دولةُ الدّبابير، دولةٌ كبيرة، من أعتى دُوَلِ الحَشَرات، معروفةٌ بسَطْوَتها وقوّتها، وبأسِ أفرادها، لها تاريخٌ طويل من الحروبِ، وأساليب عديدة في القتل، حتى ماتَ سيبويه كَمَدا منها، تهابُها كلّ الدولِ والمملكات الحَشَريّة الأخرى، والهيبةُ سرّ السّطوة. كانَ رئيسُها داهيةً جبّارا، يُعرفُ بـ[الدبّور الكينيّ]، يُدْمِعُ بيدٍ ويُرْضِي بالأخرى، إذا ابتسمَ فاعلمْ أنَّ مصرعَك بفمه، وإذا أغمضَ عينيه، فلا هو بخاشعٍ ولا آلِم؛ إنّما يحلمُ اشتهاءً بأكلك، وكانَ يُرى دائما مبتسماً خاشعا. وللدبّور الكينيّ حاكم الدّبابير، ابنةٌ لا تقلّ دهاءً وجمالا عن أبيها، هي جوهرتُه وسِرُّه، تدعى [الدبّورة جولز]، سمينةٌ خِلاف أقرانها، ولولا خصْرها لظننتها نحلة، كثيرةُ الحركة والطنين، ولا يتوقفُ طنّها حتى تنالَ مقصِدَها، لدغتها قاتلة لخصمها. دينُها المصلحة، وليسَ لها أصدقاء، وأقربُ ما عندها أعداؤها، والمجتمعاتُ الدبّوريّة، رغمَ كونها في الأصل ذكوريّة، إلا أنّها ارتقت، عندما قدّمت الأنثى. وللدبّور الكينيّ أسلوبُه في الحُكم، فهو لمْ يَكُنْ طاغيةً ظاهرا بأفعاله، غبيّا بأقواله، بل كانَ يُمارسُ على أتباعه، نوعا ذكيّا من الاسْتبداد، وهو الاسْتبدادُ الدبّوريّ، وهو مُمارسة الاستبداد في ثوب ديمقراطيّ، كانَ يفعلُ كلّ ما تفعلُه أنظمةُ الاسْتبداد الأخرى، من دُوَل الخنافِس إلى دُوَل البراغيث، ولكنْ برضى أصحابها، وخنوعِ الملأ فيها، مقتنعينَ راضين، ووحْدها دُوَلُ الفراشات لا اسْتبدادَ فيها، فالحاكمُ أنثى، والجمالُ دين.
ومُنذُ سنوات، ومُجتمعُ الدّبابير يُعاني أزمةً كبيرة في غذائه، ومصادر طاقته، فكانوا على أعتابِ مجاعةٍ تفتكُ بهم، وتنهي فصيلتهم، وتقوّض دولتهم، وكانَ على [الدبّور الكينيّ]، إيجادَ البديل في أقرب فرصة، قبلَ أن تعلمَ الدبابير بذلك، فأكاذيب الرّكود، وتلفيقات التنمية، لن تعيشَ طويلا، ومن كانَ أساسَ حُكمهِ الكذبُ، وتجارتَه التدليس، تكونُ الحقيقة خصمَه، التي يخاف منها، ومصرعُه على يديها. وكما هوَ معلوم، فالدّبابيرُ أمّةٌ غيرُ منتجة، تتكسّبُ بمنتوجِ غيرها، مادّة وخَدَما، فأكبرُ مصدرٍ لقوتهم وغذائهم، هو العسل، وهم لا يستطيعونَ إنتاجَه، ولو اجتمعتْ كلّ الدبابير على ذلك، وتلكَ كانت نقطةُ ضعفهم القاهرة، التي لم يَعِها أيٌّ من أعدائها وحُلفائها، فأعظمُ قوّة تمتلكها أمّة، هي جهل أعدائها بنقاط ضعفها، وأعظمُ بلاءٍ على أمّة، هي انكشاف نقاط ضعفها لأعدائها، والبلاءُ أعظمُ مرّتين، إنْ كانتْ هي من قدّمتها لهم. لم تعد الدبابير صابرةً على قلّة العمل، وندرةِ الغذاء، فنحولُها ظاهر، وضعفها يُسقطُ هيبتها الأسطوريّة، السلاحَ الأهمّ في وجه أعدائها. وبكاءُ أطفالها، ألماً وجوعا، يجعلُ منَ الدبابير وحوشاً على سادتها، فالعائلةُ أسمى ما عند الفرد.
كلّ ذلك، يعلمهُ [الدبّور الكينيّ] جيّدا، وليسَ خافيا عليه، يراقب تصاعُدَ حركاتِ الاستهجان، وأقوال الرفض، عن كثب، ويدرسها عن قرب، وتخوّفٍ، فقدْ صارَ كرسيّهُ مهدّدا، وهو لا يمكنهُ العيشُ بدونه، ومنِ استمدّ قيمته مِن شيء خارجٍ عنه، كانَ لا قيمةَ له، ليسَ كرسّيه فقط الذي صارَ مهدّدا، بل حياته أيضا، فعندما تخسرُ الدبابير أطفالها، تخسر كلّ شيء، ولا تهمّها شيء، فالأبُ يحقّق ذاته بابنه، وهو بدونه لا كمالَ له، فإنِ نالهُ ثمّ فقده، استوى عنده الموتُ والحياة، وفي مجتمع الدبابير العبرةُ للقوّة، والحاكمُ لا يتوّجُ إلا بقتلِ سابقه، وإلّم تسْتطعْ كسبَ قُوُتِكَ بقوّتك، صرتَ قوُتا لغيرك.
*******
وفي مكانٍ آخرَ، بعيدٍ عن أعشاش الدبابير، تقعُ مملكةٌ للنّحل، تدعى [إيبيل]، كانتْ لها ملكةٌ رشيدةٌ جميلة، شقراءُ لا رقطاء، لُعابُها عَسل، ومجّها شهد، وأريُها شفاء، جعلتْ للمملكةِ شأوا كبيرا ومستقبلا واعدا، ففي [إيبيل]، تُطاعُ الملكةُ لجمالها، ومحبّة فيها، فمن أطاعَ لحُبّ، كان حُرّا، ومن حكمَ لخوفٍ كان رِقّا. والنّحلُ في [إيبيل]، متفانٍ جدّا، لا يُهمّه سوى رخاءِ عيشه، وسلامةِ مَمْلكته، ورِضى مَلِكته، جادّا في عمله، متنزّها عن الأقذار، لا يأكلُ إلا مِن كسبه، عالماً بالهندسةِ في بناء خليّته، أسداسٌ لا شكلَ غيرها، فاهما لمنازل المطر، وتحرّكات المواسم. هذا التفاني، جعله جاهلا بطبيعةِ إدارة المملكة، غير عابيءٍ بها، ولا طامعٍ فيها، ومتى ما استدبرَ شعبٌ شؤونَ حكومته، جاهلا بمعارفِ سياسته، صارَ لقمةً سائغةً لدخلائه.
وكانَ لمملكة [إيبيل]، نوعٌ خاصّ من العَسَل، تنفردُ به، اسمه العسل الأسود، وبالرغم من سواد لونه، إلا أنّ مذاقَه أحلى، وطاقتَه أقوى، وشهدَهُ أصفى، يفوقُ العسل الصّعتري، طعْماً وفائدة، ولو كانَ نبتُ صعتره من الجبل الأخضر، وكانت المملكةُ تمتلك مخزونا كبيرا منه، يكفيها لعقودٍ طويلة جدّا، جعلها محلَّ أطماعِ جيرانها، ودسائسِ أعدائها، ومصدرِ لعنةٍ لأفرادها. وبينَ مملكة [إيبيل] ودولة الدبابير، حروبٌ قديمة، وصراعاتٌ لا يُذكرُ أوّلها، فالدّبابير بطَبْعها، وتاريحها، وسلوكها، تكره مُجتمع النّحل، كُرها شديدا، ينعتونهم بالحَشَرات، رغمَ أنّ الدبابير حشراتٌ أيضا، بل إنّهما شعبةٌ واحدة برتبةٌ واحدة، ولكنّهم يعتبرون أنفسَهم، من طبقةٍ أخرى، مُصطفين من غيرهم، مختلفين عمّن سواهم، فلا يُلاقي دبّورٌ نحْلا، إلا وقتلها وأخذ عَسَلَها، ودمّر خليّتها، فالعسلُ ليسَ ثروةً فحسب، بل الغذاءُ الرّئيس لها، والثروةُ مَطمع، والطَمعُ يُعمي، كما الجوع.
استمرّت هذه الحروبُ بينهما، دَهرا، والتي كانَ العاديَ فيها، الدبورُ دائما، حتى حلّ العهدُ الحَشَريُّ الجديد، الذي لا يختلفُ كثيرا عن سابقه، إلا في ثوبه، وخِطابه، وذكائه، فجاءت مُعاهدة [الدبّور الأحمر]، تجرّم العادي، فقسّمتِ البساتين بينَ النّحل والدبّور، بشكلٍ لا يلتقيان فيه، فكانَ للدبّابير المغرب، وللنحل المشرق، ولا غنى للمشرق عن المغرب، كما لا غنى للمغرب عن المشرق، ومتى ما زالت الجِهات، توحّدت الأمم، فالجهة حجاب. ومع توالي الأيّام، استطاعت الملِكَةُ أن تزيدَ منْ منتوجِ عسل ممْلكتها، بكَمّه ونوْعه، مع تزايد شمعه، إلى حدٍّ يتجاوز استهلاكَ أفرادها، واستعمالَ دولتها؛ ليُصبحَ مخزوناً كافيا لأجيالٍ بعدهم. ولكنّ هذا الرّخاء لم يَدُم طويلا، فقد قامتْ مجموعةٌ من الذباب الدّخلاء، قبيح المنظر والمخبر، بالهجوم على المملكة، وتطويعِ ثروتها، وإقصاء ملكتها، دونَ أنْ يحفلَ النّحل بذلك، أو يتحرّك تجاهها، فقد استمرّ في عمله، وكأنّ أمرَ الملِكة لا يعنيه، مُقيّدا بجهله، وما درى النحلُ أنّه لنْ يُنتجُ دونَ ملكته، وخليةٌ بلا ملكة خرابٌ، ولو كانت من ذهب، ومُجتمعُ النّحلِ رغمَ كونه أنثويّا في الأصل، إلا أنّه تخلّفَ عندما حَكمه الذّكر، رغمَ صغر حجم ذكر النّحلِ مُقارنةً بأنثاه. وعلمَ الذباب أنّه ليسَ ملِكا، فتعلّل باديءَ الأمر بأنّ النحلَ يُعرف بذُباب العسل، فهما واحد حسب منطقه، وعندما فشلَ أنْ يحوّلَ المملكةَ إلى مملوكيّة، لم يكنْ أمَامه إلا الادعاء أنّه من أصلٍ مَلَكيّ، وذُبابٍ أميريّ، ونسيَ أنّ الذباب مهما ارتقى، فالقاذوراتُ غذاؤه، والقمامات مسكنه، ومن استنقصَ شيئا فيه، ادّعاه له، فما كانَ من الذباب إلا أنْ ركنَ إلى أسطورةِ جناح الدواء وجناح الداء، التي لم يختبرها أحد، ليُعلنَ بها، علوّه عليهم، وحاجتهم له، وأفضليّته، فالخرافةُ مهربُ العاجزين.
كان الاحتلال الذبابيّ، حُلُما جميلا للذباب تحقّق لهم، فما منْ أحد عارضهم، أو قاتلهم، فالمملكة كانتْ لقمةً سائغة، وثروة سابغة، وأمّة والغة، فطغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، فلا أحدٌ يعترض، أو حتى في سرّه يمتعض؛ فممّا يُميّز الذباب، أنّه مجتمع تكثرُ فيه العيون، فللذبابة الواحدة، آلاف العيون، لا تغمض أبدا، إذ لا جفن لها، وبهذه العيون، استطاعت إحكام قبضتها على النّحل، فلهم مع كلّ فردٍ عينان على الأقلّ، ولك أنْ تتصوّر ما يصنعُ مَن طعامُهُ الفضلات، وعملهُ التنقلُ بين القاذورات، إذا صارَ حاكما. وبعدَ عقودٍ منْ حُكمِ الذباب، توقّفت فيه النحل عن الانتاج؛ لغياب الملكة، وتحوّلت إلى ذباب، في كلّ تصرفاتها وتفكيرها، تعتادُ بعاداتهم، وتسلُكُ نَمَطهم، وتتغذّى غذاءهم، فصارَ المُجتمعُ ذُبابيّا، عديدٌ بلا جديد، عاجزٌ عن الهضم والتوليد، مرهونٌ بمَمَصّاته، فخنع النّحل راضيين، فقد تعوّدوا على العمل دونَ النّقد، والرّضى دون التذمّر، فأمِنَ الذباب عقودا، فإذا حكمَ الذباب النحلَ، صار النحلُ ذُبابا، وإذا حكمَ النّحلُ الذباب، بقي الذباب ذُبابا. وما أن هرمَ الذباب، وضعُفت عيونُه، وتثاقلت حركاتُه، وعجزَ عن التحكّم في بنيه، فضلا عن رعاياه، انقضّ عليه، أصاغر النّحل سنّا، الذينَ لم يكتمل تشكيلُ وعيهم واصطباغهم الذبابيّ بعد، عَدّوها مغامرة، تستحقّ المُجازفة، قد تصيبُ وقد تخطيءُ، فالمُغامرة مُقامرة.
وبالفعل، نجحَ صغار النّحل، في مغامرتهم، ووفّقوا في مقامرتهم، فعمّت الأفراحُ عمومَ المَمْلكة، بكلّ خلاياها، مُكْبرينَ بهم، فقد فعلوا ما عجزَ النحل بكباره وأكابره، عن فعله. صغارُ النّحل كانتْ نعْمتُه عدم اكتمال تذبيبه، ولكنّها هي أيضا نقمته، لعدم نقاء نحليّته. هذي الأفراحُ كانتْ على حَذَر، فشبحُ الذباب لم يُغادرْ أخيلتهم، فمن اعتادَ على العين، صاحبَ الجُبن، لذلكَ من تبقى من الذباب الذي جاء مُهادنا، متنازلا، عمّا هو في الحقيقة ليس له. جلسَ مُهاناً، واتكأ مُدانا، وخرجَ على يدِ منْ لم يتحرّر من عبوديّته، مُصانا. لم تَدُم الأفراحُ طويلا، فسُرعانَ ما تعالتْ أصواتُ المُتسائلين، وزعيبُ الخائفينَ الحائرين، وصيْحات المُعترضين، ثولٌ (الجماعة من النَحل) بحقّ : وجهةَ نظرٍ، وخوفَ مآلٍ، وثولٌ بباطل : لا لشيءٍ إلا لأنّه خلقَ مُعترضا، يعترضُ على اعتراضه، أو عاشَ مُهمّشا مُهشّما، فهذي حيلتُه ليقول: هأنذا.
*******
ماذا الآن؟، ومن سيحْكمُنا؟، وماذا سيحِلّ بنا؟.
هل نستطيعُ العيشَ دونَ ذُباب؟.
هل نبحثُ عن ملكة؟، أمِن نسلِ الأولى، أم أخرى؟.
هل وحدة المملكةُ ضروريّة؟، لمَ لا تستقلّ كلّ خليّةٍ بأمرها؟.
لمنْ ستؤول الخليّة الملكيّة الرئيسة، حيثُ العسل، بمتاعها وغُرَفها؟.
ما الذي نفعله بالكميّات الكبيرة من العَسل الأسود؟.
من الأحقّ فيه؟، وما آليّة توزيعه؟.
تلكَ كانت أبرز الأسئلة، التي تقاذفتها أجواء المُشاحنة، بينَ نخبةٍ من النّحل، إذ بقي عامّة النّحل على ما اعتادَ عليه، غير مُنحازٍ لطرف، ولا مُكترثٍ لغُرَف، يسْكرُ بينَ الفينةِ والأخرى، متناسياً أنّ الأمرَ بيده، فهو وحدَه القادرُ على ترجيحِ كفّة دون أخرى، ولكن من لم يَكُن فاعلا، صار مفعولا به. دبّ الشِّقاق، وكَثُر النّفاق، وعجزَ النّحل عن الاتفاق، وتكادُ الكلمة تخرجُ سلاحا، فبعضهم يتحاورون، والبقيّة يتجادلون، يتحدّثون ولا يُنصتون، فلم يتوصّلوا إلى حلّ. وبينما هم على حالتهم هذه، أقبل عليهم من بعيد رجلٌ يعرفونه ولا يعرفونه، لا يُمكنه الطيران لعجزه، وعلى جسدهِ آثار العَسَل، بالكاد يمشي سُمنةً، وما أنِ اقتربَ حتى صاحَ أحدُهم، إنّه [العجوزُ الأعمى]، ذلكَ العجوزُ الذي كانَ منبوذا في صغرهِ، مُهمّشا في كِبَره، لا وظيفةَ له، فتبتلَ في الخليّة الملكيّة، فيُعدّ نفسَه ليُصبحَ من المَحارين (شهداءُ العسل)، بعد اجتياح الذباب لعلاقته بهم، فلمْ يخرجْ منها حتى الآن. [العجوزُ الأعمى]، أخبرهم: أنّ رسالةً من الآلهة، عنده، أودعته إيّاها، إذْ جعلتهُ ناطقا باسمها، حاكما بأمرها، موكّلا عنها، وأنّه كانَ يعلمُ كلّ ما حدَثَ قبل وقوعه، ويعلمُ ما سيحدثُ كذلك، والذي سيكونُ كارثيّا، إلّم يتبعوه، ويأتمروا بأمره فيُطيعوه، فهو سفينة النّجاة لهم. أخبرهم: أنّ العسلَ مُقدّس، وهو غذاءُ الآلهة، يجبُ عدم المَساس به، ومن اقتربَ منه دونَ إذنه، فهو ملعون.
لقيتْ دعوةُ الأعمى، صدىً كبيرا عند عامّة النّحل، وإقبالا في أوْساطهم، فالجاهل يحتاجُ دائما إلى من يتكيء عليه، اتكاءً كُليّا، فلا يستطيعُ تدبير أمره بنفسه، خاصّة وأنّهم يجدونَ في تاريخهم، أنّ النحل سبقَ لهُ أن أوحيَ إليه، فهم يعرفون الوحي ولا يجهلونه، ويفهمونه ولا يستغربونه، ولا أدلّ على صدق الأعمى عندهم، من إخباره لهم بالشّمسِ حالَ شروقها، وهو أعمى، فتأكّد لأتباعه صدقُ رسالته، وما خطرت على بال أحد، أنْ يسأله عن القمر أطلع؟، إن كان صادقا، فالشّمسُ تدركُ بحرّها لا بشكلها فقط، عكس القمر، ولكنّ المُعتقدَ أعمى، والمُقلّدَ أعمى، فهمُ العُميُ ولا بصيرَ بينهم إلا العجوز، يقودُهم لأغراضه. ولكنّ دعوةَ الأعمى لم تسلم من المُعارضين، والمُخالفين، الذين عَدّوا دعوته خِداعا، وعدّوه مدّعيا كذابا، فلم يُسلّموا له ادّعاءاته، إلا أنّ الأكثريّة من هذه القِلّة، كفروا به؛ لاحتكاره العسل، لا لادّعائه الرساليّة، فالكلّ مُدّعون، فما كانَ من الأعمى إلا أنِ استخدمَ الآلهة، في حَربه، ولنصرة حِزبه، ومن ذا الذي يخاصمُ إلها، إلا مجنونا، وكم من إلهٍ بريءٍ من دماء سالت ادّعاءً لأجله.
فقد أخبرَ الأعمى أتباعَه: أنّ مخالفيه، والمعترضينَ عليه، والرافضينَ الانضمامَ إليه، قد عَصَوْا الآلهة، فصُبّ عليهم سَخَطُها، ومن رامَ رضاها، أسرعَ بقتل أعدائها، فمقاعدُ الجنّة معدودة، وجُلّها محجوزة، فأسْرِعْ بحجزِ مكانك قبل امتلائها، وما درى النّحلُ أنّ إبرته عند خروجها، تقتله قبل أن تصيبَ أخاه، وهذا حالُ من كان سلاحُه في دُبُرهِ لا في رأسه. فوقعَ ما كانَ متوقَّعا، وجَدَّ ما لا بُدّ منه، وَغىً شعواء، وحربٌ لا تبقي ولا تَذَر، أكلتْ ممْلكتَهم، وشبابَهم، وما تبقى من أخلاقهم، فأخرجتِ الوحشَ الذي بداخلهم، وأظهرتْ جوهرَهم، ففي كلٍّ منّا وحشُه، الذي يتحيّن فرصته ليخرُج، ومن لم يروّضه استولى عليه، ومن استولى وحشُه عليه، فلا تسْتغرب منه شيئا. [العائلة – الوطنُ – الانتماءُ – المروءة]، لم تعد تعني لهم شيئا، تلوكُها الألسُنُ بغير معنى، مُفرغةً من مضمونها، ففي الحرب، البراءة أوّل ما يُفقدُ، والمفاهيمُ أرزأ ما يُوْأد.
أصبحتِ الفرصةُ سانحةً للدّبابير، فقد تهيأت الظروف لهم، بأن ينالوا ما يريدون من النّحل، دون حربٍ لا طاقة لهم بها، أو نقض معاهدة [الدبّور الأحمر]، ولا جَرأة لهم على ذلك، خوفَ اجتماعِ الحشراتِ عليها، فرصةٌ تمكّنهم من أن يحصلوا على العسل، ويقضوا على النّحل، دونَ جريرةٍ عليهم، وأثمنُ الهدايا على الإطلاق، ما قاده لك القدرُ دونَ سؤال. لم يفكّر [الدبّور الكينيّ] كثيرا، فلن يجدَ لهذه المَهمّة أفضل من ابنته [جولز]، الداهية الشّقيّة، واثقا في دَهائها، مُعتمدا عليها، فلا أملَ له سِواها، وكانتْ كعادتها هِمّةً على قدر المهمّة، فلمْ تأخذ وقتا طويلا، حتى فهمتْ مجتمع النّحل بسلوكه الذبابيّ، فعرفت مفاصِله، وتركيب شخصيّته، وصفاتِه؛ لسطحيّته وسذاجته، وانعدام رموزٍ لثقافته الحقيقيّة، فنسيَ هُويّته، فسقط في هَويّته، إضافةً إلى أنّ صِغرَ سِنّها يُظهرُ براءتها، وكونها أنثى، يوجِبُ احترامَها، وعدم مُعاصرتها حروبَ الأمّتين، يخلي ساحتِها من النّوايا الخبيثة.
رأت الدبّورة [جولز] في العجوز الأعمى وأنصاره، فرصتَها الذهبيّة، التي لن تتكرّر لها مرتين، للسيطرة على العَسَل الأسود، فانتظرتْ بشوق، يوم الهُدنة في [إيبيل]، والنّحلُ مجتمعون، جموعٌ يتوعّدون ويهدّدون، وجموعٌ يُسنّونَ ويشنّون، من كلّ طرف، وما أكثرها، وغابَ من يقول خيرا، فبرزتْ [جولز] بينهم وسطَ تعجّب النّحل وتخوّفها، خاصّة وقد حملتْ كلّ ثروتها، وحشدتْ خَدَمها. وما أن تحدّثت حتى صمتَ الجميع، رغبة ورهبة، قالتْ : “إنّ مصلحة المملكة تهمّهم، ودولة النحل تشغلهم، ولن يرضوا بضياعها، ولا يهمّهم شيء سواها”، وأنّها “جاءت لتكونَ داعية صُلحٍ بينهم، إلا أنّ الحقّ أحقُّ أن يثتّبع”، فركعتْ أمام العجوز الأعمى، وسط اندهاشِ كلّ النّحل، فرمتْ ثروتها، وأركعت خَدَمها، وقالت : “إنّا نؤمنُ بنبوّتك التي قلتَ، وإنّا لنجدُ مِصداقها في كتبنا، وقد بُشّرنا بك، ونحنُ على أمرك لنخدم آلهتك، التي هيَ الآن آلهتنا، ونحمي عَسَلها، والحربَ على المُخالفين لها، وعتادُنا لأمرك لنصرك”. اضطربت بقولها صفوف المتحالفين، وتزايدَ بنصرتها أنصارُ الأعمى، وتغيّر بتدخلها لون المتلوّنين، فمن كانت الحِرباءُ صديقتَه، كانت المباديءُ أرْديتَه.
*******
استمرّت الحربُ بغيّها ووَغيها، سنينَ متوالية، أخذتْ أشكالا وأحوالا ومظاهرَ مختلفة:
تقولُ [جولز]: لا يُهمّنا العسلُ، بل أنتم.
يقول [العجوزُ الأعمى]: لا يُهمّنا العسلُ، بل رضى الآلهة.
يقولُ [المحاربون]: لا يُهمّنا العسلُ، بل تحرير الوطن.
يقولُ [التجّار]: لا يَهمّنا العسلُ، بل مبدأ التوزيع.
يقولُ [المُستلبون]: لا يُهمّنا العسلُ، بل الهُويّة.
كذبوا جميعا، فكلّهم مُدّعون، يريدونَ العسلَ ويُحاربون لأجله، ولو تتبّعتَ كلّ حروب النّحل، لوجدتَ أنّ العسل وراءها، ووحدهم الأطفال صدقوا، عندما صاحوا جياعا : “العسلَ العسل”. لم تتوقّف الدبّورة [جولز] في سعيها لمقاصدها، وبذل كل الوسائل لتحقيقها، فقد تبتلت مع العجوز الأعمى في خليّته الملكيّة، ولم تخفي رفضها الشّديدَ للمُعاملة التي يلقاها العجوز من أتباعه، والتي يجبُ أن تكونَ أفضلَ من ذلك، فتقدير [العجوز الأعمى] من تقدير الآلهة، ومن كان الواسطة، لا يكونُ مثلنا، بل هو أسمى منّا، فكيف نسوّيه بغيره، “بل أنت بصيرٌ لا أعمى”، قالت [جولز]، واستطردت : “أفنيتَ عُمرَكَ مجاهدا خادما للآلهة، أما آن الأوانُ لتثابَ على ذلك، راحة وخيراتٍ ونِعَما، إنّ لي في دولة الدبابير دارا لا يوجدُ مثيلها، هي لك”، راقت الكلمات للاعمى، وصدّق قولها ونفسَه.
وما أن جهّز الأعمى نفسَه لسفره، حتى صارحته الدبّورة [جولز] برؤيةٍ مناميّةٍ رأتها، “وكأنّ العسلَ مسروق، فالحرب مُستعرة، والأمنُ مفقود، والحماية ضعيفة”، وسرقة العسلِ تستوجب غضب الآلهة، لذلك قالت: “أيّها البصير، لقد اجتهدتُ في تأويلها ممّا فتحَ عليّ بك فيها، وأعتقد أنّ الآلهة ترغبُ في نقل العسل الأسود لمكانٍ أكثر أمنا، ولا يوجد مكانٌ أكثر أمنا من أعشاش الدّبابير المُحصّنة، وتكونَ أنتَ في نفس الوقت على مقربةٍ منه، في دارك الجديدة”، لم يفكّر الأعمى كثيرا، ووافقَ على فوره، فقد أعمى الطمعُ بصيرته.
بسببِ ذلك، ازدادتْ وتيرة الحرب في [إيبيل]، بعد ذلك، بشكلٍ أصبحت الحياةُ فيه مُستحيلة، فتفشى المرض والجوع والقهر، وكثر الموت، وأصبحَ النّحلُ يُحاربون لأجل الحرب، ونسوا حتى سببَ حربهم الأصليّة، فتنافر الحلفاء، وتقاتل الأخوة، وكلّما اقتربوا من الشّورى، أبعدتهم [جولز] عنها، وكلما ابتعدوا عن الحرب، قرّبتهم منها، وذريعتها الدائمة، مصلحةُ البلاد ورضى الآلهة، ودماء الشّهداء، وبذا ضاع الوطنُ بينهم، فالوطنُ ليسَ أرضا وأحجارا، بل هو ارتباطٌ المجرّد بالمُشخّص، وإلّم تتجسّد وطنيّة دولة بأفرادها، فلا وجود لوطنها إلا على الخريطة.
وبمرور السّنين، لم يَعُد يُنظرُ إلى صغار النّحل الذين أطاحوا بحُكم الذباب، على أنّهم أبطالٌ، بل مُجرمون، أشعلوا أوارَ فتنة، كانوا في غنى عنها، يحنّون إلى الذباب، رغم سوء طبعه وقبحه، وجهله، وتخلفه، ولا يتمنّون الملكة، رغمَ أنّ التمنّي كما حَملك إلى عهد الذباب، قادرٌ على حملك إلى عهدها، ولكن لأنّهم ذُباب على هيئة نحل، يحنّون إلى الذباب، فكلٌّ يَحِنُّ إلى أصله. صِغار النّحل، الذين كبروا الآن، وزادته الحربُ خبرة، وتجربة، مع كلّ فردٍ يسقط ميْتا، رأوا الحربَ التي أشعلوها، مسؤوليّتهم، لزاماً عليهم أن يُنهوها كما بدأوها. ظنّوا التغيير سهلا، تقليدا وجهلا، فلا وَضعوا بَدلا، ولا أقاموا عَدْلا، فتخبّطوا وأفسدوا، فمن لمْ يحْسبْ فعلَه، فِعلهُ قَتَله، وعندما يقودُ الجهلُ على بساط المصلحة تضيعُ الأوطان.
تبدو المشكلةُ في نظرهم للوهلة الأولى، بسيطة، ظنّوها كذلك لبساطتهم، وهي في الحقيقة كُلٌّ مركّبٌ مُتداخلٌ مُتشابك؛ لأنّه من الصّعب أن تقيمَ مملكةَ النحل، بعقليّة الذباب، وهذا ما لم يستوعبْهُ النّحل الذبابيّ بعد. وسببُ أنّ صغار النّحل يرى الوضعَ أسلمَ من غيره، لأنّه استجاب لنداء النّحلِ داخله، فهم يتمايزون بينهم، بدرجة اصطباغهم الذبابيّ، أيّ درجة النحليّة مقارنة بالذبابيّة داخلهم، لذلك هم لم يكونوا كبقيّة النّحل، ذُبابا خالصا على هيئة نحل، بل خليطا )نَحْذابا(، وبعضهم )نحّابا(، وأفضلهم )نحلبا(، وفهموا أنّ الأملَ الحقيقيّ هو في الجيل الجديد النقي، لإقامة المملكة، على أنقاض ما تبقى منها، فما نودِعُهُ في جيل، نجدُه، فلا يتوقع زارعُ الحنظلِ بطّيخا عند حصده.
اتفقَ صغارُ النّحل، على أمرٍ لعلّه يكونُ على يديه انتهاء الحرب، هو مغامرةٌ أخرى، رغمَ أنّ جرحهم ما زال غائرا من مغامرتهم الأولى، لكنّه اليأسُ إذا استحكم، ففي ليلةِ عيدِ الفِطر، وقد وُلدَ الهلال، اهتدى صغارُ النّحل إلى الخليّة الملكيّة حيث يكمنُ العسل الأسود، ورأوه وهو معبّأ ومُجهّز لنقله إلى الدبابير؛ لحمايته بزعمهم، فدخلوها بالجَنا حيْن، وأضرموا في العسل والخلية النّار، فأكلتها وأكلتهم، وما تركت منهم شيئا، لعلّ موتهم يكفّر عن خطاياهم، ولعلّه يكونُ التضحيةَ الوحيدةَ الحقيقيّة في تاريخ النّحل حتى الآن. عادَ الأعمى، أعمىً كما بدأ، فقد طردته الدّبابيرُ بعد فناء العسل، فلا حاجة لهم به، ولا مصلحة لهم بغيره، وكانت هديّة الدبّورة [جولز] للأعمى عدم أكله، وانصرفَ المُحاربون لذويهم، فلم يعد هناك سببٌ يقاتلون لأجله، ولا ثمنٌ مقابل حربهم، فإنِ استمرّ قتالهم سيموتون وأهلَهم، والعملُ أولى لإطعامهم. أمّا [جولز] الدبّورة، فسمعتْ أنّ مملكةً أخرى للنّحل، ماتَ يعْسُوبُها، فأمسكت دمعها، وجهّزت سوادَها، وتوجّهت لأداء واجب العزاء، وللمشورة في خلفِ أميرها، فلا همّ لها إلا مصلحة الأوطان.