيقة الصدر. ينهمك الكاتب الذي يشعر بوحدة عميقة، وبرغبة في الحديث إلى الآخرين في سرد الحكايات الشائقة التي تملأ ذاكرته وقلبه. وما إن يمضي في النقر على الآلة الكاتبة حتى يشرع نزلاء الغرف المجاورة في الشكوى من صوت حروفه المزعجة، فتنتهي الحال بالكاتب مطروداً من غرفة إلى غرفة، وهو لا يزال يعتقد أنه يكتب للآخرين”.

ينطلق اختيار العنوان، كما توضح المقدمة، من هذه المفارقة الأدبية التي لا تختلف كثيراً عن الواقع، “إذ لطالما اعتقد الكتاب أنهم يكتبون لمجتمعاتهم، فيما تشتكي مجتمعاتهم من ضجيج هذه الكتابة التي تعكر سكينتهم”. وتضيف المقدمة: “في ليبيا مثلاً، تكررت حالات الإزعاج الثقافي بين الكتاب والمجتمع، وبينت سوء الفهم بين طرفي العلاقة: مجتمع وادع يطلب السكينة والهدوء، وكتاب يرغبون في الحديث إلى مجتمعهم، عن حكاياتهم ومشاعرهم وآمالهم ومآسيهم العالقة في قلوبهم”.

 وتوضح المقدمة: “الغريب في الأمر أن هذا التذمر المدوي من الفنون يحدث في مجتمعات تدمرها الحروب، والاضطهاد الوحشي والفوضى والتدهور الاقتصادي والتفكك الاجتماعي والفساد الإداري، وانحطاط مستوى جل الخدمات التي تقدمها الدولة، وعلى رغم المعاناة التي يقاسيها المواطنون في بلادنا، إلا أن الأدب والثقافة والفنون تبدو لهم أكثر خطراً من الويلات الملموسة التي تعصف بموطنهم ومجتمعهم”.

من هنا يبدو الكتاب الدوري “الغرفة “211، محاولة لبدء موسم جديد و”دعوة إلى منح فرصة ثانية للاستماع من دون تشويش إلى أصوات جيل جديد من مبدعات ومبدعين لا يزال أغلبهم يطرد من منفى إلى منفى، ولا تزال حكاياتهم ضائعة”.

وتؤكد هيئة التحرير أنها تنوي لـ”الغرفة “211 أن تكون “مساحة ومجالاً لنقاش أرحب يسهم فيه جمع من المبدعين الذين لا تجد أفكارهم منشورات جادة متخصصة، ومسعى لتفعيل حوارات إبداعية متعددة بين الأجيال والأقران، وفضاء لطرح أسئلة أساسية أكثر اشتباكاً مع المجتمع، ومعنية على وجه الخصوص بشأن الوضع الحالي في ليبيا بمفهومه الأعمق”.

ترتيب البيت الليبي

في حوار أجرته “اندبندنت عربية” مع مدير التحرير خالد مطاوع، الشاعر والأكاديمي الذي يكتب بالعربية والإنجليزية، يوضح الأسباب التي حدت إلى تأسيس هذا الكتاب او المجلة الدورية قائلاً: “أولاً نظراً إلى كون المطبوعة كتاباً دورياً أو غير دوري، فهذا يرجع إلى صعوبة النشر في ليبيا وكون طباعة الكتب والصحافة الآن تحدث من خلال منظومة رقابية وإطار قانوني طبقاً لقانون المطبوعات القمعي الذي أصدره نظام القذافي عام 1972، في شقي البلاد، ونظراً إلى كون القوى المهيمنة حالياً في ليبيا لا تختلف كثيراً في رؤيتها إلى حرية الرأي والفكر عن النظام السابق، فهذا الوضع بحد ذاته يتطلب المكافحة وأن يكون حافزاً لإصدار مثل هذه المطبوعة وغيرها من المطبوعات”.

ويضيف: “أما كون “الغرفة “211 مطبوعة مخصصة لليبيا، فهي خطوة نحو ترتيب البيت الأدبي والثقافي الليبي، وإيجاد منصة يوضع فيها الشأن الثقافي الليبي والشأن الليبي العام كأولوية. أنت تعلم أن الخصوصية الثقافية والاجتماعية الليبية كانت دائماً ضائعة بين الأرجل، كما يقول المثل، بين تيارات قومجية وعقائدية (عربي، وإسلامي، وأفريقي)، وكان قد حكمنا دكتاتور، طالما شعر أن ليبيا أصغر من طموحاته، وقد نقول إن محاولاته المتعددة للوحدة مع دول عدة، كان المقصود منها تذويب المكون الليبي الثقافي في إطار جيوسياسي أكبر، قامعاً بذلك خصوصيات المجتمع الليبي وتنوعه وانفراده، واستمر هذا لأربعة عقود، كما أنك تجد الآن غالب القيادات السياسية الليبية تابعة ومتحالفة مع قوى خارجية، مما يؤدي إلى عرقلة وضوح رؤية مستقبلية إلى كيان موحد، يعمل وفق عقد اجتماعي جديد، يشكل الوطن بكل مواطنيه في هذا الوضع السياسي المشوش، الذي لا نراه سيتغير قريباً، رأينا أننا نحتاج إلى منصة نسمع فيها ذواتنا ونتعرف إلى أنفسنا بشكل أعمق، خصوصاً أن الظروف التي اختبرتها ليبيا في العقد الماضي وضحت أننا بلد له تركيبة سياسية واجتماعية مختلفة ومحتاجة لدراسة ثاقبة، تنتج إطارات فكرية عضوية ولا تعتمد على نظريات كبرى مستعارة”.

ثقافة الخيمة

وعن سؤال: هل تعتقد أن الأدب الليبي ظلم عربياً ولم ينل حقه المفترض، لا سيما في ظل الحكم السابق؟ يجيب: “في ظل الحكم السابق من دون شك، كان النظام قد قسم المشهد الثقافي لمهمات مخصصة، فالموسيقى خصص لها موسيقاراً يعبر عن الأغنية البدوية متمثلة في الخيمة، والرواية تحالف فيها مع مشروع روائي يركز على الصحراء وفكرة النبوءة، والفلسفة حاول أن يجعلها جزءاً من تأويل “الكتاب الأخضر”، والسينما أختزلها في فيلمين من إنتاج “هوليوودي”، أقصد أن القذافي أكتفى بثلاثة أو أربعة مصادر ثقافية فنية، مثلما كانت الصين في عهد ماو تعتمد على خمس مسرحيات أوبرا لا يسمع الشعب غيرها. طبعاً كانت هناك إنتاجات أخرى في ليبيا، لكن الدولة كانت تنتجها لتقتلها، أقصد أنها كانت تطبع عدداً من الروايات ودواوين الشعر وكثير منها غير جيد، ومطبوع في شكل سيئ، وتحتفظ بها في مخازنها ولا تعرضها على الناس أو في الإعلام، ولا تطلق لها المجال خارج البلاد، هذا خلافاً عن أن كونها تصدر تحت رقابة صارمة، أما المنتج الفني الليبي فظلم كذلك، بأن الدولة دمرت كل الطاقات الإبداعية في البلاد، من خلال توظيف معظم الفنانين في وظائف حكومية، حتى باتوا شبه معاقين وغير ملهمين، وقد تقول إنها دفعت لهم المال حتى لا يبدعوا أي فن إلا لإنتاج محتوى “وطني” استعداداً لاحتفالات الأعياد الوطنية، كما أن الفنان الذي كان ينشر أعماله خارج البلاد كان يُنظر إليه بعين الريبة، لذا لم يبدأ الأدباء الليبيون في النشر خارج ليبيا إلا في السنوات الأخيرة من عهد القذافي، أما في شأن كون الدولة قوة، فعالج تفتر، بل وتفسد وتلوث المناخ الثقافي، فللأسف أن نموذج العمل الذي كان سارياً في عهد القذافي ما زال موجوداً حالياً، ولكون دول الجوار كانت تنظر إلينا نظرة دونية، فهذا مما أضاف من الشعور بالظلم. أتمنى أن تكون “الغرفة 211″ فرصة لإطلاق طاقات إبداعية جديدة ورفع الظلم التاريخي عن الأدب الليبي، علماً أن الأدب الليبي بدأ يرفع الظلم عن ذاته بطاقات مبدعيه، فمعظم الإشعاعات التي صدرت في الأدب الليبي في الآونة الأخيرة، كان مصدرها جهد الأدباء أنفسهم، وكانوا في ذلك يتنافسون مع أقرانهم في المنطقة، وهذا يعطينا شعوراً كبيراً بالأمل، وبأن المنتج الفني الليبي سيميز نفسه في الفترات المقبلة”.

منبر مفتوح

وعن سؤال: هل ستفتحون المجلة أمام كتاب عرب وقضايا عربية لتكون مجلة ليبية وعربية؟ يقول: “كما ذكرت لك، نحن الآن نركز على مساندة الجهد لترتيب بيتنا والبت مع زملائنا في ليبيا في قضايانا الكثيرة، لكننا نسعى، بل يهمنا جداً، أن ننشر أعمالاً تخص الشأن الليبي من كتاب غير ليبيين، وفعلنا ذلك في العدد الأول، العدد”. وأسأله: أليس في قراركم ما يشبه الدعوة إلى كل دولة عربية لإنشاء مجلتها الخاصة بها؟  ويجيب : “أنا في الحقيقة سيسعدني لو تقوم المؤسسات الثقافية المستقلة في البلاد العربية بذلك، فيهمني أن أعرف المشهد الجزائري او العماني من قرب، ولكن بنوع جديد من الصرامة والنشاط، ومع البث الجاد في الظروف الثقافية المحيطة بهم عبر تساؤلات دقيقة”.

هل سيعيد الكتاب الدوري النظر في أدب النظام السابق الذي قام تحت سلطة القذافي ورموزه في ليبيا؟  يجيب: “من دون شك، ومحاولة الإنصاف لتلك المرحلة وللمحاولات العديدة لمعارضة أومراوغة المناخ القمعي في فترة الدكتاتورية، وقول الحقيقة على الرغم من الإعاقات الجسيمة، كما أننا سنحاول أن ندرس الخطاب الليبي الأدبي والصحافي قبل ذلك في فترة المملكة، حيث كان حيز الرأي أوسع، وحتى في عهد الاستعمار الإيطالي، سندرس ونستعين بكل ما في تراثنا الأدبي المعاصر من محاولات قول الحقيقة، سواء لمن هم في السلطة، أو لمواجهة القوى والتيارات والقناعات القمعية داخل المجتمع ذاته”.

يصدر كتاب «الغرفة 211»، عن مؤسسة أريتي للثقافة والفنون وضم العدد الأول مجموعة من النصوص الأدبية الجديدة لكل من : صالح قادربوه، ومحمد النعاس، وفيروز العوكلي، وسعاد سالم، وكوثر الجهمي، وشكري الميدي آجي، وحوى العدد ملفاً خاصاً عن الروائي الليبي الإيطالي الراحل باسيلي خزام، المعروف بـ”أليساندرو سبينا”، وشمل الملف مقالين لهشام مطر وأندريه نفيس ساحلي، وترجم أحمد شافعي بعضاً من أعمال سبينا الروائية التي أرخت للحياة الثقافية والاجتماعية في ليبيا فترة الاستعمار الإيطالي وما تلاها، إضافة إلى مقطع مختار من روايته “الساحل الرابع”، وضم العدد مقالات ونصوصاً عدة.

ومؤسسة “آرتي للثقافة والفنون” هي، كما جاء في التعريف بها، “منظمة ليبية وطنية غير هادفة للربح تسعى لدعم الإبداع الفني والتبادل الثقافي في ليبيا”. وقد نالت دعماً من مؤسسة “آفاق” العربية.

يرأس تحرير “الغرفة 211” الشاعر الناقد خالد المطاوع، ويدير التحرير الكاتب حسام الثني.

مقالات ذات علاقة

يَغْشى الوَغَى.. ويَعِفُّ عِنْد المَغْنَـمِ

أمين مازن

في حضرة ما نحب

ليلى المغربي

مجزرة الرُضع

المشرف العام

اترك تعليق