سيرة

عاشق الثقافة

أربعون شيخ المكتبيين الليبيين الحاج رجب الوحيشي

أملاها: رجب عبدالسلام الوحيشي | كتبها: محمد خليفة عبده.
المصدر: مكتبة الكون (الأستاذ: فتحي بن عيسى).

عمر رجب الوحيشي

انفصل والدي عن والدتي وأنا في السنة الخامسة من عمري، فعشت مشتتا بين الاثنين، ضمتني جدتي إلى حضنها وتعهدني خالي مسعود برعايته. لم أقطع شوطاً كبيرا في الدراسة وغادرت مقاعدها مبكراً.

دخلت في صراع من الحياة منذ نعومة أظافري، فامتهنت بيع الصحف والمجلات العربية والأجنبية سنة 1956م، كبائع متجول في أهم شوارع المدينة ومحالها ومقاهيها، أذكر منها أورورا، زرياب، كربول بومبانيدا.

معظم تلك المحال كان يملكها إيطاليون ويونانيون ويهود وبعض الليبيين من الأسر الميسورة، تعرضنا لكثير من المعاملة السيئة من بعض أصحاب المحال وخصوصاً أولادهم بطردنا ومنعنا من الدخول للمقاهي والمطاعم التي تخصهم.

أيام الآحاد والأعياد كانت أيام الذروة، فكنا ننتظر النصارى وخروجهم من الكاتدرائية التي في الميدان الذي يسمى باسمها، فنوفق في بيع نسخاً كثيرة ويكون الرزق وافراً.

ظل الحال على ما هو عليه لفترة زادت عن خمس سنوات، أقلعت عندها عن الجولان في الشوارع واستقر الحال بي على درجات سلم البريد المركزي في نفس الميدان، كان معظم زبائني من المفكرين والصحافيين؛ عبدالله القويري، كامل عراب، عبده الطرابلسي، أحمد زارم آخر المطربشين في ليبيا، امين مازن، عبدالحميد بن بركة، الشاعر احمد رفيق المهدوي بقبعته الشهيرة (الكلباك)، وغيرهم من المفكرين والأدباء والصحافيين.

ارتفعت كمية مبيعاتي من الصحف والمجلات وأصبح لدي زيائن دائمين من رواد المقاهي وكذلك موظفي المصالح الحكومية في ذات الميدان، ولكن الحلو لا يدوم ولا يكمل دورته كما يقولون، طردني بعض الحرس البلدي من المكان الذي كنت اجلس فيه ومنعت من بيع الصحف والمجلات، استغرب بعض الصحافيين غيابي عن المشهد اليومي، فأفصحت لهم عن الذي حدث بيني وبين الحرس البلدي، فاستلهم أحد الصحافيين مقطعا من أغنية محمد عبدالوهاب (وجرد حسامك من غمده.. فأنى له بعد أن يغمد). جردت الصحافة سلاحها ودبجت مقالا بالخط العريض هاجمت فيه الحرس البلدي، جاء في بعضها: (الحرس البلدي يعادي الثقافة ويطرد بائع صحف لا لشيء لآنهم لم يعجب احد أفراده أو لنسيانه إلقاء تحية الصباح عليه).

وصلت الشكوى على أعلى المستويات فقامت الدنيا ولم تقعد، وشرع مسؤولو الحرس البلدي يبحثون عتي وفي قرارة أنفسهم يقولون: (يا سويدي غير ردها في جواها). ورجعت معززاً مكرماً وأغمدت الصحافة أسلحتها.

وأصبح ذلك المكان، وخصوصا الركابة الرخامية (الدكة) التي على يمين الباب الرئيسي للبريد المركزي (صالوناً) او لنقل (ركناً) لكل عشاق الثقافة والرياضة والسياسة. يومان للرياضة وربما أكثر قبل المباراة وبعدها للتحليل الخططي والتحكيمي والتنشيطي من قبل الجماهير المساندة. كان أشهر الحكام وأقدمهم مصطفى الزنتوتي، سالم عدال، خيري سعد، الطاهر الزقلوط، محمد محمود. أما الصحافيون لقسم الرياضة؛ عبدالمجيد أبوشويشة، صالح دراويل، جمعة نصر، عبدالرحمن أبو رقيبة، منصور صبره، أبوعجيلة النشواني. أما الرياضيون؛ أحمد رجب الأحول، محمد أبوغالية، رشيد ربانة، مصطفى التومي، فتحي مسعود، البهلول إسماعيل، البدري مفتاح، سعد السرتاوي، وغيرهم.

