النقد

العقيد

رواية العقيد للكاتبة الليبية كوثر الجهمي
رواية العقيد للكاتبة الليبية كوثر الجهمي

سنة 2019 نشرت كوثر الجهمي روايتها الأولى عايدون، بدتْ كمن قررت منذ البداية كتابة حكايات لا تجد طريقها، إلا نادراً، إلى الأدب الليبي. غزالة وحسناء وعلي المرابط وسط تعقيد اجتماعي نشأ بسبب حدث مر عليه زمن، ولا أحد له دخل في وقوعه…

حدث خلف مشاعر قوية، وأعاد تشكيل مسار العائلة وبدأتْ تواجه واقعاً جديداً. كل ذلك كُتب بلغة عالية الحساسية مع انضباط كأنها تكتب لعمود صحفي.

طوال قراءتي لرواية العقيد، لم يغب عن بالي أدب هشام مطر. العودة بدتْ لعنة لجيلين على الأقل من بلادنا، سواء العودة من خارج المكان أو الزمان ثم البحث خلال طبقات من الأسرار عما تم فقدانه. في العقيد كما في أدب هشام مطر تفاصيل “العودة والبحث”.

باستثناء سنوات قليلة لم تنج بلادنا من الحروب، فهي ساهمتْ في إعادة تشكيلنا وخلقت لنا جانباً مظلماً، نقضي أعمارنا لفهم الأسرار الناتجة عنه، ربما لن نفعل أبداُ. نقرأ في “العقيد” استجوابات آدم المرابط وهو ينبش عميقاً في ذاكرة كل شخص يلتقيه، لفهم ماضٍ لم يعشه، فهو مثلنا يعاني نقصاً مفجعاً في تاريخه الشخصي، لن يتم سده إلا بالروايات. خيوط متشابكة من الأحداث في الحكايات المتأرجحة بين التذكر والنسيان…

الكتابة عن أي تفصيل ينسج تأريخاً، سواء اعتمد على أحداث حقيقية أم على مشاعر نتجتْ عن أحداث حقيقة لم تدون بعد. قصصنا إعادة ترميم مضادة لتأثيرات الحروب. تقع العقيد في 208 ص وتنقسم لثمانية فصول: (النهاية–ضد مجهول–أنبياء بلا ثورة–الحب–الحرب–السجن– ثورة بلا أنبياء–البداية) كل عنوان يُمكن أن يكون معبراً عن الرواية ككل، لكن بطريقة ما “العقيد” هي التعبير الأمثل لكل هذه العناوين…

فصول تزخر بالوصف الماتع والتحليلات الثاقبة وهناك آراء سياسية تلقيها شخصيات واثقة من نفسها وقصصها حتى إننا نتخيل سير المعارك في الصحاري في شهادة بركة وسقوط المعسكرات وعرض مشاعر الخوف والحب والتيه وحكايات في رسائل أقرب لمونولوجات طويلة، مسجلة أو ملخصة تظهر حساسية آدم المرابط وإدراكه لوضعه أمام نفسيات منهارة وقلقة طوال الوقت، ربما الحديث كان هو العلاج الوحيد.

فبعد عشر سنوات على اغتيال والده، يأخذ آدم علي المرابط قراره بالعودة إلى ليبيا لاستكمال كتابه عن والده وضم شهادات أكثر عنه، إلى جوار ما عرفه وسمعه من أمه وجده وبركة “التباوي من الكفرة” رفيق والده في السلاح والسجن والمنفى. الجد وبركة عارضا قرار العودة، التي هي فعل رمزي لاستكمال رحلة الأب…

آدم درس القانون لكنه منذ البداية امتلك رغبة في أن يكون كاتباً على أن ينقاد وراء مهنة ثابتة أو يستعد للتغيير القادم لا محالة في ليبيا، بحسب رأي جده، البلاد ستكون مستعدة لاستقبال أمثاله ومنحه مناصب عليا حين يأتي الوقت…

