كان ذلك منذ زمن بعيد عندما سمعت باسم هيرودوت وبأنه أبو التاريخ، ولم يكن هذا التعريف يعني لعقلي شيئا أكثر، وفيما بعد صرت أقرأ بين الحين والآخر مراجعات عن تاريخه، وكان من النادر أن أقرأ كتابا أو مقالا في التاريخ القديم دون أن أجد اسم هذا الرجل يحتل مكان المرجعية الأولى، لكنني لم أقرأ شيئا من تاريخه، أخيرا وجدتني أمامه وجها لوجه بجناح الإمارات بمعرض القاهرة للكتاب في دورته الأخيرة، فقد قامت هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث بنشره في طبعة ثانية وبترجمة الأستاذ عبد الإله الملاح، وفي هذا المقام لا يمكن للقلم إلا أن يتوقف ويشيد بالدور الذي تقوم به المؤسسات الثقافية في الخليج خاصة في الكويت وأبو ظبي في أعمال الترجمة بمختلف آفاقها الأدبية والعلمية، وهو دور فشلت في القيام به مؤسسات أخرى في دول بها من الإمكانيات البشرية والعلمية ما يفوق ما في دول صغيرة بكثير مثل دول الخليج وإماراته، لكن العبرة ليست بالحجم أو بالموقع الجغرافي أو بعدد المؤسسات أو حتى بالتاريخ، بل العبرة بشروط لها علاقة بوعي العقل ومسئوليته الثقافية والحضارية ليس هنا مجال الخوض فيها، ورغم هذه الإنجازات المتميزة في مجال الترجمة إلا أننا وفي مجمل القول لا بد أن نعترف بتخلفنا الشديد فيه، ولعل البعض منا لا يعلم أن الترجمة هي التي صاحبت ما يعرف بعصر الانحطاط والذي سبق عصر نهضة الحضارة العربية والإسلامية الذي لا زلنا نتغنى بما قدمت للعالم في كل صنوف العلم والمعرفة، فذلك العصر لم يكن عصر انحطاط بل كان عصر التدوين، وكان هو الأساس الذي قامت على أعمدته الحضارة العربية فيما بعد، فقد انكب فيه العرب على ترجمة ما كتبت الأمم الأخرى في علومها وآدابها ودياناتها وفنونها، كانوا يقطعون المسافات الطويلة راجلين من أجل كتاب ليترجموه، هكذا كنا ولم نعد نملك إلا ما كنا عليه ولم نضف إلى متنه جملة أخرى من حاضرنا.
تاريخ هيرودوت ليس من اليسير أن تكتفي منه بقراءة واحدة، فهو ليس برواية، هو يقترب من ملحمة إنسانية عز نظيرها تزخر بالوقائع والحوادث والأسماء والمعارك وبالتفاصيل التي لا يستطيع رصدها إلا من عايشها، هو تاريخ غير مسبوق وسيظل هو المرجعية الأولى لكل باحث في تاريخ الأمم وحضاراتها وثقافاتها، أيضا سيظل المرجعية الأولى والموثقة لكل باحث عن جذوره الحضارية بل وحتى عن موطنه الأصلي وأصوله العرقية، الأسماء تتداخل والحوادث تتداخل والشخصيات تتداخل والمعارك الطاحنة تتوالى وكأن البشر لم يولدوا إلا من أجل أن يكونوا غزاة أو مدافعين عن حرية بلدانهم، حروب ودماء وجيوش جرارة تقطع المسافات راجلة وعلى ظهور الخيل والفيلة ومعارك ومؤامرات وأساطير وديانات وآلهة تخط للبشر مسارات حياتهم ومدن تزول ومدن تولد، وهيرودوت يتنقل من بلاد إلى بلاد يسمع ويرى ويسجل من أجل أن يترك للتاريخ تاريخا آخر، ولا أعتقد أن هناك مخيلة بوسعها أن تتصور مقدار الجهد وقوة الإصرار التي امتلكها هذا الرجل من أجل أن يكتب تاريخه على رقع يزداد ثقلها يوما عن يوم.
يستغرق تاريخ هيرودوت الفترة 450 – 420 ق م. ومنه نعرف الكثير عن الأمم التي عاشت في ذلك الزمان، حيث بدا بتسجيل أحداث الصدام بين بلاد اليونان والشرق وانتهى بوصف شامل للحرب التي دارت بين اليونان وجيوش الفرس، بل إنه كثيرا ما يتوقف عند التفاصيل الصغيرة، وقد اتبع فيها طريقة الراوي الذي يروي على الناس ما رأى وما سمع بأسلوب قصصي لا يخلو من التشويق، أما إذا استعرنا فنون الرواية الحديثة فيمكن القول بأن قوة السرد لديه كانت على درجة عالية من الانسياب والترابط والتلقائية التي تعرف كيف تحكي ولمن تحكي وبأسلوب حميم، وخلال أسفاره التي استغرقت 17 سنة زار بلدانا كثيرة ووصل إلى شلال النيل جنوبا والبحر الأسود شمالا وبابل في الشرق وبرقة في الغرب، كما تحدث عن القبائل الليبية وعن قورينا وشقيقاتها وحوادث تاريخها، وهو أول من أشار للجرامنت وموطنهم الذي يقع على بعد مسيرة عشرة أيام من أوجلة، وبين أنهم كانوا كثيرو العدد يملكون العربات التي تجرها الخيول، كما يعرف بالقبائل الليبية في سرد يقترب من التفاصيل خاصة في ما يتعلق بعاداتهم وأزيائهم وطعامهم، ويصف أطفالهم بأنهم أسلم الناس صحة في العالم ويؤكد أنهم جميعا يتمتعون بصحة ممتازة، ويستشهد على ذلك بطرق العلاج عندهم، فهم مثلا يستعملون الكي بالصوف المدهون بالشحم، وهو لا ينسى المرأة ولباسها وزينتها فيسجل وصفا شيقا لهذا، وهو يقدم خريطة مفصلة لتوزع هذه القبائل وحدود مناطقها إلى درجة أنه لم يترك معلومة قد يجدها من جاء بعده من المؤرخين، ثم يتوقف عند قبيلة البسيلي ويحكي كيف انقرضت فيقول أن ريح الجنوب هبت على منطقة هؤلاء فجفت مياه الخزانات فلم يبق لهم ما يشربونه، فاجتمعوا للنظر في ما ينبغي عمله، فاتخذوا قرارا بشن الحرب على ريح الجنوب، وعندما خرجوا لقتالها هبت عليهم عاصفة رملية عاتية فقضت عليهم جميعا.
(والقارئ العربي مدين لهيرودوت إذ اهتم بتوثيق تاريخ العرب وبين أن أصل الفينيقيين من منطقة الخليج العربي وأنهم انتقلوا إلى الشاطئ الشرقي، كما وصف أعمالهم مهاراتهم ومعابدهم وبين أنهم علموا الإغريق الأبجدية، وقد وصل إعجابه بالعرب وبلادهم إلى درجة أنه يصرح بان بلاد العرب كانت تفوح بعطر سماوي)،لكن يمكن القول أن شاغله الأول كان التوثيق للحروب التي دارت بين الفرس والإغريق، والتي رأى فيها صراعا بين إرادة الحرية وغلبتها على قوى الاستعباد الذي تمثله إمبراطورية الفرس، لذلك فليس من الغريب أن يتقصاها في كل تفاصيلها وأبعادها معولا على الملاحظة والبحث والاستنتاج وهو المنهج العام الذي أخذ به في كل تاريخه رغم اعتماده أحيانا على ما سمع وهذا قليل إذا قورن بحجم المعلومات التي كانت نتاج الملاحظة المباشرة، وهو في كل هذا لا ينسى أنه يؤرخ بالدرجة الأولى لكن بلغة لا تتجاهل الأفق الإنساني على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة عندما يرصد الأحداث الخارجية بحروبها ومواقعها وانتصاراتها وهزائمها، وهو في كل هذا نراه يتوقف عن سرد حدث ما فيعرض لأحداث لها صلة بصعود دولة الفرس والتي كانت القوة الأعظم في زمانه، أما في الحروب التي دارت بينها وبين الإغريق فهو يذهب في تسجيل الأحداث إلى مدى أبعد وكأنه مبثوث فيها رغم تباين أزمانها وأماكنها وشخصياتها، ثم يخلص إلى القول بأن سبب انتصار الإغريق قليلو العدد على الفرس بجيوشهم الجرارة هو أن الإغريق طالبو حرية ويخضعون للقانون الذي يساوي بينهم جميعا عكس الفرس الذين لا يخضعون إلا للسوط، وليس لنا هنا أن نؤيد قوله أو نرفضه، إنما هو للدلالة على أسباب انتصار الضعيف على القوي، الضعيف عندما يصبح قويا بحريته والقوي عندما يصبح ضعيفا بعبوديته، فمن خلال رصده للحرب سجل بداية نشوء الإمبراطورية الفارسية وتتبع مراحل تطورها وتوسعاتها ثم انهيارها. هل سيعيد التاريخ نفسه؟