قراءات

ميلو…

رواية (خبز على طاولة الخال ميلا) للقاص والكاتب الصحفي الليبي "محمد النعاس"
رواية (خبز على طاولة الخال ميلا) للقاص والكاتب الصحفي الليبي “محمد النعاس”

“عيلة وخالها ميلاد” كنت أتردد كثيراً في نشر هذه المراجعة النقدية إلاً أنه على الأدباء الدفاع عن الأدب وحرية الإبداع كونه مرماهم وهم حُراسه.

مجدداً “ميلو” الرقيق والفنان الباذخ بالمشاعر والخجل حتي تراه شديد الاحمرار تداعبه الرهافة ويتمتع بخصال بناتية ولون وردي على خديه، هذه شخصية ميلاد “خي خواته” الذي يعيش برفقة أربعة فتيات في قرية مغلقة تحكمها هيمنة الأفكار الواحدة “ميلو البلبول ” لم تتمكن الخشونة من التمدد لتشمل رجولته فأتي على الحياة بطابع من الميوعة  حاولت العسكرية ضبطه لكنها فشلت وحاولت الحياة ضبطه فأربكته اكثر واكثر تأتي شخصية ميلاد كغيرها من الشخصيات التي تعاني مشاكل في هوية الجندرة أي أن كل ما يستهوي ميلاد يقع في خانة اهتمامات النساء بداية من الطبخ نهاية بغسل الملابس وتنظيف المكان وترتيب الحياة  الأسرية ذكرتني شخصية ميلاد برجل شاء القدر أن  أجده بأحدي الأماكن التي عملتُ فيها أذكر جيداً كيف تعلثم وهو يقول بصوت عالي “كنه بختي من دون الصبايا ” فيما ضحكت الموظفات واعتلاني التعجب تغامز كل الموظفون بشيء من التأفف وتناثروا من أمامنا فيما  غطى اللون الأحمر وجه زميلنا في العمل حتي صار  متوحداً بالألوان ملابسه البنفسجية، ميلاد ضعيف ومتجرد من القوة لكنه بسيط ونابع بالعاطفة يحب زينب رغم معرفته أنه فشل في كل امتحانات الرجولة، فهو غير مسؤول ولا يجلب المال ولا يجيد الحماية ولا يتمكن من رفع صوته ويعاني الكثير من النقص وفقدان الثقة في الذات ناهيك عن معرفته المسبقة بحقيقته الشاذة بين الرجال فهو لا يتكلم مثلهم ولا يرتدي مثلهم ولا ينجب الأطفال مثلهم، الرواية لم تصرح بمثلية شخصية ميلاد نهائياً بل أصرت أنه رجل يميل ميول تام للنساء  لكنه رجل أفتقد هويته الجندرية أو بمعني أصح ضاعت هويته بين فطرته ومعتقداته الفردية  وما جُبل عليه وما وجد المجتمع يتوارثه حول ماهية هوية الرجال لذلك نجد خط الرواية حيث أخذ ميلاد دفة الحديث ومايكروفون الراوي متعلثم ومصاب بالخجل ويشعر بالضيق والتوتر طوال الوقت ولربما هذه نقطة كبيرة أثارت إعجابي في قدرة الكاتب محمد النعاس على إظهار سمات شخصية ميلاد من خلال الكتابة، حيث يلاحظ المرء تخبط الرواية أحياناً وتلعثمها في محاولة تعريف ميلاد بنفسه، سردية الرواية لها رؤية بعيدة الأفق فتجدها تنتقد الحاكم بعين مواطن بسيط كميلاد لا يفقه إلا صناعة الخبز وأيضا تلذع العقل الجمعي في تعاظم مفهوم السرقة والسطو على ممتلكات الأخرين لهذه الرواية قدرة على المناصفة، مناصفة الرجل ومناصفة المرأة ومناصفة المجتمع المتمثل في أفراد الكوشة من العمال والعائلة النقطة الأخرى التي تحسب للكاتب قدرته على تكديس رسائل عديدة في النص من ضمنها مفهوم العنصرية أتجاه العمالة وتفاعل العمالة مع بعضهم البعض، كنت اتمني أن تظهر شخصية أم ميلاد بمساحة اكبر في الرواية حتي نرى انعكاس تربيتها لميلاد بالقدر ذاته الذي رأينا فيه سطوة أخواته وخبث شخصية صالحة تحديداً، وكان عتبي كبير لتحجيم دور زينب الضحية الأكثر وجعاً في الرواية، الفتاة التي تلاحق أحلامها فأسقطتها الحياة في بئر الجندرة هي الأخرى لنراها تنسلخ عن أنوثتها مستقبلةً رجولة خشنة تنغمس فيها لتحارب حياة لا ترى فيها وجهها بشكل جيد إلا أن اختلاف شخصية زينب عن ميلاد أن ميلاد تناثر داخل أفكار المجتمع عنه بينما زينب ترى أنها الأفضل من المجتمع وترى أن ميوعة ميلاد وفرت لها شيء من الانفتاح والتمدد نحو أحلامها، وهذه كانت نقطة أثارت إعجابي وتعجبي كيف استطاع النعاس رسم الشخصية بكل هذه الدقة في كتابة التفاصيل، لنأتي لمشاهد الكوشة والتعامل مع الخبز والعجين كلها كانت مدروسة ببراعة كأن هذا الكاتب تلقي دروساً في صناعة الخبز  كوني لم اكف عن إعجابي بمشهد تناثر الدقيق وسط انعكاس الشمس وكيف وصف بدقة بديعة حد قدرتك على تخيل المشهد بشكل تام،

شخصية العبسي، اكثر الشخصيات أثارت إعجابي فهي تُمثل العقل الجمعي ومفهوم الرؤية الواحدة التي على ضوءها يتم سن قوانين المجتمع وعاداته وتقاليده وحدوده وخطوطه الحمراء  ومفاهيمه العامة  ومن هنا يتم تجريد ميلاد من رجولته كونها لا تخضع لقوانين الرجولة المتعارف عليها في القرية من السيطرة والتحكم وضرب النساء والتعامل معهن بإجحاف وعدم إعطاءهن الحقوق وخيانتهن بدم بارد بلا أي رادع توضح لك الرواية أن ميلاد لم يكن رجلاً صالحاً كان صورة سلبية عن كل شيء لكنه يحاول إيجاد نفسه ولو بطريقة ما حتي أنه حاول الانتحار وشرب الخمر والزنا ليشعر برجولته  التي يُريدُها  منه المجتمع لكنه لم يشعر بها مطلقاً ولم يشعر بالراحة إلا وهو يمارس مهنته في إعداد الخبر والمأكولات وتنظيف البيت والحديث عن اهتمامات  النساء

تصور الرواية التجربة الفردية للإنسان أمام نفسه وتجربته أمام المجتمع فتراه يحاول أن يكون تارة ما هو عليه وأوقات كثيرة ما يردُه المجتمع، نهاية الرواية صادمة وغير متوقعة كون ميلاد تحول لمجرم قتل زوجته ليثبت لنفسه أنه رجل وقادر على فعل أفعال الرجال كالضرب والزنا متخذ من مفهوم الراجل “ما يعيبه إلا جيبه” حجاب ليتستر عليه مشاهد الرواية حقيقية واكاد أجزم أن محمد كتب هذه الرواية نتيجة لأنه قابل ميلاد ما في الحياة وحدثه عن قصته وواقعه.

لنعود لمشاهد السرد، كانت بعض المشاهد مكتظة بالحديث كنت أود الا تمتط بقدر أن تتوسع شخوص في الرواية تمنيت لو رأيت الجزء الطيب من شخصية العبسي.

وتناقضه داخل بيته وبين نساءه هذه النقطة كانت ستعطي مفهوماً مختلفاً عن اللاوعي في العقل الجمعي الذي اسقط عليه الكاتب شخصية العبسي.

لنعود للاستهجان العظيم الذي حدث، في نظري ليس له واقع من الإعراب فإذا تحدثنا عن المشاهد الحميمية التي توالت في الرواية فباعتباري قارئة للأدب هنالك بين طيات الكتب لكتاب عظماء وأئمة وفقهاء ما هو اعظم من هذه المشاهد واكثر حرجاً، بالنسبة للألفاظ النابئة فمثلها متواجدة تماما في رواية ربعي المدهون التي فازت بالبوكر منذ سنوات هي أيضاً لكن هذه الرواية لم تجد استهجان عظيم كونها تلخص استيطان الصهاينة  وفقدان الهوية الفلسطينية، حُملتْ الرواية مالا تحمله حيث أنها وصفت  بمعني الإهانة للذات الإلهية إلا أنها في معني الاختلاس الذي ورد في النص كان الكاتب يضع معاني البلاغة اللغوية من التشبيه والمجاز لمفهوم خلق حواء من ضلع أدم لا أكثر لا أقل في مفهومي كقارئة  تنتقد من مفهوم فلسفة الأدب والفن وقواعد النقد الأدبي الإبداعي، السرد كان رائعاً ومجازياً ومجارياً لتطور الآدب الحديث المعاصر الذي صار عليه رواد الأدب الحالي وعلى رأس القائمة الكاتب الأمريكي جورج مارتن أي أن الأدب الآن لا يحاول تجميل الواقع بل يعطيه لك مثل ما هو وهي حركة إبداعية جديدة ذات أمواج متواصلة التأثير  يتأثر بها الكتاب على مر الزمان من قارة لقارة ومن دولة لدولة، الرواية بها مواطن فضفاضة ومتكررة وهذا ما جعلني أقول لو توسعت الأدوار وتم اختصار المشاهد المتكرر كانت أعطت الرواية رؤية أكثر اتساعاً وأقل حدية،

ليبيا عالم من القصص الشيقة والقضايا الشائكة التي تمتلك مقومات بناء رواية ذات أصداء عالمية وتستحق التواجد والاحتفاء في المحافل الدولية ولعل وقوع الضوء على رواية ليبية بهذه الطريقة قادر على فتح نفق من الأمل لكتاب شباب بهم من الحماس والجراءة والعنفوان ما يُكسر جدار الخجل والخوف ويمكنهم من فتح ستار الواقع وجعل الأنسان الليبي يري حقيقة مسرحه الواقعي بوضوح .

“في النهاية الحقيقة بشعة وكل من يقول الحقيقة يراه الأخرين مخيفاً”


مدونة (رحالة عبر الكتب)، للكاتبة آية الوشيش.

مقالات ذات علاقة

بين التغريبة والسيرة ونفض الفوضى

رامز رمضان النويصري

سعيد المحروق.. الرجل الذي خرج وحيداً يحمل سيفه على عاتقه، ليحارب رياح القبلي

المشرف العام

الهروب من عرس الدم والعودة المحزنة

سالم العوكلي

اترك تعليق