الروائية والقاصة "كوثر الجهمي"
الكاتبة كوثر الجهمي (الصورة: عن الكاتبة)

بدا آدم مستغرباً من هذه الثقة المفرطة، فاستعجل العودة، لدى أول فرصة وجدها، كان بحاجة لسماع شيء مختلف عن والده، ما بين تونس وليبيا قابل أفراد عائلته الأخرى: زوجة أبيه الأولى وأخته وابن اعمه وأعمامه وبنت عمه حسناء التي تعتقد أنه يستغل قصص عائلتها ليكتب كتابه، بالرغم تشككها غير المفهوم من نوايا علي بسبب جمعه الشهادات لكتابه، لكن علي ينجذب إليها، حتى أخر صفحات الكتاب سنجد أنفسنا أمام قصة مشوقة، كم هائل من المشاعر يعود بها آدم من رحلته. الرواية تبدأ برغبة الأب الملحة في العودة، وتنتهي بتعافي الابن من نتيجة تلك الرغبة.

فالمشاعر هي كل ما نمتلك حيال تأثيرات الحروب، وهي تشبه حرباً أخرى مستمرة بلا نهاية، الرواية تحتشد بها: الألفة المفاجئة من احتضان سريع في المطار. القلق والتوجس بسبب عودة شخص من عدم. الغيرة من الضرة البعيدة، الشعور بالغضب من شخص ميت. التعلق الشديد من أم بابنها وتأثير هذا التعلق على الأب والأخ والكنة. الامتنان والوفاء والصداقة. الرواية قاموس لمشاعر شخص يعيد ترتيب نفسه مع كل محيطه. وهو تصرف مختلف عن ما نراه في رواية مثل التابوت لعبدالله الغزال، ففي التابوت منذ الصفحات الأولى نحن أمام مشاعر شخص يُقتاد إلى الحرب، وعلى مدى عشرات الصفحات نتابعه يُلقي نظرة أخيرة على كل شيء. هذا يُشبه مراقبة شخص يودع كل شيء في محيطه، لا بل يودع حتى ذكرياته بينما يتدلى حبل مشنقته أمام ناظريه. مشاهد مأسوية ومشحونة بالمشاعر، نرى بشاعة الحرب حتى قبل سماع دوي أي اطلاقة…

كل هذا يتم بمونولوجات طويلة ومليئة بقصص تحرض انسانيتنا الغائبة. محاولة لاستيعاب ما يحدث له. الغاية منها تبدو مختلفة عند كوثر الجهمي، مونولوجات آدم في رسائله ليست إلا تبريرات للوصول إلى الآخر، فالشخصيات مشحونة بالمشاعر وتخشى التحدث، لكنها ترغب في الحديث. الحذر من إحراجهم هو سبيل آدم المرابط لكسب ثقتهم، مهمة تجعله يبدو غريباً بينهم، لكن هذا هو بضبط ما عليه الوضع لدى زيارة أقارب لك من مدينة أخرى، تلك المسافة بينك وبينهم، هي كل ما حافظ عليه آدم.

هناك جانب أناني جعلني أقرب إلى الرواية، فالرغبة في قراءتها جاءتني بعد وقت من العزوف، فرأيت بين صفحاتها أو لنقل بين سطورها، عالماً من ردات فعل وتوجس ووحدة ومحاولات للعثور على مسار واضح إلى عالم أرحب، سواء بالأحاديث الطويلة أو بالكتابة عن تلك الأحاديث…

رواية تلتزم خطاً واقعياً وتختبر حقيقة معرفتنا. شيء نود حقاً اختباره، لنقيس معرفة الآخرين المشابهة لمعرفتنا لنقول: “حسناً نحن كلنا نتشابه” نفس القصص والشائعات وهذا مريح للغاية، بلادنا مثل أدبنا، تقف على أرضية واحدة.

مقالات ذات علاقة

يوميات المنفى

ناصر سالم المقرحي

سأشتري كذبة

مريم سلامة

تبقى الحياة والمعرفة

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق