في ذلك العام البهيج لا أذكر، بالتحديد، عدد الليالي التي أمضيناها معاً في لقاءاتنا الثقافية المُمتعة بذلك المقهى الفسيح بدفئه ورخامه الأحمر ومقاعده الخشبية الأنيقة، الكائن بنهاية شارع عمر المختار تحت «النادي الأهلي» القديم بجوار «سينما برنيتشي» بنغازي، حيث الباب الخزفي الكبير والنوافذ الزجاجية الواسعة المطلّة على الشارع الفسيح بأرصفته العريضة النظيفة، وحيث حديقة الخيّام بنافورتها الملوّنة وأشجارها العالية وممرّاتها الآجورية الحمراء بين الزهور الزاهية.
كانت كل تلك المساءات الصيفية بهيجة في بنغازي مطلع السبعينات، وأكثرها بهجة كان مساء الخميس، حيث تزدحم الشوارع بالمارّة من الشباب والفتيات وهم يعبرون في خُطى هادئة مرحة من ميدان الشجرة إلى ميدان البلدية والعكس، مروراً بمحلاتها العامرة المضيئة ومقاهيها الغامرة الأنيقة على طول الأرصفة من الجانبين، وتحت أقواس مبانيها البيضاء العالية والمدارج الخضراء لفندق «الخيّام»، وحيث الطيور تعود إلى أعشاشها على الشجر تحت سماء صافية ولا تكفّ تشقشق على إيقاع خطوات الحسناوات في ممرات الحديقة ورصيف المشاة العريض الواصل بين شارعي جمال عبدالناصر وعُمر المختار.
أمام كُل ذلك الجمال في بنغازي -التي كانت- وفي تلك المنطقة الآسرة على البحر جهة الميناء، كانت فيروز والأخوان رحباني في صحبتنا من المساء إلى آخر الليل، حيث تسهر مصابيح الشوارع على خُطى العاشقين، وحيث الستائر البيضاء في شبابيك البنايات العالية تهزُّها نسائم البحر مع انبعاثات موسيقى الرحابنة من بعيد «سكن الليل، ويا داره دوري بينا».
وكأن فيروز قد أطلت خصيصاً من جبل لبنان كملاكٍ أبيض وسكنت قلب بنغازي في بهاء صباحاتها ومساءاتها، وقد وهبتنا الحُب دون أن ندري، فكانت لا تتألّق برامج الصباح بالإذاعة الليبية إلا بصوت فيروز، ولا تبتهج مقاهي المدينة إلا بموسيقى الرحابنة.. واللافت أن جيلاً كاملاً من الشباب والفتيات في تلك الفترة بالذات قد عشقوا فيروز دفعة واحدة مع حُب القراءة، فأحالوا المدينة الحالمة إلى قصائد وموسيقى عاشقة مع نسيم المساء وحكاياته في الحُب والفن والأدب، وكأن الحياة في بنغازي قد أضحت كرنفالاً للعاشقين، ومقاهيها منتدياتٍ للمثقفين.
كان تأثير فيروز على تجربتنا الأدبية واضحاً في تلك الفترة التي وسمونا فيها بـ«أدب الشباب» وبعد ذلك بـ«جيل السبعينات» لظاهرته الإبداعية اللافتة التي ضمّت نُخبة ثائرة ومميزة من الشعراء وكُتّاب القصة القصيرة، فكان ارتيادنا لعددٍ من المقاهي في وسط المدينة إضافة ثقافية مهمة في حياتنا، وبذات قيمة المعرفة التي كنا نستقيها من المكتبات العامرة بأحدث الإصدارات العربية والعالمية في الأدب والنقد والفكر والفلسفة، ومن منتديات المراكز الثقافية العربية والأجنبية، ومن المسرح والسينما بجديدهما المستمر.. وفي تلك الفترة بالذات -مطلع السبعينات- كان عدد المسارح بوسط المدينة كعدد المقاهي ودور العرض فيها، فأينما حللت كانت «الثقافة» بفنونها وآدابها عنواناً بارزاً في أرجاء المدينة، حيث المسارح تُعلن عن عروضها الجديدة بلوحات وملصقات كبيرة تزيّن الشوارع، كما ملصقات الدعاية للأفلام الجديدة وعروض السيرك ومهرجانات الموسيقى والغناء.
ومع الحفلات الغنائية التي كانت تُقام للأغنية الليبية بأصوات مطربينا الكِبار على مسرح مدرسة بنغازي الثانوية للبنات بجوار «نادي الهلال» القديم، كان الشاب «أحمد فكرون» حينها يعزف مع فرقته موسيقاه الغربية الجميلة للأجانب بفندق قصر الجزيرة «البرنيتشي» ضاحية «الكاتدرائية» على الكورنيش، فيما «منتزه بنغازي» في الجوار يستقبل العائلات الليبية والعربية للسهر الطويل على أنغام فيروز.
كانت مساءاتنا بهيجة ونحن في عِزّ شغفنا الثقافي بالكتابة والنقد، نتنقّل من مكان إلى مكان في الزحام بين وجوه الناس المنيرة المُستبشرة، فتارة تأخذنا حوارات الثقافة في «المسرح العربي» خلف ميدان البلدية، وتارة في «المسرح الشعبي» و«المسرح الوطني» عند ميدان الشجرة، حيث ازدهر المسرح البنغازي في تلك الفترة، واستفاد من خبرة ممثلين مصريين كِبار كانوا يقيمون في بنغازي، منهم «محمد توفيق» و«عُمر الحريري» و«السيد راضي».
