المقالة

القراءة

موسى محمد الفاخري

إنَّ القراءة بمثابة الغداء للروح، والماء الذي يروي العقل من ظمأه، وهي أيضًا المأوى السليم للمرء الذي يهاجر لينفر من الضوضاء، وأنّني كقارئ لا أشعر بالراحة ولا يكتمل يومي إلا بها، فما إن يمضي وقتي في غير القراءة حتى أشعر بالتعب وعدم الاستقرار، ويبقى ضميري يأنبني على ضياع وقتي دونها.

وإنّ القراءة شيء وجودي لا أقدر على العيش بدونها، وأنّني كقارئ أيضًا تأتي على فترة أنفر من القراءة كما يحدث لبعض القراء، ولكنّني في هذه النقطة ما ألبث إلا أن أعود إليها مسرعًا، كالأب الذي يعود مسرعًا شوقًا لأبنائه. ذلك لأنّني لا أتوقف عن القراءة قط، حتى وأن توقفت عن قراءة الكتب والروايات والقصص، فذلك لا يعني أنّني لا أقرأ. بل أقرأ، ربّما كتاب دراسي أو منشور كتابي طويل على مواقع التواصل الاجتماعي، ليس طمعًا في معرفة محتواه وإنّما للقراءة فقط، أنّني أقرأ أي شيءٍ يأتي أمامي قابل للقراءة، وأظنَّ أن ذلك هو السبب الذي جعلني لم أشعر يومًا بفقدان الشغف نحوها. وأنّني والله لا يوجد شيء أحبّ إلى قلبي أكثر منها.

وإنَّ القراءة ليست في ابتلاع الصحف ولا الركض المسرع من صفحة إلى أخرى، وليست هي بالشيء الذي يتفاخر به القرّاء فيما بينهم، كما أن ثقافة القراءة لا تجعل المرء يسخر من غيره على نوع المادة التي يقرؤها، فلو ينظر القارئ إلى أفضلية القراءة من نوع المادة المقروءة أو من النوع الأدبي الذي يقرؤه، فإنّني سأكون أفضل القرّاء لأنّي قارئ نهم للأدب الروسي، فهو أفضل نوعٍ من أنواع الأدب.

وإنَّ القراءة تربية خاصة وتنمية للعقول ونضج شخصي ومعرفي، فلو أن القارئ ما استفاد شيئًا من قراءته تلك، فالأفضل ألا يضيع وقته بين أغلفة الكتب. إنّها تعليم عالي ورفيع، تزيد من الوعي والإدراك للقارئ بالحياة، وأنّني والله قد استفدت كثيرًا من القراءة في مجال تخصصي النفسي؛ وهذا الفضل يرجع لحساب حياة دوستويفسكي الشبيهة بالجحيم، ذاك رجلٌ تكلّم عن كل شيء يتعلق بالإنسانية، بل وصل إلى أعمق شيء في قاعها الشعوري واللاشعوري. كل مرضٍ أو اضطرابٍ درسته في تخصصي وجدته في أعماله، غريق فيه أحد أبطاله، وإنّني حين أقرأ له لا أشعر بمعاناة أبطاله فقط، بل أشعر في كثير من الأحيان أنّه يحدثني على شيء داخلي يخصني جدًّا، وأنه كاتب يخلص أمورًا مهمة في حياتنا اليومية.

وأنّه أيضًا كان يسافر بخياله بعيدًا في الحياة الواقعية، لدرجة أنّه تصور أمورًا لم تكن موجودةً في عصره تعرضت للنقد من بعض النقّاد آنذاك. وأنّ تلك الأمور التي تحدث عنها صارت تقابلنا بشكلٍ يومي في عصرنا هذا، ومن تلك الأمور كقوله عن الإهانة: “ألا يشعر المرء بكثير من اللذة في بعض الأحيان حين يحس أنه مهان؟”. فلو نظرنا إلا هذا السؤال الذي طرحه لوجدناه يحدث كثيرًا هذه الأيام، فلو رأى بعض أولئك النقّاد من يتمتع بالإهانة في عصرنا لكان لهم رأي آخر فيما قاله دوستويفسكي. فإن كان كلامه عارٍ من الصحة لما صارت الدول المتقدمة تدرس أعماله في الجامعات. فلذلك السبب أحببت دوستويفسكي وجعلته في القمة منعزلاً عن غيره من الكتّاب وغير قابل للمقارنة بيهم.

كما أحببت أن أترك بعضًا من الاقتباسات التي نالت إعجابي من بعض أعماله:

“لم أستطع أن أذرف الدمع، ولكن روحي كانت تتمزق”

“ربّما أنّ الله أرسل لك هذه المحنة لتعود إلى الإيمان به”

“إنّ المرء يشرب حزنه ويسكر به”

” قد يكون في أعماق المرء ما لا يمكن نبشه بالثرثرة”

“أحبك نيابةً عن كلّ الذين رأوك ومضو”

“إنه يبكي في الليل، لقد سمعته بأذني، لكنه يحافظ على مظهر الصلابة والقسوة ولقد أفقده الضعف صوابه”

“إنني أرى كثيرًا من الناس، لكنني أظل وحيدًا”

“لا يبقى في الذاكرة سوى ما نريد نسيانه”

“هل تدرك يا سيدي الكريم، هل تدرك ما معنى ألا يكون للإنسان مكان يذهب إليه”

“لقد أمضيت حياتي كلها في الدفاع عن أشياء لن أحظى بها أبدًا، أجلس الآن وحيدًا أمشط شعر الخيبة وأغني لها”

“كان محطمًا تمامًا ويعاني معاناة بلغت من القسوة أنه أحس وكأن أحد يأكل قلبه بلا رحمة”

“لم أطلب يدًا تمسح دموع الفزع، ولم أُوقظ أحدًا ليعانقني كي أهدأ، علام يجب أن أكون ممنونًا، لقد عشت أسوأ اللحظات بمفردي”

“إنك مسرف في التهذيب لماذا لا تقول للحمار بكل صراحة إنه حمار”

“أنا أعرف أنني سيء في الحب لكنني أحببتك بكل ما أملك من سوء”

“لا أعرف ما هو الحب! لكن إذا كان الحب هو الرغبة برؤيتك باستمرار وعندما أراك لا أرى أحدًا في هذه الدنيا، وأريدك لي فقط. إذًا أعتقد جازمًا أني أحبك”

“كان مجيئك مجيء السلام لقلبي”

“إن الفقر ليس خطيئة، وإنما الخطيئة أن يكون المرء غنيًا فيهين الآخرين”

“لا تنفق في سبيلي كل هذا الذي تنفقه. أنا أعرف أنك تحبني كثيرًا، ولكنك لست غنيًا”..

وإن ما ذكر هو غيضٌ من فيض، ولم تكن الغاية في الحديث عن دوستويفسكي وإنما عن القراءة، فسأقول من وجهة نظري إنّ القراءة نصف الحياة، وأن قلبي منقسم إلى شطرين مثل بيتٍ من شعر؛ الشطر الأوّل أعيش به والشطر الآخر أقرأ به.

وإنّ القراءة رفيقة الروح والوقت، لم أتركها يومًا لذلك لم تتركني يومًا، حتى حين كنت وحيدًا في عزلتي، قد كنت أقرأ لأنّني أحبّ القراءة، والآن أقرأ حتى لا أشعر بالوحدة دونها.

ليبيا – بنغازي

مقالات ذات علاقة

رغيف الخبز بين الأسعار والجودة والأوزان

خالد الجربوعي

من كنوز مأثورنا الشعبي

إبراهيم حميدان

قضية

يوسف الشريف

اترك تعليق