المقالة

الثقافة التباوية إرث وطني

كتابة: إيمان السنوسي
تصوير: عبد السلام سيدي

اليوم الوطني للثقافة التباوية (تصوير: عبداليلام سيدي)


في الفضاء الرحب الفاصل بين شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، في ذلك الامتداد اللانهائي من الرمال والواحات المبعثرة عاش شعب التبو، والتبو بحسب اللغة الكانورية تعني (ساكن الجبل) و”تو” في اللسان التباوي هو الاسم الذي يطلقه التبو على تيبستي ومحيطها الشاسع. 

عاش التبو في تلك البقعة الصحراوية لآلاف السنين، ففي تانوا ( العوينات) و ربيانة ( موزي) و أربن ( بزيمة) و تازر بو (تازربو) خلفوا آثارا ورسومات على الجبال وسطوح الكهوف تعود بعضها لآلاف السنين، ما جعل المؤرخون الكثر الذين درسوا تاريخ التبو والمنطقة يحارون في تحديد الأسلاف الذين ورثوا هذه الصحراء العظيمة بواحاتها الكثيرة وعيون المياه والآبار الواهبة للحياة للتبو، فاتفق عدد من منهم على أنهم أحفاد الجرمنت العظماء الذين أسسوا حضارة جرمة الليبية العظيمة، فيما جادل بعضهم بشراسة أنهم أحفاد قبيلة التحنو الليبية القديمة، ومؤرخون آخرون ذهبوا إلى أنهم أخلاف الاثيوبيين الذين ذكرهم هيرودوتس كسكان الكهوف جيران الجرمنت (سود بقسمات قوقازية) ، وتذكرهم مخطوطات قديمة على أنهم محاربين أشداء سمر الوجوه ينطلقون من تازر (الكفرة) ليسيطروا على واحات سيوة والداخلة في مصر البعيدة، بيد أن ما اتفق عليه الجميع هو أن التبو يشكلون (إنسانية قبل تاريخية ثمينة) ومن أقدم الشعوب التي استوطنت منطقة الصحراء الممتدة من جنوب ليبيا إلى شمال تشاد، وهم الذين أسسوا ممالك وحضارات من أهمها مملكة (كانم) التي كانت عاصمتها مدينة مرزق في الجنوب الليبي. 

كشعب صحراوي، اعتاد التبو على العيش في وسط صحراوي قاس، ذا طبيعة صعبة، ما انعكس على طباعهم وعاداتهم وتفاصيل حياتهم اليومية. فالصرامة والحزم صفتان تباويتان بامتياز، حيث لا مجال للضعف أو التردد في المنطق الصحراوي. ربما كان ذلك نتاج تاريخهم الطويل في الصحراء حيث كان الناموس الصحراوي يستدعي شن الغارات وخوض المعارك الوجودية والاستعداد للهجوم في كل وقت، ما زرع فيهم ذلك التوثب الفطري واليقظة الدائمة. فتحكي كتب التاريخ عن تاريخ طويل من الغزوات والغارات والكر والفر على طريق القوافل التي ربطت شمال أفريقيا والعالم الشاسع بأفريقيا السواداء، فكان التبو في الغالب هم مرافقي تلك القوافل وحماتها، وظلوا المتحكمين في جزء كبير من تلك الطرق والمنافذ لقرون طويلة. 

اليوم الوطني للثقافة التباوية (تصوير: عبداليلام سيدي)

والتبو مجموعة عرقية تنقسم إلى مجموعتين:  (تودا أو تيدا) الذين يتحدثون لغة (تداغا)، و(دزاغادا) أو الذين يتحدثون لغة الدزاغا – ومعظم تبو ليبيا ينتمون إلى المجموعة العرقية الأولى، وهي التودا أو تبو الشمال، والتيدا مجموعة عرقية كبيرة بها 37 قبيلة، وهذه القبائل ترتبط ببعضها البعض بصلات القربى والنسب، وتشكل كتلة واحدة يرأسها السلطان “دوردي” حيث يعد هذا السلطان هو الحاكم الشرفي للتبو والذي يشترط أن يكون من قبيلة (تمارا) وأن يحكم بالدستور التباوي القديم الذي وضع منذ قرون، والذي يحوي كافة القوانين التي تحكم الشؤون العامة والعامة للتبو وهو مستمد من الشريعة الاسلامية ومن العادات والتقاليد المتوارثة عن الأجداد. 

للتبو ملامح جسدية مميزة، ويميزهم جيرانهم فورا من الآخرين، فبجانب الملابس التقليدية التي لا يستغني عنها التباوي حتى في الحياة العصرية، للتبو ملامح وجه مميزة هي نتاج الملامح القوقازية والعيون المتقدة والبشرة السمراء الضاربة إلى السواد حيث يسهل تمييزهم من بين باقي القبائل الجارة.

كما يرتدي التبو أزياءً تقليدية مميزةٍ حيث يرتدي الرجال في الحياة العادية قميصا طويلا (جلابية) وسروالا واسعا ويلفون رؤوسهم بعمامة تغطي في الغالب الجزء الأكبر من الوجه، وترتدي النساء المتزوجات ثوبا (لفاحة) وهي عبارة عن قماش عريض وطويل يلف حول الجسد بطريقة خاصة، وتشترك المرأة التباوية في ذلك مع معظم النساء الصحراويات اللاتي يرتدين هذا الزي التقليدي. وترتدي الفتيات غير المتزوجات أثوابا مزركشة زاهية الألوان حيث تميز الفتاة من المرأة المتزوجة بالرداء الذي ترتديه، وبالحناء التي تزين بها النساء المتزوجات أقدامهن دونا عن الفتيات اللاتي لم يسبق لهن الزواج.

المطبخ التباوي يحتوي في العادة على مكونات قليلة، وهذا عائد في الغالب لشح الصحراء وقلة الموارد فيها،  فالأكلة الرئيسية في المطبخ التباوي هي العصيدة التباوية، لكن يبرز جانب آخر من الابداع الصحراوي، حيث تصنع أطعمة مختلفة من مكونات قليلة، فالعصيدة عند التبو تصبح بازين، أو عصيدة برب التمر المخلوط بالزبد المستخرج من لبن الماعز، وتؤكل كذلك مع اللبن الرائب المصنوع من لبن الإبل أو الماعز. واللحوم عنصر هام جدا في المطبخ التباوي، لأن التبو شعب رعوي بالأساس، وكانوا يمتلكون قطعانا هائلة من الأغنام والإبل، لذا فوجود اللحم المقدد في المطبخ التباوي شيء أساسي. وهناك مكون آخر يدين التبو بغنى غذائهم له وهو حبوب القصب أو الدخن (أنرا)  وهي حبوب كروية صغيرة تطحن ويستخرج منها الدقيق بعد درسها، وطحين القصب يصنع منه العصيد، ومشروب السحلب ( هولي) ويخلط مع السكر أو التمر وتصنع منه كريات صغيرة تعد من الحلوى الشهية التي يحبها الأطفال.  

ومعظم الحلويات في المطبخ التباوي تصنع من التمر، لجودة التمور التي ينتجها التبو في مزارعهم المبعثرة على طول الصحراء، فهناك تنويعات هائلة وطرق متنوعة تحضر بها الحلويات من مكونات قليلة أبرزها التمر وبذور الحنظل والفول السوداني. وهذا يجعلنا نتطرق قليلا لأكلة تقليدية تسمى بلسان التبو ( أبر) وهي عبارة عن بذور ثمار الحنظل التي تتم معالجتها من قبل نساء التبو للتخلص من مرارتها، ومن ثم طحنها مع التمر الجاف كي تصنع منها أكلة ذات طعم سحري، إن ذقتها مرة فلن تتخلص من اشتهائك لها بسهولة، وهنا يكمن السحر والمعجزة في المطبخ التباوي: تروض القحط الصحراوي وتحيل المرارة إلى لذة. 

ومن الشخوص التباوية الرائدة في تاريخ ليبيا قادة الجهاد في الجنوب الليبي ومنهم – ذكرا لا حصرًا- المجاهد الشهير مينا صالح الذي كان من قيادات المجاهدين ضد الاحتلال الفرنسي والايطالي والمجاهد محمد ملكني، والقائد الشهير عبد الله قجة الذي قاد الجهاد في شرق وجنوب ليبيا مع عمر المختار وقادة الحركة السنوسيةّ، وكذلك المجاهد علي محمد وامر الذي كان من المجاهدين المنضمين للحركة السنوسية التي تدين بجزء كبير من انتشارها في أفريقيا للتبو الذين دعموا هذه الحركة منذ ولادتها وانتقالها للواحة الصحراوية المقدسة آنئذ الكفرة (تازر) كما انخرط عدد كبير من رجال التبو في الجيش الليبي عقب الاستقلال، وعمل كثير منهم في الحرس الملكي منهم: الضابط كوشي شدة، صالح رامي التباوي، كاري كوري التباوي، سيدي جري بركة، اللبدو كلو التباوي، علي لانو وغيرهم الكثير.

 أما في السنوات الحديثة أي عقب ثورة فبراير فقد كان للتبو عدد من الوزراء والمستشارين والنواب ووكلاء والوزارات وعلى رأسهم وزير الثقافة السابق عيسى إبراهيم يونس ووزير العمل الحالي بحكومة الوفاق الوطني المهدي ورضامي، وهي دلالة واضحة على أن ليبيا الموحدة لا يمكن أن تكون حقيقة واقعة سوى بضم كل الليبين معا، على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وخلفياتهم الثقافية.

وهذه هي رسالة مركز الدراسات التباوية الذي يحرص في كل عام في الخامس عشر من سبتمبر على الاحتفال باليوم الوطني للثقافة التباوية في مدينة مختلفة – طرابلس هذا العام-، لأن ليبيا على امتدادها الشاسع من الشرق للغرب ومن الشمال للجنوب وطن لكل الليبيين.

___________________________

مصدر أسماء ضباط الحرس الملكي: صفحة ليبيا الاستقلال على الفيسبوك

مقالات ذات علاقة

“بالة” في ميدان البلدية

محمد دربي

هل مواقع التواصل الاجتماعي نصبت لنا فخا ؟

قيس خالد

الحقيقة في نهاية ليبيا التي نعرفها – الجزء الثاني

محمد علي المبروك

تعليق واحد

اليوم الوطني للثقافة التباوية – طيوب 15 سبتمبر, 2020 at 05:17

[…] الثقافة التباوية إرث وطني […]

رد

اترك تعليق