الروائية الليبية عائشة إبراهيم تكتب عن اختبار الإنسانية الأشدّ قسوة
مجلة الناشر الأسبوعي | خالد بن صالح – الجزائر
في الصفحة ما بعد الأخيرة لروايتها “صندوق الرمل” الصادرة عن منشورات المتوسط، العام 2022، ترفق الروائية الليبية عائشة إبراهيم صورةً لنساء ورجال ليبيِّين يقودهم جنودٌ إيطاليون بالعبارة التالية: «كان باولو فاليرا هو الصحفي الوحيد الذي تمكَّن من زيارة السجناء الليبيِّين في مستوطنات العقاب الإيطالية، وتحدَّث إلى السجينات قبل أن يختفينَ إلى الأبد». ليكون باولو فاليرا رفقة فرانسيس ماكولا وآخرين من بين الذين كتبوا عن ظروف اعتقال النساء الليبيَّات، ودوَّنت كتاباتُهم فظائع ما حدث في المعتقلات، من خلال الصحف والبرقيات والأرشيفات الخاصة بالصحفيين الايطاليين والانجليز، الذين تابعوا الحرب الايطالية في ليبيا خلال العام 1911.
استناداً إلى هذا الأرشيف، من حوارات صحفية وتقارير ميدانية ومذكِّرات شخصية؛ كتبت عائشة إبراهيم روايتها، منتصرةً للضمير الإنساني، للصوت النسائي المغيَّب، وللَّذين التهمتهم نيران الحرب وهم يدافعون عن وطنهم في معارك دامية، مبرزةً في سردٍ غنيٍّ بالتفاصيل والمشاهد التي تتحرَّك في جغرافيا قاسية نظرةَ الآخر للحرب. الحرب التي يخوضها شباب وُضِعوا في اختبار الإنسانية الأشدّ قسوة، وهم يُقتلون ويَقتلون، ويموتون جوعاً وعطشاً في خنادق تلتهب تحت الرمال، قبل أن تعود بهم الصناديقُ من حيث أتوا.
التجنيد نحو المجهول
على مواليد عام 1888 الالتحاق بالخدمة العسكرية وتلبية نداء الحرب. هذا ما أقرَّته الهيئة العامة للجيش الإيطالي من أجل تجنيد أكبر عدد من الشباب لخوض حرب مجهولة المعالم والغايات في ليبيا العام 1911. واستعانت الهيئة لاستمالة الشبان الفقراء بالصحف والقصائد والأغاني التي تثيرُ الحماسة وتدغدغ المشاعر بالآمال الكبيرة، وتعدهم بحدائق غنَّاء تنتظرهم في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط. هكذا وجَدَ ساندرو كومباريتي نفسه في الفيلق الرابع والثمانين على متنِ الباخرة (ري إمبيرتو) المتَّجهة إلى طرابلُس ليبيا؛ منساقاً كما رفاقه من الجنود بتأثير الدعاية الإعلامية، وفي رأسهِ تدور أغنيةٌ واحدة، بصوتِ المغنية الشهيرة جيا جارسيندا. بل إنَّ إيطاليا كلُّها آنذاك كانت تغنِّي بصوتٍ واحد: «اذهبْ أيُّها الجندي.. فإيطاليا معك.. والمواسم الحلوة تنتظرك».
على متن الباخرة التي بدأت تقترب من الشاطئ، كان ساندرو كومباريتي يرصدُ مشاعر الجنود الذين فاجأتهم القذائفُ لأول مرَّة، واختبروا مجَّانية الموت منذ اللحظات الأولى، والخوف من المجهول، والتخمين حول طبيعة المهمَّة التي جُنِّدوا لأجلها. ومثله مثل بقية الجنود لم يكن ساندرو مؤهَّلاً لأن يكون مقاتلاً في جبهات المعارك والظروف المناخية الصعبة. كان الابن الأصغر لعائلة فقيرة تعيش في حي بورتا جينوفا، انفصل والده عن أمِّه، وهاجرَ شقيقه إلى أمريكا وماتت شقيقته بالكوليرا، لكنه عاش حالماً بحياة مدنية تؤمِن بالجمال والفن والموسيقى، مكرِّساً كلّ وقته للتدريب في صحيفة محلية، على أمل أن يُكمل لاحقاً مشواره المهني في الصحافة. لكنَّ هذه الآمال على بساطتها ستتبخَّر في عرض البحر وبين كثبان الرمل الحارقة.
بائعة الحليب
ذات يوم، وفيما ساندرو غارقٌ في خندقه بين أكياس الرمل، عبرت أمامه فتاة ليبيّة يافعة من طرابلس، يرافقها شقيقها الصغير، وهي تقود حماراً في طريقها لبيع الحليب. تجبره بصرخاتها الحادَّة أن يفسح لها الطريق لتعبر الخندق في الاتجاه الآخر. كان مذهولاً بجمالها وكبريائها ولهجتها الواثقة. فسحَ لها الطريق، وساعدها على العبور. تكرَّر مرورُها في أيامٍ أخرى، وفي كلّ مرَّة كانت تعبر دون أن تشكره أو تحفل بمساعدته، لكن جمالها أثار فيه مشاعر الحب، وراح يرسم خيالاته العاشقة قبل أن يعرف اسمها.
تطوَّرت المواجهات لاحقاً، وشهدت أعنف معاركها في شارع الشطّ بين القوات الإيطالية من جهة، والقوات التركية مع الليبيِّين من جهة أخرى، بمساندة أهالي حي المَنْشِيَّة، حيث خسرت إيطاليا عدداً كبيراً من الجنود. في اليوم التالي صدرت التعليمات من قائد الحملة كارلوا كانيفا بالانتقام من أهل المَنْشِيَّة بالذات، فخرجت الكتائب الإيطالية واقتحمت البيوت وقتلت السكان واعتقلت الآلاف. اقتحمَ ساندرو مع فصيل من الجنود أحد البيوت، أطلق النار على امرأة حاولت الدفاع عن أطفالها، ليكتشف فيما بعد أنَّ المرأة لتي سقطت مضرَّجة بالدماء هي أمُّ “محبوبتهِ” بائعة الحليب. يقول ساندرو: «حدث كلُّ شيءٍ بسرعة، في الظلام الدامس، في الليلة الثانية من أحداث حيِّ المَنْشِيَّة وشارع الشطّ. كانت ليلة رهيبة، ستُمائة عربي، من بينهم مئة وعشرون امرأة وثمانون طفلاً دفعناهم إلى قاع السفينة. كان من بينهم فتاةٌ جميلة، اسمها حليمة، ارتكبتُ جريمةً فادحة في حقِّها، ولا أعرف ما حلَّ بها الآن».
سؤال الجدوى
لا أحد ممَّن ساقتهم الأقدار إلى هذا الجحيم، يعلم على وجه الدقة الجدوى من هذه الحرب. غالبية الجنود يظهرون كبيادق تحرِّكها آلة الإمبريالية. نفسياتهم المحطَّمة. ورغبتهم المكبوتة في الخلاص، أمام ضراوة المقاومة الشعبية التي واجهوها، وحالة الرعب والقتال في أرض لا يعرفونها؛ هذا ما يجعلُ مفتتحَ الرواية حاسماً لوضع القارئ في قلب مساراتها منذ الأسطر الأولى: «عند خطِّ النار، حيث يستعر جحيم المعركة في عين زَارَة جنوب طرابلُس على مدى أسبوعٍ كامل من القذائف ورائحة البارود والصقيع والمطر المضجِر، يخبِّئ ساندرو كومباريتي أُمنيَّته السرِّيَّة بأن تحدُث معجزة، تقذف به بعيداً عن هذا المكان الموحِل[…] أيقن، وهو على لوحِ نقَّالة الإسعاف وينظر إلى بندقيَّته الملقاة بعيداً على حافَّة الخندق المملوء بالماء، أنَّها لن تلامس هذه الكَتِف المثقوبة مرَّة أخرى […]سيذكر فقط كم هو مَدين لتلك الرصاصة التي جاءت في مكانها المناسب، لتضع اسمه في قائمة الانفكاك من الجيش الإيطالي، والعودة إلى حياته السابقة».
هكذا إذن، تبدأ الرواية، بشكلٍ ما، من النهاية. في لعبةٍ سردية تذهب وتجيء بالزمن والذاكرة والمشاعر الدفينة، لتنقلَ الوقائع التي تمتزجُ بخيالٍ انتقائي يقاربُ أدبياً ما حدث بالفعل. وربَّما لا حقيقة ثابتة وراسخة هنا إلَّا الحقيقة الأدبية. ففي الخامس من مارس/ آذار 1912 تصيبُ طلقةٌ نارية كتف ساندرو. يحصل على تقرير انفكاك من الجيش الإيطالي، ويُنقَل إلى مستشفى نابولي. لتبدأ رحلة البحث عن نسختهِ الأولى كإنسانٍ بضمير حيّ. يتعرَّف على الصحفي المستقل باولو فاليرا. ومن ثمَّ يقودهُ تأنيبُ الضمير إلى البحث عن فتاته بائعة الحليب المعتقلة وشقيقها الصغير في جزر بعيدة في مستعمرات العقاب الإيطالية، ليكشف قصَّتها للرأي العام الإيطالي، بمساعدة متنفِّذين في الحزب الاشتراكي المناهضِ للحرب. وهي قصَّة مدنيِّين عزَّل عاشوا حالات البؤس والمرض والجوع وماتوا قهراً تحت التعذيب. تكشف الرواية من خلالِ رحلة البحث تلك الجانبَ المظلم من التاريخ. حيث قضت في تلك السجون فتيات ونساء حوامل وأمَّهات وأطفال، دون تهم أو محاكمات، وفي ظلِّ انتهاكات تصنَّف كجرائم ضدَّ الإنسانية.
في لقائه مع باولو يقدِّم ساندرو نفسه على النحو التالي: لا أدَّعي الإنسانية، أنا جندي ولا أعرف كيف أصنِّف نفسي، أظنُّني أعاني الانفصام، ليس هذا موضوعنا، كنتُ أتمنَّى أن أكرِّس حياتي لقضية ما، مثلكَ، لكن الحرب وضعتني في زاوية سيِّئة».
في الوقتِ ذاتهِ – وهذه إحدى جماليات الرواية في سرد التناقضات – صعقت آذانهم أنغام فرقة موسيقية تعزف لحناً جنائزياً، يرافقها رجال ونساء بملابس الحِداد، تتقدَّمهم عربة تحمل تابوتاً مغلقاً بقماش أسود، كُتب على جانبيْه: «جندي شجاع مات في طرابلُس دفاعاً عن الحضارة والإنسانية». لعلَّ المفارقة التي لم ينتبه إليها أهل الجندي أنَّ ابنهم حين سقطَ في ساحة المعركة، لم يبكِ عليه رفاقه، ليس لأنَّ دموعهم لم تذرف، ولكن بسبب القوانين التي تمنعهم من البكاء. «القوانين التي تخنُق الحزن، وتعاقبُ الجندي الباكي بالتضحية به في أتونِ المخاطر». في حين أنَّ «البكاء هو الشيء الوحيد الإنساني الذي يعصمه من أن يصبح مسخاً».
مرآة
لا تحتاجُ رواية “صندوق الرمل” لأكثر من 200 صفحة لتنقلَ ويلات الحرب من وجهة نظر الطرفين. إذ تضعُ عائشة إبراهيم قارئ روايتها في عاصفة من الأحداث والمشاهد والمفارقات التاريخية التي كُتبت بلغةٍ مكثَّفة وجريئة، تسردها بخلفيةٍ تمزجُ بين المشاعر الداخلية لأبطالها والأجواء المشحونة التي عاشوها، وما يحيطُ بهم من طبيعة جغرافية للأمكنة، في انتقالاتهم بين ضفتي البحر الأبيض المتوسِّط. والكاتبة إذ تفعل ذلك بتأمُّل عميق ووفاء خالص للوقائع، لا تقحمُ رأيها الشخصي في مسار الأحداث ولا تفرضُ وجهة نظرها، مؤمنةً بقدرة القارئ على الحكم، وبأنَّ الرواية كفيلة بقول الحقيقة كما هي، دون تحيُّز ولا مبالغة. حتَّى وإن كُتِبت بصوت الراوي العليم.
لا شكَّ أنَّ الحربَ قاسية وقذرة، وتلطِّخ أيدي البشر بدماء لا تزول، ولا تسقطُ بالتقادم. وهي في جانبها الآخر الخفي سببٌ للتحوُّلات الإنسانية، مرآة عاكسة وإن كانت متصدِّعة لحقيقة البشر حين يتجرَّدون من الأخلاق في لحظة خوف أو رعب أو انتقام أو حتَّى لامبالاة وعدم اكتراث. ولكن من بين آلاف الذينَ يقعون في مستنقع الدم، هناك دائماً من يحاول النجاة بضميره الإنساني.
مسارات
عائشة إبراهيم روائية ليبيَّة، مواليد مدينة بني وليد، ليبيا. صدرت لها الروايات التالية: “قصيل” 2016. “حرب الغزالة” 2019 والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر للرواية العربية، العام 2020. كما صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان “العالم ينتهي في طرابلس”، 2020.
حازت جائزة الدولة في ليبيا، عن نص مسرحية “قرية الزمرد” العام 1991، إضافة إلى العديد من الأوسمة أهمها وسام الإبداع لوزارة الثقافة الليبية، عام 2020.