الحاج رجب الوحيشي صاحب مكتبة المعارف
الحاج رجب الوحيشي صاحب مكتبة المعارف

أما يوم الأدب والفكر؛ محمد أحمد وريث، عبداللطيف بوكر، علي مصطفى المصراتي، محمد الطشاني، محمد بشير الفرجاني، مهدي قاجيجي، محمد فخرالدين صلاح، فاضل المسعودي، علي التريكي.

أما يوم الفن فكان يوم الأحد؛ الأستاذ محمد حمدي (بربري ليبيا) كما كنا نطلق عليه عودا على الممثل المصري علي الكسار، بربري مصر، الذي كان يقلده فيتحفنا بقفشاته وتعليقاته وحركاته المسرحية، فيدخل البهجة والسرور في نفوس الحاضرين، كان الأستاذ حمدي يأخذ نسخة من صحيفة الجورنالي دي تريبولي، فقد كانت ثقافته إيطالية وفي نفس الوقت كان يقوم بترجمة الوثائق الإيطالية إلى العربية، أنهى حياته في الجنوب رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته. أما علي القبلاوي الموظف بالبريد والمهووس بالممثل شكري سرحان، خصوصاً دوره في اللص والكلاب ومشهده الأخير مع شادية قبل أن تقتله الشرطة، كان علي يؤديه بصورة فيها من الإتقان مالا يصدق. بعدها التحق بالمعهد وصار ممثلا رائعاً، توفى في عز شبابه، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

وبلد الطيوب، شاعر الشباب، الأستاذ علي صدقي عبدالقادر، ولقاؤه مع محمود كريم الموظف بالبريد ونوشي خليل وبشير احمد ومسعود القبلاوي وجميعهم كانوا موظفين في البريد في تلك الأيام، وغيرهم الكثير.

كان الفراغ ما بين الباب وحتى الحائد الملاصق للدكة واسميناه (باللوج) او المقصورة، كان للجمهور الصامتين والمتابعين للحوارات دون الدخول في المناقشة، إما لصغر سنهم أو حبهم للتزود بالمعرفة.

عشنا مناظرات فكرية وفلسفية اشتط فيها البعض وكانت بين مفكرين من صحيفتي الرائد والحقيقة، وظلت تلك المناظرات لفترة طويلة، شارك البعض ممن كانوا روادا لصالون الدكة كل برؤيته الخاصة واتجاهاته ومشاربه.

عشنا تأبين رئيس الولايات المتحدة جون كيندي بالكاتدرائية، حضرها بعض المسؤولين سنة 1963م، وكذلك إطلالة زعماء الجزائر الخمسة من على إحدى شرفات بلدية طرابلس، التي تطل على الميدان، ومن يومها سمي الميدان بميدان الجزائر، سنة 1962م. وكذلك شهدت تلك الشرفات مفاوضات الإجلاء للقوات البريطانية والأمريكية.

مشيناها خطى كتبت علينا.. ومن كتبت عليه خطى مشاها.

بعد طرد بقايا الفاشست سنة 1970م، تم توزيع شقق ومحال على المواطنين في أشهر شوارع الحاضرة، كان لي نصيب منها، فأسست مكتبة بيع الصحف والمجلات والكتب، اختار الأستاذ محمد الفرجاني اسم مكتبة (الثقافة)، كان معظم روادها من زبدة المجتمع الأدبي والثقافي منهم على سبيل المثال؛ أ.د محمد أحمد وريث، على حمزة، عبدالله القويري، كامل المقهور وابنته الأستاذة عزة، فوزي البشتي، إسماعيل البوعيشي، علي مسطفى المصراتي، فتحي بن عيسى، فاطمة غندور، حواء القمودي، سالمة الشعاب، العجيلي ، أحمد الحريري، رضوان أبوشويشة، محمد طرنيش، الصديق الوداني، محمد المفتي، فيصل فخري، سالم الغناي، محمد شبيعان، صلاح الهوني. أما الفنانين؛ يوسف الغرياني، عياد الزليطني، إسماعيل العجيلي، عبدالمجيد حقيق. ومن السياسة؛ عمر المنتصر، محمد الخوجة، الطاهر باكير، طه الشريف بن عامر، محمد أحمد الشريف، وغيرهم.

ومن نافلة القول الكثير والمثير مما لسنا في حاجة لذكره، فالكل يعلمه، ولكن هناك ذكريات شدتني وشدت الكثير من المرتادين على المكتبة التي تغير اسمها لمكتبة (المعارف) بعد أن ظلت تابعة لفترة غير قصيرة من الزمن لدار النشر والتوزيع وأصبحنا نحن أصحابها موظفين فيها، وكانت ستمنح لغيري لولا تدخلات بعض الصحافيين الخيرين والذين حافظوا على صداقاتهم ووفائهم لي.

كانت التنوعات كثير، منها التنوع الفكري والسياسي فمجمعتهما كانت واسعة جدا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من وجوديين وقوميين وبعثيين وإخوان مسلمين، زخرت المكتبة أيامها وقبل الثورة الثقافية سنة 1973 بالعديد من الكتب لسارتر وسيمون دي بوفوار، تشارلس ديكنز، وعبدالستار طويله، عودة والنيهوم، سيد قطب، التابعي، هيكل وغيرهم من الكتاب. أما السياسيين فكانوا من كل الحقب التاريخي تواجهو وتصافحوا وغن حدث بعض الملاسنات التي لم تفقد للود قضية.

اما التنوع الثقافي، فقد ضمت طرابلس ما كان سائداً في ذلك الوقت عدة ثقافات لحضارات متوسطية منها اليوناني والإيطالي والفرنسي والمالطي واليهودي والأرمني. اجتمعت فيها كل الديانات السماوية، غير أن الموروث الثقافي لخص كثيرا من التنوع، إما لترفع كونيالي وهذا ما عرف عن الإيطاليين أو صلف مضمر لم ينس البعض رغم مرور مئات السنين، وهذا كان واضحا وجليا عند اليهود. أما الاجتماعي فصهر في بوتقة واحدة جمعت فيها الجبلي والصحراوي والحضري والبدوي، تمازجت كلها وكان هدفها رفعة ونهضة البلاد.

الحاج رجب الوحيشي
الحاج رجب الوحيشي

كانت ترد علينا معظم الصحف والمجلات العربية وكذلك الأجنبية، فشكلت تلك الثقافات أذواقا وسلوكا رائعين ومعرفة متقدمة وإن أخذت بعض الأشرطة الأمريكية جانيا من التأثير غير المحمود في بعضه، فكانت ضمن الحروب الناعمة التي حاولت بلورة أفكار البعض كالبطل المتفوق في كل معاركه أيام الحروب الثانية والكورية والفيتنامية.

تزوجت سنة 1968، وتركت جزء من أعبائي لأخي المرحوم أبوعجيلة الشبلي ومن بعدها أبني خالي مسعود؛ ناجي وفتحي. وما إن اشتد ساعدا ولدي؛ خالد وأحمد حتى باشرا مهمة حبة المهنة ولا يزالا حتى الآن. ورغم ذلك لم أترك المكتبة ليوم واحد إلا لتأدية الحج او العمرة.

معظم أصدقائي من أيام درجات سلم البريد وحتى يومنا هذا رحلوا إلى الرفيق الأعلى رحمهم الله برحمته الواسعة، وأسكنهم جناته. ولم يبقى منهم إلا القليل الذين يداومون على المكتبة ألا واحد وأخصه بالذكر محمد خليفة عبده.

لقد شرفني البعض ومدحني البعض الأخر مسطرين على صفحاتهم: باشع الصحف في طرابلس يتحدث عدة لغات (منصور صبره) رحمه الله، ومنهم من شبهني بمدبولي صاحب أكبر مكتبة في القاهرة (كامل عراب) رحمه الله. وإن كنت أقول تواضعا أنا لم أرق إلى مستوى مدبولي رغم التشابه، فالفرصة التي أتيحت لم تتوفر لدي وأغبطه على ذلك فشهرته وصلت إلى أقصى العالميين العربي والإسلامي.

لا زلت أعطي وأعطي بعون الله تعالى، ولن أفارق هذه المهنة ما حييت، ولن أبدل نشاطي كمعظم الذين بدأت معهم ولم يعد أحد منهم يزاول المهنة. لقد منحني الأخ محمد خليفه عبده لقبا أعتز وأفخر به، فقد أسماني (عاشق الثقافة).

مقالات ذات علاقة

25 مايو ذكرى وفاة الأب المُؤسس لدولة ليبيا الحديثة

شكري السنكي

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (64)

حواء القمودي

قصة ديوان البغدادي (على جناح نورس)

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق