المقالة

“بالة” في ميدان البلدية

ميدان البلدية - بنغازي (الصورة: عن الشبكة)
ميدان البلدية – بنغازي (الصورة: عن الشبكة)

أ

 بعد أن رجع إلى حيث يسكن القى “بالة” جسده على الأرض وقال بألمٍ: من يتوفر على قوة الوقاحة والابتذال يستغني تماماً عن الكياسة.. أضاف بحرارة: يستطيع أن يجد الناس في هذه المدينة الزاهرة الراحة في شقائي طالما لبعضهم القدرة على تبديل جلودهم بسهولة مذهلة كالأفاعي السامة، تنهد، واصل قائلاً بحسرة وألم: الرجاء بالرجاء.. لحظات سريعة خالها مضت من عمره المُعَنًى. قال بصوتٍ يئن من التعب: لا أبالي، فالحمق أن أُبالي! ألقى بجسده المتعب على الحصير.. لا ثمة شمس، ولا قمرٌ، ولا نجوم تتلألأ ولا سكينة، ساد الظلام وغيوم قادمة من كل مكان.. لاح بعد قليل وابل مطير في جنون، السماء ترمي بغيوم تفاقم الظلام، تقذف بزوابع البرق والرعود، تزمجر الرعود بصوت صخي، المطر يتساقط اشبوباً من البرد.. غرق ” بالة” في الصمت، نام مستلقياً على ظهره ساكناً مطمئناً ويديه فوق صدره. ظل وابل البرد مسعور اللهي، وقبل أن يغشيه النُعاس ويفترسه النوم حملق إلى حائط غرفته المًتشقق فرأى عيوناً سوداء لطيور سوداء فغض البصر ثمّ ردّد بصوت عالٍ يزاحم اشبوب المطر وصخب الوكاف: ” الوم النائبات من الليالي … وما تدري الليالي من ألوم” صدر ذلك من غليان صدره وما كان على إطفائه قادراً فآثر الاستسلام للنوم، المطر وحده صار يصغي إلى صمت الآمه..  وعلى صوت المطر المطير نام.

ب

عرف أنّ الدهر أبد له ظهرً أجبّاً وأنّ أحلام قريته تبددت من ذهنه، لم يكن ضعيف عقلٍ كما أعتقد سفهاء المدينة، بقدر ما كان غافلاً عن الشّرّ الذي قد يأتيه من الناس، أيعقل أن يمضي في طريقه إلى برزخ الجنون هكذا دفعة واحدة والناس هكذا يتفرجون عليه مُبتهجين..  كان اِنساناً مثل الناس يحمل كأساً مليئاً بالفرح فحطمته المدينة وهشمته، هل قُدِّر له أن تصيبه لعنة شلةٍ من نفرٍ النبلٍ فيما بينهم ثعابين سامة قاتلة، أهي تلك ” البالة ” المشؤومة تلك التي كان قد حملها على كتفيه يوماً ماراً بأحد ميادين المدينة، ما الذي قذفه إلى سعير نار محرقةٍ تحرق مدينة كاملة؟ كيف اضطرب في هذه المدينة يقذفه فيها نوءٌ من جانب ويعصف به اعصارٌ من جانبٍ آخر.. منذ أنْ نزل تلك المدينة علمته الكلمات الشرسة أن يهوى إلى حكمة الجنون، علمته أن الصبر على ايذاء السفهاء مقرون بذكاء الجنون، علمته بأنّ في سريرة كلّ من أذاه للغدر اوكارُ..  منذ البداية علمته أشجار الميدان وهواتف الغيب أنّ طيوراً غريبة ستأتي من مكان مجهول من أقاصي الأفق كي تحط عليها وتغطي أوراقها وأغصانها بعفونة ما للمدينة لها علمٍ أو من مهربٍ كما علمته أنْ يهب صمته للمدينة ويعتاد على تمدد أصداء أصواتها حيث يفهم ما يلفظ وما يقال عارفاً بعلات الناس السيئة دون ستائر وحُجب.. تعجّب مرة من سماعه لأصوات الناس فخالها ضجيجاً صامتاً.

ج

منع عنه الاغتراب والجنون والبعد زهو البعد عن قريته التي ولد ونشأ بها قبل أن تحطمها متاريس النفط والطامعين فيه، يسأل سماء تلك القرية مناجياً: أين ترانيم النجوم وأين طيبها ونخلها؟ لا يدري أهو لهيب الألم الذي جعل منه معتوهاً رسمياً أم هي حكايات الوهم التي سمعها في قريته عن هذه المدينة؟ كلما وجد أنْ لا حيلة له للهروب من هذا السخف فكان يقول في نفسه: ما أبشع أنْ تكون هزوة للناس! اِعتاد على أن يحمل أيامه الشقية فوق أكتافه منتبذاً بها مكاناً في يومه وأمسه بين مهابات الزمان.. تعلّم أن بعض الأذى فيه عذاب وبؤس وتعلم أن يمشي في طريقه بيقظة من جنونه مهما تعالت أمواج أهوال المدينة.

1

حدث ذلك في أحد الأيام في ميدان البلدية وسط المدينة. تلك الأيام التي عادةً تجلس فيها ” شلة” من أهل المدينة على مقربة من أكبر مقهى في الميدان ، مقهى ” سويداء” النشط ، شلةٌ في عزّ ” القايلة” تتسلى بحكاياتها التافهة لا تملك مناعة ضد الوقاحة والثرثرة والهذيان والتسلية و كؤوس الأماني الفارغة  لا سمع فيها ولا بصر ، شلةٌ ظنّت أنّ الزمان ملكٌ لها ، تسود بينها عناصر المجاملة الكاذبة والليّاقة السّمجة ، تجد راحة ولذة في اغتياب الناس وتجريحهم  و في  ” قيادة أحوال ” من يمرّ بهم وبالذات الغريب عن المدينة فينظرون له بفطنةِ بومِ الليل ويروا فيه هدفاً مستباحاً للسخرية منه ، شلةٌ تتصدى لفريستها وتمضي في حالها كأن لا شيء حدث..  كانت للشلة بعض من أقران يأنسوا لها ويمرحون مع سخامات رعونتها الهوجاء.. ثقافة شفاهية انتجت المدينة الزاهرة من جاحمٍ متسعر في ايذاء الناس، هدّدت كيان كثيرٍ ممن مرّ بها.. أما وقاحتهم الصادمة فقد كانت طقساً من طقوسهم المفضلة في رمي بنات الناس بألفاظٍ مرّة بذيئة، كريهة منافية للآداب، الفاظٌ منفلتةٌ تطرب لها أساريرهم طرباً فجّاً.. أعضاء الشلة في فرحٍ دائم لا يهدأ، يعتزون بصراحتهم المزعجة اللامبالية بأحد أمام الناس والمارة وفي العلن.

2

 في ذلك اليوم مرّ، مرّ حابياً رجلٌ نحيل، بارز الملامح، بادي النواجد، وجه فيه سكون، طويل غامق السمرة، أسود الشعر قاصدا مشياً حيث يقيم، يذهب ويأتي، يروح ويغدو، عندها كان يمشي في حاله على مهلٍ بخطوات واثقة متزنة، لا ينتبه للمارة ولا ينتبه من حوله.. كان -أصلاً- قد نزل هذه المدينة منذ أسابيع نازحاً من الفقر وقلة الشغل في مسقط رأسه قادماً للعمل والاستقرار في المدينة المعروفة بالسخاء والكرم وحسن المعاملة للغرباء وبساتينها الزاهرة، كما قيل له قبل وصوله للبلدة واِطمأن له من جدثٍ بعيد.. مرّ بالميدان حاملاً فو كتفه ” بالةَ ” رملٍ وعجين السمنت خشبها ملون كباستين المدينة، رمقوه بسهام عيون أقطع من السيوف الحادة، ضحكوا، أشاروا اليه هازئين، صاح أحدهم كأنه عثر على كنزٍ من كنوز على بابا: بالة.. بالة.. لم ينتبه الرجل في المرة الأولى. مضى في طريقه هائماً دون أن يفتر حماسه.

3

كانوا على أملٍ أنْ يمرّ بالميدان مرة أخرى، تحقق الأمل وتنهد الحظ في استجابة ٍ.. مرّ للمرة الثانية، رأوه قادماً والبالة على كتفه تهتز في دورانٍ منتظم، انتبه هذه المرة عندما سمع صياحاً عالياً قادماً نحوه، وقف ثمّ التفت الي حيث تجلس الشلة، نظر إليهم متعجباً، رأهم يصيحون ويشيرون اليه ضاحكين في عتهٍ: بالة.. بالة.. بالة.. انصبت عليه لعنة الشلة من حيث لا يدري. وقف محتاراً يحملق إلى وجوه الشلة، أشاحوا وجوههم، استدار وخطى بخطوات ٍ متسارعةٍ في الأزقة الموصلة إلى حيث يقيم، مضى في طريقه مُتعباً حائراً دون أنْ يفهم معنى العبث وكاد صراخ الشلة أن يجمع الناس عليه لولا فراره. عاد لاهث الأنفاس كأنه خارجٌ من سباق المسافات الطويلة في العدو وأشباح الشلة ماثلة أمام عينيه.

4

ساعات قليلة وقد انتشر الخبر والاسم في البلدة كالنار في الهشيم وأسرع من لمح البصر والبرق الخاطف.. بعد أيامٍ قليلة لاحقه اللقب حيث حلّ وظهر وبان، تحوّل الاسم ” بالة” إلى إعلانٍ ملوّنٍ ملصقاً بجدران أزقة وشوارع وميادين المدينة الفسيحة، ألبسوه اِسماً غير اسمه حتى كاد أن ينسى اسمه الحقيقي.. جرت في المدينة حكايات عن بالة وتوزعت بين ميدان وميدان وبيت وبيت وزقاق وزقاق، وغدا يشار اليه بسخرية إلا فيما ندر: بالة.. بالة.. نار باطنه تزداد لهباً وشكوكاً، تغيرت حياته ولا أحد يدري إن كان قد جُنّ أم تجنّن.. اعتاد على اللقب من خلال ثنايا الأحداث وتقلبها، لم يعد يعبأ ولا يتساءل عما فات وعما هو آتٍ. غدا صبوراً كيفما انصرفت به الصروف.. وسرعان ما غدا من دون عملٍ يعيش على كرم بعض الناس، يعيش كمتشردٍ متسولٍ في جاحمٍ متسعرٍ.. يمشي حافياً في الشوارع والأزقة، يسأل نفسه: هل يليق بي أنْ أمشي حافياً..  لا يعلم بأنّه أصبح حكايةً ونجماً من نجوم دراويش المدينة وسيتعجب من هذا المصير الذي انزلق إليه ومن شظايا الزمن التي تتطاير من حوله، سيسأل الزمن: كيف دنا ليله قبل أنْ يبدأ صباحه؟ سيتيقن أنّه لقيّ في هذه المدينة تعباً ونصباً ومرارةً. سيتحير في أمر الناس إنْ كانوا يبغون به ضرّاً؟! ثمّ تيقن بأنّه غدا خبيراً بالألاعيب الصبيانية التي تعشقها المدينة وتتماهى معها حباً وشغفا.

ميدان البلدية – بنغازي (الصورة: عن الشبكة)

5

تحسّب وتفكّر وتدبّر بعض أذكياء شباب المدينة خفيفي الدم وصانعي الدعابة أن يسجلوا بعضاٍ من أقواله بعد أن ذاع صيته وشاع في المدينة على أنّه رغم جنونه فله في قول الحكمة نصيب وهبهُ إياه زمانه المنحوس. له حكمة وتبصر مقرون بالمعرفة العرفانية، هكذا ظنّ الكثير وتعجب وبات هدفاً سخياً كلٌّ يرغب في التقرب له والحديث معه وكلّ يدعوه إلى الجلوس جانبهم على مقاعد المقهى وسط الميدان تحت الأشجار الضليلة يسجلون أقواله وينشرونها بين الناس للتندر بها وللتسلية واللهو العقيم.

6

مجنون ظريف بلحية سوداء مخضبة بالشيب الطفيف يجول بين الأسواق وميدان البلدية ينشر المسرات في قلوب الناس من كلامه العجيب خاصةً عندما يتعمد أن يتكلم بالعربية الفصحى.. انتشرت له حكم اِعترف بأنه قرأ مرة ًفي كتب الأقدمين أنّ: ” الأذن لا تسمع إلا ما ترغب في سماعه “..  عندها اِتفق الشبان على أن يسجلوا له شريطاً يحفظ أقواله وحكمته تخليداً له..

7

ساقوه يوماً ما إلى أحد البيوت وعندما خطى عتبة البيت غمغم بخفوت يشبه الهمس: الويل، الويل لجنون لم يأذن به الله ولا يخونه القول أو الفعل، لم ينتبه أحد، دخل رافع الرأس في كبرياء من يجامل الحمقى والسفهاء، اجلسوه على مقعدٍ وجلسوا من حوله. ابتسم مستسلماً، شعر بأنه يقتلع من جذوره للهزء به، كظم غيضه، تجلّد، هدأ باله، استكن، تحمسوا لإغداف الثناء عليه حتى يأمن لهم، رمقهم بنظرات طويلة، أحسّ أنّهم يتضاحكون في مستنقع التفاهة بعقولهم السخيمة، قال في نفسه: هل أنا مجنون حتى أخاف ممن يخاف من أقرانه ويرتعب…؟ شرعوا يسألوه وأجاب بسهولة ويسر بعد أن قال لهم: لكم الحق أن تسألوا بما تعتقدون أنّه لائقٌ ومؤدبٌ فأنتم حباكم الله بفطنة لا مثيل لها ولو شئتم لبعتم المطر قبل أن ينزل.

8

يسألونه لاعبين، يطالعهم بعينيه الضاحكتين، يحفزونه بدعاباتهم الساخرة، امتلأ صدره بالضيق والأسى، تجمّد وتجلّد، جاءوا اليه بسؤالٍ يحار الناس فيه، سأله أحدهم وقد أخذ نفساً عميقا من سيجارته وتأمل وجه ” بالة” بذكاء مهيب بنبرة سخرية هابطة: يا أُستاذ ” بالة ” ما رأيك في مسألة تُحيّر العقل والذهن؛ من سبق الآخر في الوجود البيضة أم الدجاجة؟ أجاب ” باله ” ذلك يعتمد على صيغة وتراكيب اللغة في السؤال والتقديم والتأخير! صاحوا جميعا ضاحكين: كيف: كيف يا فيلسوفنا الكبير، ابتسم وأجاب: إذا بدأت سؤالك على النحو ما الذي – وعيناه تطفحان بالسخرية – يسبق الآخر الدجاجة أم البيضة ؟، ففي هذه الحالة الدجاجة تسبق البيضة في الوجود، أما إذا بدأت سؤالك على النحو ما الذي يسبق الآخر البيضة أم الدجاجة، ففي هذه الحالة البيضة تسبق الدجاجة في الوجود! حبسوا أنفاسهم في حيرة من هذه الوليمة وظنوا أنّ لديهم الآن ما يلهون به أكثر.

9

خفت الدهشة لديهم وانهمرت الأسئلة عليه مع لعابٍ بلّل لحيته.. نزل صمتٌ ثقيل ثم نظر إليهم بنظرات شاردة وقال لهم بنبرة سخرية حاسمة: أخشى أن أقول لكم دون أنْ ينتابكم الغضب أنكم لا تعرفون كوعكم من بوعكم وتحسنون خلط عبّاسٍ بدباسٍ. تنهد وقال دون تردد: هل لديكم ما يثبت أنكم أهل دين وتقوى وورع ومؤمنين …؟ قال أحدهم: نحن نؤمن بالله وملائكته وأنبيائه وأولي الأمر.. نظر إليهم بفراسة غريبة، هازئاً، شديد الثقة بنفسه، أحسّ فجأة أنّه مطوق ببعض الجهلاء.

10

تذمر الرجل ووقف من مقعده وهمّ بالخروج، أوقفوه وقالوا: سؤال اخير؟ يبدو يا سي ” بالة” أنّ فيك شيء من الله ولله، سألوه باستهانة: فكيف يمكننا الوصول إلى الله يا عارفاً بالله، ابتلع الإهانة بصبر وفطنة؟ حدجهم بنظرة مبهمة غامضة وقال وقد راح يختار كلماته بعناية: نسيتم أنّ السعي إلى الله ليس هواية تفتح لك باباً من أبواب الجنة، تبسم أشار بيده إلى سقف الغرفة، نظر إلى حيث نظروا وأضاف بضحكة ذات نبرة متحدية: لا يمكنكم الوصول إلى الله حتى وإن وضعتم أمواسَ حلاقةٍ ” جليت” متصافةً أفقياً موساً فوق موسٍ في طبقات بعضها فوق بعضٍ من هنا، من على الأرض حتى أعالي السماء في علوها اللا متناهي فلن تصلوا إلى الله، مُحال، محال حتى وإنْ خادعتم انفسكم وغسلتم أوزاركم بالصلاة والصوم. 

11

بعد أن أصابهم الذهول نظروا اليه بنظراتهم الساخرة، وقد خرج باله والغيوم تتجمع وتتراكم مع جلجلة الريح، لفحه الهواء وقبل أن يختفي عنهم قال بثبات: سينهمر المطر ويغسل أدران أغصان الأشجار.. مضى لحاله عائداً مبتعداً لمكان اِقامته وهو يقول لنفسه: إنّهم حقاً مجانين، ما في ذلك من شكٍّ، ستصيرون سفات اجتثاث بين أقبر مجهولةٍ.

مقالات ذات علاقة

هرطقات ليبي معزول (4): الحاسوب في المكتبات المدرسية

مصطفى بديوي

المفكرة التاريخية: تأملات حول الولاء والهوية فكرا ومنهجا (2)

مفيدة محمد جبران

الإرهـاب الإلكتروني

خالد السحاتي

اترك تعليق