قبل البداية:
ترنو الرواية في تونس إلى أن تتخذ مكانتها في خضم تطور مستطرد للرواية المعاصرة، وتسعى لكي تشكل حضورًا مميزًا خارج نطاقها الزمني والمكاني، وذلك ما دفع الكتابة الروائية في تونس إلى مواكبة التغيرات التي تحدث في بلادها أو في العالم ككل، وبذا تتخذ طرائقها الجديدة في السرد من خلال أفقها المفتوح وبحثها المستمر عن التنوع مما يجعلها تتميز كتابةً وشكلًا ومضمونًا من خلال تركيزها على بناء السوسيولوجيا والسيكولوجيا والأيدولوجيا من نواحيها الإنسانية والمجتمعية..
يمكننا أن نلمس ذلك في العديد من الروايات التي استحقت أن تكون إنموذجًا للدارسة والبحث، ولعل رواية “البلازما ” للكاتب أنيس العبيدي هي إحدى تلك التحف الفنية التي تُشيد الفسيفساء الروائية في تونس من حيث اعتمادها على متانة اللغة ومرونة المشهدية.
في البداية :
كثيرًا ما يفتق الواقع أوهامًا كنا نعيشها وقليلًا ما نتبين الخيط الأبيض الذي يفصلنا بين النقيضين، في رواية “البلازما” من المفتتح إلى النهاية لازمنا الانفصام بين المفردتين اللتين ينبلج أحدهما من الآخر ويشكل جدلية موازية له ليفنده ، ومن المؤكد أن الوهم الذي يؤسس به العمل الروائي يستحيل واقعًا حيًا سواءً أن قدم ورقيًا أو مرئيًا.
تصدير وجيز:
تتجلى تيمات الرواية في محاور معدودة:
_سيسيولوجيا الواقع التونسي و العربي.
_سيكولوجيا الفرد والمجتمع(الجماهير)
_ الحب طاقة كونية وجودية.
_ الوطن رابط جغرافي عاطفي وأيديولوجي
_ الانفصام بين الوهم والواقع
استهلال /البلازما:
للوهلة الأولى سيذهب بك المصطلح إلى حقل البيولوجيا؛ إذ إن البلازما هي المادة الصفراء التي تكون 55% من إجمالي الدم في جسم الإنسان …أما فيزيائيًا فتعرف البلازما أو الهيولي بأنها المادة المكونة من الأيونات الموجبة والإلكترونات السالبة، وقد استخدمت تقنيًا في صناعة ما يسمى بشاشة البلازما (الشاشة اللوحية) إذ هي عبارة عن لوحة تتكون من عدة خلايا صغيرة جداً ممتلئة بغاز زينون النيون وعند تطبيق الجهد على القطبين الموجودين داخل الخلية تقوم الإشعاعات الفوق بنفسجية بتهييج طبقة الفوسفور المبطنة للخلية ويتم إصدار الضوء منها . وبالتالي نحصل على صورة ساطعة ونقية .. إن ما تصدر في التعاريف السابقة سيطابق تمامًا محتوى الرواية والذي وفق الكاتب أنيس العبيدي في اختياره كعنوان لها.
المتن الروائي:
يتشكل المتن السردي بين الواقع والوهم؛ فقصة الانفصام (الشيزوفرينيا) التي تتمظهر في الشخصية المحورية، وتطال تونس بعد ربيعها وسقوط نظام الحكم وتبديله ، وتتجلى في الأحكام التي يطلقها الكاتب في بعض المواضع والمواقف، إلى أن يباغتنا تساؤل وجودي:
(أنحن حقيقة أم وهم؟)
الحكاية والحبكة:
تدور القصة حول بطلها الصحفي مهدي عبدالكريم والذي ولد من أبٍ ترك والدته بعد أن استُؤصل رحمها، “وذهب ليعمر رحما آخر “، تنتقل الأم بابنها إلى العاصمة نازحة عن البلدة، وهناك ينشأ ويدرس الصحافة، ليصبح صحفيا ألمعيًا، لكن أيادي الفساد السياسي والرأسمالي تطاله، ليصبح قلمه رهنا لها، فيما يعيش وهم مبادئه لكونه يدافع عن الطبقات الكادحة والعمال، وبسرعة الضوء يترقى إلى رئيس التحرير ومنه إلى مدير لقناة تلفزيونية بعد أن تخلى عن ذمته وضميره المهني…
بعد الثورة يسجن المهدي عبدالكريم، ككل من حسبوا على النظام الذي انهار بعد 14/ جانفي/2011 ، وهناك يصاب بمرض الشيزوفرينيا؛ فيتابع من قبل طبيبة نفسية “دُرة” التي تصاب بحالة ولهٍ به، وبقصصه الوهمية والحقيقية حيال سماعها له طيلة فترة العلاج، وتعيشها بكل هواجسها وعواطفها، إذ تنفصم شخصيته إلى شخصية طاهر الأربصي المواطن الذي يعيش في قرية نائية ويشتري شاشة بلازما وثلاجة، هذه المواد المنزلية في الأساس تعود لرجل أعمال يدعى “منجي ديماكس” الذي كان مهربًا بين حدود ليبيا وتونس وأصبح من كبار رجال الاعمال، يملك جريدة وقناة تلفزيونية يعمل بها “المهدي”…
إذ استهلت الرواية بشخصية طاهر التي هي انفصام للمهدي وظلت مرافقا له قبيل عودة حبيبته نسرين بقليل “العودة من الموت”.
وقد استخدم العبيدي المنطق في حبكته إما مباشرة في التحليل أو بطريقة غير مباشرة بالتلميح، وهو بهذا لم يترك ثغرة قد تفسد أسلوب أو شكل الرواية في جانبيها الفني والدراميكي ..
البنى الحكائية:
يستند العبيدي في روايته البلازما على الأصوات المتعددة (البوليفونية)؛ إذ يسرد لنا الواقع بآراء متعددة ليكشف مدى تكيفها حين تُجسَد المرئيات القصصية والحكي الماورائي الذي يُسرب لنا خلاله الرؤى الفكرية والفلسفية للكاتب، والمدى العميق لنظرته الحسية للواقع وتشخيصها للمتلقي على شاشة بلازما كونية تنزوي صورها في مجتمع الجزء المنوط به مجتمع الكل، في سرد ينمق بالتناوب ويتدرج بين الواقع والوهم، والتركيز على المشهدية والسيموغرافيا الحكائية متكئًا على تقنيات التقديم والاسترجاع، لترسيخ سمو الهدف من النص والذي ركز بشكل كبير على سيكولوجيا الإنسان.
الزمكانية:
ينطلق الحدث الزمكاني في الرواية من صرخة خطابية، أو ربما استنجاد يتخلله استجداء، للظفر بالذات لكونها بريئة مما ينسب إليها أحيانًا نتيجة لتفاعلها في مجتمع تتباين فيه التفرقة بين الفضيلة والرذيلة، هكذا يطلق السارد كلمته الأولى: “لستُ سارقًا”…
وذلك لإيقاظ الإدراك الحسي والذهني لدى المتلقي بعد أن مرّ دون أن يقف على الإهداء الذي قُدِّم للوطن، ثم إلى صاحب الكلمة والقلم، ومنهما للقراء ويُترك فراغا لتهيئتهم للآتي..
لا ريب أنك في الوطن وفي زمن يحاكي أوجاعه وتحكيه أنات الفوضى والفساد المتجلين و المخبوئين في ركن من أركانه، ولكن ذلك المكان لا يلبث قليلا حتى ينطلي بالأرض حيث ينعطف مفهوم المكان ليستقر على المفهوم الشمولي: “كل أرض هي وطنك”، وعند التبئير يحصر مكان الرواية في تونس العاصمة والوطن وما تعانيه من اختلالات واضطرابات انفصامية، أسقطها الكاتب على شخصيته المحورية التي انقسمت كعينة من المجتمع، بين المثقف والمواطن وعلاقتهما بالدولة.. وتدور الأحداث بنا وفق آلة السارد الزمنية التي يحاك فيها مسرح الأحداث بتوقيت تونس قبل وبعد 14 / جانفي/2011، وتوقيت الرواية الذي يسيج من بداية المرض إلى العودة منه، والذي لا يبعد الشخصية على كونها الوطن (اندماج الذاتي في الموضوعي)
البعد الفني:
نوّع الكاتب أنيس العبيدي في أساليبه الفنية، بتأثيث الأحداث ومجرياتها ومقتضياتها، واستطاع بحرفية عالية أن يستخدم عدسته في رصدها وعرضها في شاشة بلازما كبيرة، بتقنية بدا فيها الكاتب هو المخرج لها ، من خلال أدواته التي قولبت الأحداث من المحكي إلى المرئي، إذ تتحكم من خلال مشاهده الدراميكية والرومانسية في ذهن المتلقي وحسه الإدراكي والنفسي ونقله داخل الحدث بين التشويق والإثارة وإدارة عواطفه في كثير من المواقف سواء إبان الحوار الخارجي أو إبان الحوار الداخلي(المنولوج)؛ هذا فضلًا عن تمكنه من تطويع طرقه الروائية فبالرغم من إسهابه في بعض مواطن السرد إلا أنه لم يقع في محظور الحشو، حيث كان مستدركًا لمنعطفه السردي بتوازن بين التؤدة والعجلة ، ولا شك أن هذه كفاءة لا يمتلكها إلا من حظى بالاحترافية والحنكة الأدبية ..
اللغة:
تأتي اللغة مطواعة في يد الكاتب الذي لمسنا حرفيته السردية في أكثر من موضع في الرواية، إذ اعتمد على مخزونه الثري في اللغة وأدواتها الفنية؛ لكونه رجل قانون، فقد كان حريصا كل الحرص على مواطن جمله السردية، بحبكة فنية تضعها في صورتها المستنطقة أو الجوفية، بين المفردة المنتقاة بعناية والمعنى المتدفق بأريحية، وبين الرمزية والإيحاء، والأسلوب البلاغي المحبوك بطريقة حداثوية مستظرفة لتكون في متناول المتلقي، علاوةً على اللغة الشاعرة في بعض المواضع التي تدفقت فيها الوجدانية كحالة إنسانية ونفسية انسيابية المجاز والحركة المشهدية، فبينما يصادفنا نص شعري متكامل البنية في رسالة يكتبها البطل لحبيبته والذي يعنون ب “شوق” ليسفر عن حالة وجدانية وعاطفة متأججة.. يستدركنا مقطع آخر نقرأ فيه لغة شعرية تقع كموسيقى تهز وجدان المتلقي “تعال واقرأ باسم العشق الذي ألقى بك في طريقي، اتبع الكلمات والسطور سطرا بسطر ، واحذر أن تفوت حرفًا من الحروف، وارسم كلماتك قبلا على الفراغات”
تدفق شعر بديع يضيف بعدا جماليا للنص ويثني على كاتبه .
في النهاية:
يُنسج العمل الروائي حسب أسلوب ونهج كاتبه وقدرته في جعل عوالمه التخيلية موازيةً للواقع أو قريبة منه بشكل كبير، وقد تمكن العبيدي من توظيف أدواته الفنية وصهرها في روايته منزاحًا بلغته السردية عن الابتذال، ممنطقًا حبكته التي تختزل في المستوى النفسي وما تصوره الشخصيات من أفكار مرتكزًا على خلفيته المهنية كرجل قانون ومخزونه الأدبي والثقافي اللذين انعكسا في تدفق خياله و براعته السردية ومدى التأثير القوي للرواية على المتلقي.