النقد

(أبْجَدِياتُ الجُرح) بين البُنيةِ والتفكيك

أ. رقية عبدالنبي البوسيفي

من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي
من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي

تقديم:

نالت القصيدة العمودية منذ بداياتها انتشاراً واسعاً بين الأجناس الأدبية، إذ كانت تمثل لسان العرب الناطق، وتاريخها المحفوظ، وتراثها المتوارث عبر الأجيال، والمنساب في شريان الزمن، الذي لازال يتدفق حياة وعطاءً، منذ القديم البعيد، والغائر التليد، وحتى هذا العصر.
بقيت القصيدة العمودية محتفظة بكيانها، قائمة بذاتها، بل توالدت منها عديد الأنماط الشعرية، التي تلاقحت من بنائيات النص الأول (العمودي)، وعلى شاكلة هذا النص البنائي شاد الشعراء نماذجهم، ولاشك أن الأديب الليبي كان له دورا في هذا المجال، نتاجاً وتتبعاً وخلقاً وإبداعاً.
والنص الذي بين أيدينا، نص جميل ورقيق للشاعرة الليبية الدكتورة كريمة بشيوة، ورغم قلة إنتاجها الشعري، إلاَّ أنها أثبتتْ أن الإنتاج الإبداعي لا يقاس بالكمية، بقدر ما يؤخذ في الاعتبار جودة النوع، بجزالة مفردته، وعمق معناه، وارتكازه على نمط مهماً جداً في البنائيات الحديثة وهو الغموض، الذي يستدعي الغوص في النص لا التجديف فوق أمواجه. وفي هذه القراءة أحاول التطرق لبعض جوانبه الفنية والموضوعية على النحو التالي:

أولاً: النص الشعري:

هذا النص الشعري أبدعته الشاعرة الدكتورة كريمة، ونشرته لأول مرة على صفحتها في الفيس بوك بتاريخ 20 أبريل 2020م، دون أن تجعل له عنواناً، بتوطئة قصيرة قالت فيها: (نصٌّ شعري أنشره بناءً على رغبة بعض الأصدقاء.. وألفُ شكرٍ وتقديرٍ لكلٍّ من: الأستاذ يونس الفنادي الناقد والأديب، والأستاذ الدكتور عبد المولى البغدادي الشاعر الكبير ومنارة الفكر والإحساس … ثم الشكر الجزيل أيضاً للشاعر عمر عبد الدايم سيد الدهشات.. لتفضلهم بقراءة القصيدة قبل نشرها، وكان فيما أبدوه من تشجيع ودعم معنوي ما دفعني لنشرها لعلي أستطيع أن أصنع لغة مشتركة بيني وبين القاريء الكريم.). وقد تركت لي الشاعرة حرية اختيار ووضع عنوان لهذه القصيدة النونية المكسورة، التي نظمتها على بحر البسيط، وجاءت في اثنين وعشرين بيتاً، فاخترتُ أن أسميها (أبجدياتُ الجُرح) بعد أن أذنت لي مبدعتها مشكورة على ثقتها في، وهذا نص القصيدة كاملاً:

سيهمدُ الصدرُ مِنْ نَزَفِي فيكــــــــــفيني
وأمسح الملح من عيـــــني ومن طيني
ويخرسُ الصوتُ لا حسٌّ ولا خـــــــبرُ
ويسكنُ النبضُ يأســـــاً في شراييني
تركتُ دربك يا مَنْ كُنتُ أحْسِــــــــــــــبُهُ
مَلاذَ رُوحِي مِنْ هَــمٍّ يُسَــــلِّينِي
أطيرُ شوقاً لِلُقْيَا خِلْتُهَا وَطَـــــــــــــــــــناً
أنَا المُعَذَّبُ فِي أرضِ المَـــــــــــــــــــــجَانِينِ
مَلاَحِمُ القبح تطوي جل ذاكــــــــــــرتي
فتــــستبــــين ملامح من تفــــــــــــــــــــــــــــانيني
أراهن الصبر توقاً نحو غـــــــــــــــــــــــايته
فيقصر الصبر عن عزمي ويكويني
وأوسع الدهر حباً لا يمـــــــــــــــــــــــــــــــــاثـله
سوى التعبد في محراب يضـــــــاهيني
وأكتب الحرف كي يزدان في رفــــــــه
وأرسم الفــــن كي أسمو بتكــــــــــــــــــــويني
نحتاً بإسمك ملء الشعر قافيـــــــــــــــتي
ونقش وجـــــد أراه نفـــــــــــــــــــــــــــــــــح تدويني
وبوح لحن إذا ناجيته شغـــــــــــــــــــــــــــــــــــــفاً
تراقص النـــــور من عزفي وتلـــــــحيني
واليوم أعزف عن لألاء متــــــــــــــــــــكأي
وأرفض الــــــــراح دناً خِلْتُ يرويـــــــــــــني
فلستُ من يرتضي الإذلال من عوز
ولا المهـــــــادن كي أحــظى بتمكــــــــــين
فهل حسبت انكساري في محبتـــــــــكم
دليل عجــــــــــز أو اختلت مــــــــــــــوازيني
قد سمتـني الجرح تلو الجرح لا هوناً
فهــــــــــان ما هنته أنت لتـــــــــــــــــــــــــــرديني
ياصاحبي الشهم مالي أبتغي عـــــــتباً
فتجــــــــعل اللوم جســــــــــــراً كي يواريني
اليوم أصبر عن بعد وحرمــــــــــــــــــــــــــــان
أراه أهون من قـــــرب سيــــــــــــــــــــــــــشقيني
تركت ودك لا زهداً ولا جـــــــــــــــــــــــــــــــنفاً
لكنني الحر أعلو فـــــــــــــــــــــــوق تكويني
إذا رغبت فكل الكـــــــــــــــــــــــــون ناصيتي
وإن زهــــــــــــــــــــــــــــــــــدت فلا وعداً يمنيني
عفت المزاج أنا المجــــــــــبول من قيم
رواســــــــــــــخ وضمير الصدق يطويني
ما لي وإعراضك القاسي ومر أسىً
أنساً بغـــــــــــــــــيري ومر الهجر تسقيني
أراك تأسرني شوــــــــــــــــــــــــــــقاً وتتركنـــي
أعاند الغـــــــــــــــــــــــربة الحيرى فتضنيني
فاهنأ بمن حولك الســـــــــــمار في وله
ودع طريقــــــــــــــــي فلي رب سيشفيني.

أ- عروضياً:
بعد التواصل الإلكتروني مع الشاعرة والاستئذان منها وموافقها مشكورة، قمتُ بتعديل ثلاث كلماتٍ ليستقيم الوزن ويزول الثقل، إن شاءت صاحبة النص وإن لم تشأ لها حرية التصرف في منتوجها وملكها الفكري، والكلمات هي:
أولاً: حذفتُ حرف الجر في وأضفتُ ألف النصب (في محراب)، فأصبحت محراباً.
ثانياً: (نحتاً باسمك) ، حوَّلتُ المصدر إلى تاء الفاعل لكي يتسنى حذف قطعة الوصل، ولأنها لا تتأتى لكلمة اسم فهمزتها وصل، والتغيير هو نحتْتُ (نحتُّ) باسمك ملء الشعر….، فاستقام الوزن وتناغم مع المعنى.
ثالثاً: قمتُ بتغيير الضمير (أنت) الذي يتكون عروضيا من وتد مفروق (/0/) إلي كلمة تتماشى مع الوزن الذي يتطلب أربع حركات وهي سببان خفيفان (/0/0)، ووضعتُ مكانها (ويحك)، فاستقام الوزن عروضياً.
هذا رأيي الذي يحمل الصواب وقد يحمل الخطأ ولكن هذا ما أخبرتني به أذني فالوزن سماعي تألفه الأذن أولاً.

ب – باحات النص:
نقشت الشاعرة حروف معزوفتها، أوتاراً من الوجع المعتق عبر السنين؛ الذي توغل في ثنايا النفس، وسكن دهاليز الذاكرة، فكانت مخزناً مملوءاً مرارةً، مكتظاً ألماً، لا أشكُ أن هذا الوجع لازال مستمراً، تئن من وطأته الزفرات الحارقة، التي لم تزل تتوعدها بالهمدان والسكون، والذي يبدو أنه لا وجود له.
وتأتي الأفعال المضارعة لتؤيد الفكرة. فالقصيدة، استعانت بالعديد من هذه الأفعال (سيهمد..يكفيني .. أمسح.. يخرس.. يسكن..أحسبه ..يسليني.. تطوي.. تستبين.. أراهن .. يقصر.. يكويني.. أوسع .. يماثله.. يضاهيني.. أكتب.. يزدان.. أرسم ..أسمو.. أراه أرفض.. يرويني.. يرتضي..احظى .. ترديني..تجعل.. يواريني..تسقيني.. أراه يشقيني.. أعلو.. يمنيني .. تطويني.. تسقيني.. أراك.. تأسرني.. تتركني .. أعاند.. تضنيني.. يشفيني) وتبرز فاعلية المضارع في القصيدة من تمددها بين زمنين فمثلًا:
(أطير شوقاً للُقيا خِلتُهَا وطناً أنا المعذبُ في أرضِ المجانين)
فالفعل هنا تراجع لياخذ من الماضوية فاعليتها تارةً، وحفاظه على حقه الزمني تارة أخرى ، مثلاً البيت:
(اليوم أصبرُ عن بُعْدٍ وحرمان أراه أهون من قُـربٍ سيشقيني)
كما أن للمضارع طاقة الحركة والاستمرار، التي تزيح النص لأبعاد وفضاءات قد لا يقصدها منتج النص.

إنَّ أول ما يقابلنا في مفتتح القصيدة هو حرف الاستقبال “س” وتأويل تقديمه يعود لأمرين؛ ربما يكون أحدهما أنَّ النصَّ مقتطعٌ من قصيدةٍ، يعني أن النص ليس مبدوءاً بالكلمة “سيهمد”، لماذا؟ لأن سيهمد توحي بوجود أحداث قبلها، فكانت (سيهمد) رداً عليها. والثاني أن القصيدة فعلا بدأت ب (سيهمد)، والتقدير هنا أن النفس الشاعرة ضاقت درعا بآلامها؛ فبدأت بأهم مؤثر فيها وهو الألم؛ لتهمده وتخمد ناره دون مقدمات، وشروح للأسباب، إذ أن هذه الشروح والآهات ستذكر لاحقاً في النصِّ.
ويمكن أن ترشح هذه القصيدة المسندة للأنا المتعبة، قصيدة خطاب باتجاه مكونات العقل الباطن، وما ناء بحمله من شجونٍ والآم، وهي تتجه بهذا إلى السوريالية في مكوناتها النقية، التي تنسكب من أعماق الذات، التي سكنت الألم وسكنها واستطاب مكوثها.

ثانياً: النواحي الفنية:

حفل النص بأزياء اللغة الناصعة، مبتعداً عن اللغة التلقائية البسيطة؛ لأنه نص توغل وسفر باتجاه الروح، وهنا يكون للغة دورها الفعّال في ترفيله بمفردات تمكنه من سفره، ويكون للبلاغةأيضاً دورها في نقش الصورة. ويمكن تحديد بلاغة لغة النص ومفرداته كالتالي:
أولاً: على سبيل المثال: الجناس بين (ملامح) و(ملاحم). والطباق بين (عتبا) و(اللوم)، و(رغبت) و(زهدت)، و(تأسرني) و(تتركني).
ثانياً: استعانت القصيدة باستحضار الرمز، في لفظة “الملح” للدلالة على سوء المذاق. والاستعارة في يخرس الصوت، والتجسيد في أراهن الصبر.
ثالثاً : عن طريق تراسل الحواس وقيام بعضها بدور بعض؛ لخلق صور مفعمة بالحسية قامت مبدعة النص بتنشيط هذه الخاصية البلاغية؛ لبناء صورة جديدة، أول ظهور لها في البيت:
(وبوح لحنٍ إذا ناجيته شغفاً تراقص النورُ من عزفي وتلحيني)

فبوح اللحن صورة نحسها بعضو السمع “الأذن”، ثم تنتقل الصورة إلى حاسة أخرى وهي النطق أو الهمس في ذات الصورة (ناجيته شغفاً)، وتدار الصورة لتقلب مرة أخرى إلى حاسة البصر، في قولها (تراقص النور) من عزفي .. فالنور يشاهد بالعين، أما المعزوفات فهي ما تسمع بالأذن.

ثالثاً: الناحية الموضوعية:

تمثل القصيدة صراعاً بين النفس والنفس، وحواراً يُدار في فلك الذات للذات، وسجالاً تسجله الأنا مع الأنتَ التي هي الأنا، خليطٌ في عمق التكوين الميتافيزيقي للتركيبة الإنسانية بعمومها، لذا جاءت الأبيات على مرتكزات متفاوتة من التحدي والتشظي، من الضعف والقوة، من الرجاء واليأس، ولكن لاشك أن الغربة بائنة بينونة البدر في منتصف الشهر، واضحة وضوح الشمس في كبد السماء،ولا أدلّ من ذلك البيت:
(أطيرُ شوقاً للقيا خِلْتُهَا وَطناً أنا المُعَذَّبُ في أرضِ المجانينِ)
فالهجرة الفكرية والنفسية، تجعل المبدع في منطقة ليس له فيها مؤنس، إذاً هو عاقل اُبتلي في أرضٍ يقطنها المجانين، الصورة بلاغية وليست تمثيلية، فالواقع أنهم ليسوا مجانيناً، ولكن الصورة توضح حجم الهوة بين المبدع وبيئته المحيطة به.
كما أن المبدع لازال مالكاً لأسلحة خالدة سارية المفعول وهي تتمثل في: (أُوسع الدهر حباً) و(أكتب الحرف) و(أرسم الفن)، وكأننا نعود ارتداداً لفنون أبينا أرسطو.
وبالإضافة إلى كل ذلك فإن القصيدة تحط بنا على عتبات القوة والإرادة، التي قابلتنا منذ فترة زمنية طويلة، على باحات معلقة عمرو بن كلثوم التي مثلت الرغبة والعزة والمقدرة والبطش في البيت:
(إذا رغبت فكل الكون ناصيتي وإن زهدت فلا وعداً يمنيني)
وكأني ألوذُ بتصريحات شاعر العرب عمرو بن كلثوم الذي قال:
(وإنا التاركون إذا سخطنا وإنا الآخذون إذا رضينا)
وختاماً فإنه رغم التماسك والنبرة القوية، فلا يمكن إخفاء الحزن الذي ناسَ ظهورا واختباءًا، من مفرداته التي حفل وازدان بها النص، وهي: (النزف، يأسا، المعذب، الصبر، الإذلال، انكساري، عجز، هوناً، الجرح، اللوم، بُعدٍ، حرمان، مُرّ أسى، مُرّ الهجر).

رابعاً: الخاتمة:

بعد رحلة بوحٍ وفكرٍ، وأنين وهجر، رحلة في سفائن الروح وعلى عتبات الإحساس الصادق، أبحرت بنا هذه القطعة عبرها بحرها البسيط، وبين شطري العمودي طاب لها المكوث، في حفظ من حرية التفعيلة وتباين عدددها، وعناية من انفلات البيت، وانضباطٍ بسطوة القافية النونية ورويها ووصلها، وصل الإبحار إلى آخر بيت مودعين القصيدة التي تميزت بوحدة الموضوع، وخطاب الروح بأصوات وأزمنة ونبرات مختلفة لإيصال دفقات المبدعة إلى المتلقي، وقد أجادت ونجحت بهذه الأساليب، فكانت قصيدة (أبجدياتُ الجرح) للشاعرة الدكتورة كريمة بشيوه كائناً حياً انسكب فينا وانصهر مع مكوناتنا الحسية والفكرية معاً.

مقالات ذات علاقة

هل لدينا نقاد…؟

المشرف العام

دراسة لبعض جماليات القصة القصيرة.. قصة الكاغط محمد النعاس أنموذجا [1]

عبدالحكيم المالكي

المحيطُ لا ينتظرُ مرتين

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق