على وسادةِ الموجِ وضعتُ رأسي
سألتُ المحيطَ أنْ يكونَ سفينتي
أغمضتُ عينيّ كي أبحرَ
وعندما أفقتُ
وجدتُ المحيطَ لم يبرحْ مكانَه
أتخافُ الإِبحَارُ؟
لم يقلْ المحيطُ شيئاً
أغمضتُ عينيّ ثانيةً
وعندما أفقتُ
لم أجد سوى آثارَ الموجِ
كان المحيطُ قد رحل…
نص قصير يتكون من إحدى عشر سطراً يحكي قصة حوارية بين الشاعر سعدون السويح وأحد عناصر الطبيعة. فقد اختار شاعرنا أن يتفاعل مع “المحيط” ذاك الفضاء المائي الشاسع الزاخر بالكنوز المائية الثمينة والمناظر الخلابة والزرقة الجميلة والموسيقى والأمواج المتراقصة، المتفاوتة في سكونها واضطرابها وهيجانها، والثرية بصور التاريخ الممثلة في السفن والمراكب والبحارة والقراصنة والمعارك البحرية والرحلات الاستكشافية، ليحاوره بأسلوب تتناغم فيه البلاغة مع الصور الخيالية المرسومة بعناية فائقة، تجسدها معاني ودلالات المحيط الذي يرفض الانتظار لأكثر من مرة كما يشير إليه عنوان النص. ونلاحظ أن الشاعر قد تميز هنا بمناجاة “المحيط” بدل “البحر” وبهذا فهو يخالف ما تعودنا أن نطالعه في نصوصنا الشعرية الليبية ذلك لأن ليبيا تطل جغرافياً على البحر المتوسط شمالاً ولا يوجد أي محيط مائي على حدودها وبالتالي فإن هذا الإختيار يبين تأثر الشاعر بجغرافية المكان وخصائصه الطبيعية، وهو مدينة “نيويورك” الأمريكية التي ولد فيها هذا النص بتاريخ 2002/5/8م .
(المحيط لا ينتظر مرتين)
بكل شفافية يبرز هذا العنوان بشكل واضح ومباشر غرض النص ومعناه. فالعنوان المركب لغوياً من أربعة كلمات تتنوع بين الاسم والحرف والفعل، يؤكد في مجمله النفي القاطع للإنتظار لأكثر من مرة، ويحمل معنى النص بشكل كامل ولا يبقى للأسطر التالية سوى سرد الحكاية التي يستهلها الشاعر بحرف الجر في سطره الأول الذي يلمح فيه بتعبير بلاغي مكثف إلى استراحة هادئة ربما اقتصرت على التأمل أو اتسعت لتغرق في نوم وأحلام.
(على وسادة الموج وضعت رأسي)
هكذا يخبرنا الشاعر بصوته أنه اتخذ من أمواج المحيط وسادة وضعها تحت رأسه ليخلد للراحة والبدء في استرسال الحديث وفتح قناة الاتصال مع المحيط. وهو لم يشأ أن يجعل مدخل حواره مع المحيط وصفاً أو تعليقاً أو حكايةً، بل اختار أن يبدأ الحوار بالسؤال، وهذا إيحاء إلى أن الشاعر يتفاعل في داخله مع عقله وأفكاره ساعة استلقاءه على مخدة الموج سابحاً في تأملاته الفلسفية التي حاول التعبير عنها من خلال صياغة وإطلاق تساؤلاته التي تعكس حالة القلق والبحث عن ردود تبعث الاطمئنان في أعماقه المضطربة. ويوجه الشاعر سؤاله المفاجيء للمحيط حين يخاطبه في هدوء طالباً منه بكل استغراب أن يكون سفينته، وهو طلب ينتمي إلى عالم اللامعقول، فهل يتأتى أو يمكن للمحيط أن يكون ذاته وفي نفس الوقت السفينة التي تركض على ظهره وتشق عبابه إلى محطات شتى قاصية ودانية في آن واحد؟
(سألت المحيط أن يكون سفينتي)
ولو تأملنا سؤال الشاعر لوجدناه سؤالاً بسيطاً في كلماته ومظهره، ولكنه عميق في أبعاده ودلالاته الفلسفية والفكرية، يعكس حالة تفاعل الشاعر مع المكان، ويبين أنه سافر بعيداً في رحلة تأمله للمحيط، وعاد إلينا محملاً بهذا السؤال الفلسفي المحير. كما نراه لا يتوقف عند ذاك الحد بل يواصل شاعرنا سرد حكايته مع المحيط لنكتشف أنه غاص فعلاً في نسيج أو حلم روايته الجميلة، وأفرد جناحيه للطيران في سماوات بعيدة، وأغمض عينيه استعداداً للإبحار على ظهر المحيط، حتى تفاجىء حين أفاق من حلمه أن المحيط لازال باقياً في مكانه ومتشبتاً بموقعه الجغرافي لم يتركه أو يبتعد عنه.
(أغمضت عينيّ كي أبحر
وعندما أفقتُ
وجدت المحيط لم يبرح مكانه)
فهل كان لابد على المحيط أن يستجيب لأحلام الشاعر؟ ويتجاوز إرادة الخالق ويخترق نواميس الكون ويتحدي الطبيعة ليكون اثنين في واحد، أي أن يكون مركباً وماءً معاً؟ جماداً صلباً وسائلاً رقراقاً؟ وحتى لو أنه رغب في ذلك فهل يستطيع أن يحقق رغبة الشاعر اللاطبيعية؟
إن سؤال الشاعر كما أسلفت بدا بسيطاً ولكنه احتوى تساؤلات عديدة لم تنتهي أو تتوقف عند حد معين، وهذا ما يجعل النص يتفاعل في المتلقي باستفزازه أو إثارته وشده إلى عالمه الخيالي الواسع. إن ما يميز تلك التساؤلات أنها تفتح الأفق أمامنا لندير محركات عقولنا ونزرع خيالاتنا الخصبة لتوالد المزيد من الأسئلة التي تشكل الصورة الجمالية للنص، حيث أنه يجعلنا نتوحد فيه ومعه بنسج مشاكسات لذيذة للطبيعة لا نعبأ فيها بأبواب الحيرة والاندهاش التي تفتحها أمامنا ولا معقولية ومنطق الأشياء. فمثلاً لماذا لا يحملنا المحيط على أمواجه ونسائمه بدل المراكب والسفن والقوارب والبواخر؟ ولماذا لا تكون مياهه عذبة لذيذة تروي ظمآنا ساعة العطش؟ ولماذا لا تنشد نوارسه أغنيات الفرح والمسرة لحظة لقيانا؟ وغيرها كثير مما قد يثار من أسئلة مختلفة ومتباينة تشاكس المحيط وتنشده أن يكون ما ليس بمقدروه أن يكونه!
أما شاعرنا فما كان عساه أن يفعل بعد أن أفاق ووجد المحيط باقياً لا يبرح محله، سوى أن يرمي إليه بسؤال مشاكس آخر قائلاً:
(أتخاف الإبحار؟)
سؤال يحمل الدهشة والاستفزاز والمفاجأة الجميلة ولا يخلو من الاستغراب والاستنكار، غايته استنطاق الطبيعة في صورة المحيط والعقل في هيئة الإنسان. ربما لم يتوقع المحيط أن يوجه إليه سؤال بمثل هذه الغرابة يجعله صامتاً ومرتبكاً في كيفية الرد عليه؟ فكيف يجيب وهو المكان الذي يتعلم فيه عشاق مياه البحر والسباحون والغواصون ويتدربون على فنون العوم والسباحة وامتطاء المراكب والسفن والبواخر؟ فهل تخشى الحرائق نيرانها أو السيول والفيضانات مياهها مثلاً؟
وبعد أن لفته الحيرة واختار المحيط أن يلوذ بالصمت ولم يحرك فيه سؤال الشاعر أي رد فعل، عاد الشاعر وأغمض عينيه ثانيةً بعد أن يئس من استنطاق المحيط والحصول منه على إجابة ترضي غرور أحلامه وتحرره من سلطة تساؤلاته وفلسفته.
(لم يقل المحيط شيئاً
أغمضتُ عينيّ ثانيةً)
ولكن المفاجأة أنه عندما أفاق شاعرنا هذه المرة من نومه أو أحلام يقظته وفتح عينيه ليرى ما حوله تفاجأ بأنه لا وجود لذاك المحيط الذي كان يمطره بالأسئلة المشاكسة. لقد تركه ورحل.
(وعندما أفقتُ
لم أجد سوى آثار الموج
كان المحيط قد رحل)
من خلال النص نجد أن الحوار كان من طرف واحد فقط حيث ظل الشاعر ينثر أسئلته التي تعبر عن وجدانه وعزف أنغام مونولوجه الداخلي بينما ظل المحيط طوال الحوارية صامتاً لا ينطق ولا يرد ولا يتكلم بل أصر على التعبير بالفعل وليس القول. وكان الفعل مفاجأة للشاعر مثلما هو مفاجأة للقاريء في نفس الوقت حتى وإن بدت غير طبيعية أو معقولة. فالفعل الذي مارسه المحيط يندرج في خانة اللامعقول أو اللاطبيعي، فكيف يمكن للمحيطات أو البحار أن ترحل وتغادر شواطئها حاملة معها أمواجها وتاركة مراكبها وربابنتها ومسافريها؟
إن النص يبرز خيالية الشاعر وقدرته على تأسيس صورة شعرية تبنى على الحوار الوجداني والعقلاني ولا تخلو من مفاجأة القاريء بشكل جميل. كما نجد أن هدف النص قد برز مبكراً وعبر عنه عنوانه وما بقي من هواجس أو أسرار احتفظ بها الشاعر لنفسه. لقد استطاع الشاعر أن ينقل إلى القاريء شجونه ويثيره ويشركه معه في همومه وتساؤلاته الفلسفية العميقة التي ظهرت من خلال لغته البسيطة وجمله القصيرة ووضوح الصورة التعبيرية التي جاءت خالية من أي غموض أو رمزية تتجاوز حدود الممكن.
من كتاب (النص الشعري عند سعدون السويح) للكاتب يونس شعبان الفنادي، دار الرواد للنشر، طرابلس، 2013