وبين الأمسيات الشعرية بمدرّج «رفيق المهدوي» بكلية الآداب، والعروض المسرحية والمهرجانات الغنائية، كنا دائماً على موعدٍ مع الأصدقاء في «نادي الفنانين» الكائن بشارع عمر المختار أمام البريد القديم فوق «مكتبة قورينا- عبدالمولى لنقي»، حيث اللقاءات الحميمية بين أصدقاء الفن والأدب وشُعراء الأغنية والمطربين والإعلاميين، ومنه كانت مجموعتنا تنطلق في الليل إلى دارنا الصغيرة في مصيف «جليانة» للسهر على موج البحر ونسائمه العليلة، وفي آخر الليل يتلو «علي الفزاني» بعضاً من قصائده المُهاجرة، ويتلو «عبدالسلام زقلام» مطالع من كلمات أغانيه الجديدة، فيما تأخذني خطاي على الرمل ساهماً في الذكريات وضوء القمر يتلألأ على سطح الماء كأنه يعزف لبنغازي في ليلها الهادئ ويغنّي «يا قمر أنا ويّاك….».
.. في تلك الليلة الصيفية عام 1973 كان لابد لنا من اللقاء بمقهى «برنيتشي» وبحوزتنا نصوصنا الجديدة المفعمة بالزهو قبل الفرح بالنشر.. حضرتُ باكراً من «سي اخريبيش» برفقة القاص «محمد المسلاتي» وبعدها بدقائق وصل من «داخلي جليانة» الشاعر «السنوسي حبيب» والكاتب «مصطفى الهاشمي».. وبعد وقت حضر من ضاحية «فندق بن غربال» المسرحي «سالم بن غزي» ومعه جهاز تسجيل وبهجة في الوجه وفي اليديْن، وقبل أن ينادي لقهوته المعتادة جلس في ركنه المفضل عند الشرفة، وطلب الصمت وفتح ستار المساء على مسرحية «المحطة» لفيروز ونصري شمس الدين في إصدارها الأول الذي هبَّ من بيروت بأجنحة الشوق.
كانت «محطة» فيروز آنذاك محطتنا التي انطلقنا منها إلى ميادين البوح بالجمال، وبلوحاتها المسرحية الغنيّة بحوارات الموسيقى أخذتنا الحواديت، وكأننا في بيروت ضاحية «كورنيش المزرعة» نمضي ليلتنا الطويلة العبقة بالأشواق، لنعود بعدها إلى بنغازي بتلك الروح الجميلة التي انعكست على نفوسنا، ولتكون تلك اللوحات المسرحية من الذخائر الرائعة التي أشبعت خيالنا بالتأمّلات، وأكسبتنا روح المغامرة والشغف بألق الكلمات.
.. أذكرُ أن ذلك العام 1973 كان طويلاً جداً، وممتعاً للغاية، وبالنسبة لي عشتُ خلاله أجمل أيام حياتي، فقد شهد الكثير من الأحداث الشخصية الهامة، ففيه فتحتْ لي الصحافة أبوابها، وفيه تم تعييني في الدولة، وفيه صادقتُ الكثير من الكُتّاب والأدباء والفنّانين، وفيه سافرتُ إلى عواصم عربية وأوروبية وقُرى نائية، وفيه عشقتُ وأحببتُ، وفيه انتقلنا من بيتنا القديم في شارع «عبد الله باله» إلى شارع بيروت في «بن يونس».
وهو ذاته العام الذي تعلّمتُ فيه قيادة السيارة فذهبتُ بها لأول مرة إلى الجبل الأخضر أقضي أياماً بين أقاربي في البيضاء والقبّة وعين مارة ودرنة، وفي ختام ذلك العام في شهر ديسمبر، أقفل مسرح الحياة باباً جميلاً كان يعبره الضوء والهواء، وكأن عمري كُلّه كان في ذلك العام حتّى نهايته في ديسمبر، وقد غنّت فيروز للشتاء وغنّينا معها تحت الغيم «رجعت الشتوية» لتبتلَّ ذكرياتنا وترتعش فينا الخواطر.
في تلك الليلة الموحشة نهاية ديسمبر دخلتُ المقهى وحيداً وحزيناً بمعطف لم يقيني المطر، والريحُ تعصفُ بالمصابيح وبأشجار الحديقة، فيما لا أثر للأصدقاء ولا للمارّة على الرصيف حيث ترقص حبّات المطر، والمحلات مُقفَلة والشبابيك.. كان ليل بنغازي حينها يغمرني بالحنين إلى أصدقاء غابوا كما النجوم خلف الغيوم، وتذكّرتُ تلك المباهج الصيفية التي صنعتها فينا «فيروز».. وجنح خيالي بهم فجمعتنا تلك «النافذة» بأنفاسنا الدافئة كغرباء، وعروق المطر على الزجاج تكسر الضوء الخافت في فراغ المدينة، فيما نصوصنا القصيرة المُبتلّة بماء السماء ترتعش بين أصابعنا بالقلق والحنين، وعلى صوت الريح خارج المقهى غنّت فيروز لصمتنا الحزين: «سَنَرجِعُ يوماً إلى حَيِّنا/ ونغرَقُ في دافئاتِ المُنى/ سنرجِعُ مهما يمرُّ الزمان/ وتَنْأى المسافاتُ ما بيننا».