النقد

هل لدينا نقاد…؟

خالد سليمان كشلاف .. ليلى عبدالله  المثناني.

يرى البعض أن النقد الأدبي الراهن مقصر ومتخلف، خاصة في- بعض- البلاد العربية.. وبناءً عليه..

– هل نستطيع القول أنه يوجد لدينا نقاد يتمتعون بقدر من الإخلاص للثقافة، وبقدر من الوعي؟

– هل الموهبة شرط ضروري للناقد، أم أن الثقافة وحدها تكفي،

– وهل ينبغي على الناقد أن يُبعد نفسه عن السياسة؟

تساؤلات كهذه، وأخرى كثيرة تبحث لها عن جواب.

الناقد/ حسين المزداوي

الإجابة ستأخذ نوعاً من التبصر لأن النقد مفهوم واسع.. القراءة الاستحْسانية لنص ما هي نقد، قد يكون السؤال: هل لدينا مدارس نقدية أم لا؟ أو يكون: لماذا لم ينتعش النقد عندنا؟.

للإجابة أيضا على هذا السؤال مفهوم النقد أو روح النقد يجب أن تنمو منذ الصغر وأن تتلبسه وتصبح جزءاً من شخصيته، نحن مجتمع أبوي.. للطفل أن ينصاع لا أن يناقش.. له أن يتلقى لا أن يحاجج وإلا لفقد هذا المجتمع (الأبوي) أهم ركائزه ثم إن مناهج التعليم مناهج (حشوية) تعتمد على التلقين والحشو لا تعطي مفاتيحاً للفهم.. فهناك من يفاخر بأنه يحفظ قصيدة فلان أو معلقته أو ديوان (المتنبي) عن ظهر قلب، الآن الأشرطة والأقراص الممغنطة هي من تقوم بذلك.. للإنسان وضع الخرائط.. وله التبصر.. النقاش حتى على مستوى العمل غير مطلوب على الموظف أن يطيع وينفذ، أصبح عندنا المواطن (التنفيذي) إذا جاز الوصف وحتى هذا التنفيذ هو (نظري) في أغلب الأحيان.. المردود هزيل.. مشكلة النقد تكمن هنا.. إضافة إلى عوامل أخرى أهمها وجود حياة ثقافية (حياة متكاملة) وليست جزر.. فتح قنوات ومعابر بين هذه الجزر هي التي تخلق الحياة الثقافية.. قد نقول نحن عندنا شعراء.. ونقول عندنا قصاصون.. ونقول عندنا فنانون.. ولكن ليس لدينا حياة ثقافية التي يخرج منها الناقد.. والنقد لا يخرج إلا في حياة مرتبة مستقرة.. لا يوجد عندنا استقرار.. كل يوم بفكرة قبل أن تنضج الفكرة السابقة كل يوم بمسمي قبل أن يعرف المسمي السابق، الترحال هذا على كافة مستوياته أكبر الفيروسات لموت النقد والناقد.

أنا لا أدعي – ويصدق- أنني ناقد وهذا ليس من باب التواضع المصطنع وإنما لتثبيت حقيقة، وبالتالي لا أستطيع أن احكم على الموضوع بدقة. أرى أن هناك عدة شروط لحياة الناقد.. للناقد أن يتمكن من أدواته النقدية وأن يلم بها. لأن النقد معرفة وتبصر واستشراف أيضا.

بالتأكيد أن النقد ليس مجرد المعرفة والتمكن فقط، النقد فن معرفة من أين تؤكل الكتف؟ النص بعد أن يكتبه صاحبه يكون أمام الناقد كالشاه الذبيحة تحتاج إلى سلخ وإلى تقطيع ومعرفة مفاصلها وإلا فإن مجرد أن ينهال عليها أحد ما بساطور أفكاره.. خبط عشواء لن يصل بها إلى ما المبتغي وإلى المرجو… سيسيء إلى هذه (الذبيحة) ولن يقدمها التقديم اللائق بها.. فإن فهمت أن الموهبة بمعنى فن التعامل مع النص المنقود فهذا أمر بديهي.. وتتعدد وتتباين المواهب والإمكانيات في هذا المجال.

الناقد شخصية يفترض أنها متحررة من كثير من العيوب وأهمها (عيب القمع) قد يخرج شاعر من وسط قمعي.. أي بمعنى قد يتبلور هذا القمع في شكل مبدع شاعر أو فنان أو غيره..

الناقد عنده من الشخصية السوية ما يكفي لأن يعمل الفكر.. وأن يستخدم الأدوات وأن يناور مع النص ويقلبه على وجوهه.. وبالتالي فهو شخصية متحررة من (التابوت) والممانيع –إذا جاز هذا الجمع- أكثر منها موهوبة. الموهبة صفة أكثر التصاقا بالإبداع.. وبالخام.. عملية النقد إلى حد ما عملية (تصنيعية لمادة خام) وبالتالي دور الموهبة محدود فيها.

هل نستطيع أن نعرف أولا معنى السياسة، أو نتفق على هذا المفهوم قبل أن نتجادل حوله؟ (فولتير) يقول: إذا أردت أن تتحدث معي فعليك أن تحدد مصطلحاتك.. فينبغي أن نقترب قليلاً من بعضنا. لأن السؤال نفسه يشي بأننا لسنا قريبين في تحديد هذا المفهوم. السياسة بتعبير بسيط ملح الحياة تتسرب لكل الأشياء بنسبها المدروسة.. وتأخذ صوراً شتى وتتداخل مع مفهوم الإدارة ومع مفهوم الثقافة بل يحتويها الأخير.. هل لنا أن نتصور إنساناً منزوع أحد مركباته الأساسية أو عناصره المكونة له؟ هل نستطيع أن نتصور إنساناً مثلاً بدون عظام.. أو أن عظامه تخرج عن سياقاتها وتأخذ دور العين أو الشم أو الدم..؟ لا يمكن.. أما إذا كانت المسألة تلك (البلطجة السياسية) وحشر الأنف السياسي فيما لا يعني السياسة ولا يعني الثقافة بل يسئ إليهما معاً.. فلنا أن نترفع عن الإجابة.

السياسة والثقافة لا تعارض بينهما ولكن النظرة القاصرة أحياناً تخلق هذا التناقض.. للناقد دور.. وللسياسي دور وخلط الأدوار يريك الحياة ويريك المفاهيم ويؤدي إلى التشاحن والعداوة غير المبررة وغير المنطقية.. وعلى السياسي أن يكون مثقفاً واعياً يدرك وظيفة الناقد والمثقف والفنان الحقيقية، ولا ينظر إليه على أنه مجرد (ديكور) للدولة أو نادل في مقهى السياسة يلبي الرغبات الآنية.. فالناقد يشتغل (بمشرط) يشرح.. والتشريح لبتر العلل الفنية والاجتماعية.. وبالتالي سيدخل مناطق أحياناً يرى السياسي (بحكم قوته المادية والأدواتية) أنها في حمى عرينه وهنا يحدث سوء الفهم.. أنا لا أرى أن هناك تعارضاً بينهما، هناك سوء فهم يجب أن يزال.. أما أن يبعد الناقد نفسه عن (السياسة) بمعنى أن يكون لدينا ناقد منزوع (القشدة السياسية) فهذا أمر صعب تصوره وإلا ما معنى هذا العدد الوفير من المفكرين الذين تعج بهم السجون العربية.

القاص/ إبراهيم بيوض

يوجد لدينا الكثير من الأسماء والقدرات في مجال النقد، ولا نستطيع أن نحصرها في هذه العجالة لكن إذا كان مقياس ازدهار وتطور الحركة النقدية في الجماهيرية قياساً بحركة الأدب ككل هو المؤشر فإن حركة النقد في الجماهيرية راقية قياساً بالكثير من البلدان العربية وقياساً بحركة الأدب الليبي.

ونشير إلى أهم أسماء الحركة النقدية دون حصرهم مثل (محمد أحمد الزوي- إدريس المسماري- كامل عراب- منصور أبو شناف- المرحوم سليمان كشلاف- إبراهيم حميدان).

أريد أن أدلل فقط على أن الحركة النقدية موجودة، تظل هناك إشكاليات أخرى تتعلق بمساهمة النقاد الليبيين في حركة النقد العربي ككل هذا من ناحية وتظل هناك حجم الإسهامات والمؤلفات في مجال النقد من ناحية أخرى وهذه تعد أمور حادثة أو عارضة لكن باختصار هناك نقاد ليبيون بمستو راقٍ.

يظل هناك أسس وقواعد لكل مجال من مجالات الفكر والأدب والإبداع أهمها الثقافة الواسعة والإطلاع. ينبغي توفر جملة من الأدوات لكل ناقد لعل مسألة ميوله وحبه واهتمامه بالنقد واحدة من بين أدوات أخرى كاللغة والثقافة والإطلاع مثلاً.

كيف للسياسة أن تبعد نفسها عن حياة أو شؤون أو اهتمام أي فرد فما بالك بالناقد؟! إن الحد الفاصل بين ما هو أدبي محض أو اقتصادي محض أو سياسي.. غير موجود هو خط وهمي. إن السياسة ببساطة هي حياة الناس اليومية رغم أنفهم.

الكاتبة/ حواء القمودي

بمعنى ما، ليس لدينا ناقد يكون هاجسه وشغله ممارسة النقد للأعمال الأدبي، ويبدو في رأي المتواضع أن الناقد لا يتكون ولا يكون لديه الرؤية إلا باستمرار النقد أي باستمرار متابعة كل عمل أدبي والكتابة عنه، والكشف عن تجلياته. في بلادنا صارت ممارسة النقد بشكل عشوائي، فكل كاتب للشعر أو للقصة، أو لأي شكل أدبي يدخل إلى كتابة النقد، أو القراءة الانطباعية عن عمل ما صدر، قد يكون لصديق مثلاً (سليمان كشلاف، الأمين مازن) وقبل ذلك (أ. خليفة التليسي) أسماء هامة مارست النقد ولكنها لم تعول عليه ولم تجعله الشغل الشاغل لها، ولو حدث ذلك لكسبنا نقاداً مبدعين ولاستطاع كل واحد منهم أم هم مجتمعين أن يؤسسوا النظرية في النقد.

من شروط الناقد دقة الملاحظة القدرة على الانتباه لجماليات النص المقروء الثقافة هامة لكل من يمارس الشعر أم القصة والرواية أو النقد، والناقد يحتاج أكثر إلى الثقافة، فالنصوص الأدبية فخاخ منصوبة، وحقول ألغام وعلى الناقد أن يكتسب إلى جانب الذائقة (الموهبة) الثقافة، وإذا افتقد ذلك وقع في الفخ وانفجرت حوله الألغام.

أي سياسة، هل هي سياسة نظام بلدة، أم السياسة بشكل عام؟ يبدو أن انشغال الناقد بالسياسة سيبعده عن مفاتيح هامة لقراءة النص المقروء.. على الناقد أن يدخل أن يدخل لتفكيك النص وتحليله معززاً بمنهج ما، ولكن ليس بأيديولوجيا. وربما من خلال النص تتكشف سياسة ما، ولكن ليس من مهمة الناقد أن يقول أن الكاتب يقصد نظام كذا أو الرئيس كذا، من مهمته الكشف عن جوهر العمل عن رؤيته، إذا أمكن ذلك.

القاص/ عمر الككلي

أعتقد أن النقد هو أضعف جوانب الحركة الأدبية الليبية. ويمكن القول أنه لا توجد حركة نقدية في ليبيا. يوجد نقاد ليبيون لكنهم لا يشكلون حركة نقدية متنوعة، متفاعلة ومتطورة، فبضعة زهور لا تمثل ربيعاً.

الناقد الفاعل لابد له من توفر الجانبين الموهبة، بمعنى الحساسية والنباهة والذكاء، والثقافة بمعنى تمثل الأبعاد المعرفية وتملك ناحية المناهج النقدية بحيث أن ثقافته تشحن موهبته، وتطور موهبته قدراته المعرفية والمنهجية.

أنا من الذين يعتقدون أنه يكاد لا يوجد شيء، وفي مجال الإنسانيات بالذات، خارج السياسة، والهروب من السياسة ومحاولة نفيها هو في حد ذاته، موقف سياسي، سياسي بالمعنى العام، موقف من المجتمع ورؤية للتاريخ والعالم، وليس دعاية سياسية وتسييس مباشر للأشياء أو إقحام السياسة بأكثر معانيها مباشرة في كل شيء.

الناقد/ كامل عراب

يوجد لدينا نقاد، ونقاد مفكرون ومثقفون ثقافة حقيقية ولكنهم كسالى بكل أسف.. فإذا قيس الإنتاج النقدي بالإنتاج الإبداعي نجد أن الإنتاج النقدي “كمياً” متواضع ولا يبدل النقاد جهداً حقيقياً في متابعة الإنتاج الغزير المطروح للتداول على الرغم من أن ذلك يقع في أولويات واجباتهم الثقافية، وهذه الظاهرة قد لا أجد لها تفسيراً مع أنني اعتبر نفسي ناقداً ولكن ناقد (مقصر) إلى حد كبير، وتقصير الناقد في بذل الجهود الحقيقية الجادة والمثابرة ترك سلبيات كثيرة على المشهد الثقافي وترك الباب مفتوحاً أمام طفيليين يدّعون النقد فأساءوا إلى هذا الجنس الأدبي وجعلوا المبدعين يضجون من وجود نقد بهذه الضحالة وهذا الانحياز على حساب الموضوعية والنزاهة والتجرد في إصدار الأحكام وتدخلت رؤى عشوائية لا يحكمها منهج ولا تصدر عن معرفة حقيقية بإشكاليات النصوص وتكويناتها وبناها المعمارية.

لا أدري ماذا تعني بكلمة الموهبة؟ ربما يكون استخدام هذه المفردة وارداً ومعقولاً عند الحديث من المبدع.. القصاص.. الرواية.. المغني.. الممثل.. الخ…

لكن بالنسبة للناقد.. فالأمر يختلف.. النقد دراسة وعلم ومنهج وثقافة واستعداد شخصي من حيث القدرة على التذوق واكتشاف بواطن الجمال الخ..

ومع ذلك لابد من تكوين علمي وثقافي عميق وواسع قد يكون الاتجاه إلى النقد اختيارياً ولكنه اختيار لن يكون موفقاً إلا إذا غذته ثقافة واسعة.. النقد علم إلى جانب كونه إبداع نصي لكن العلم يأتي أولاً في جميع الأحوال.

تطرح إشكالية السياسة بصور متعددة وهناك جدل محتدم لا أعتقد أنه سيتوقف بسهولة بين ما هو السياسي وما هو الثقافي وهل يلتقيان الخ الخ.

أنا من جانبي هذه المسألة لا تحيرني كثيراً فأنا لا أنفر من السياسة متى كانت الضرورة تدعوا إلى ذلك كما أنني أرى أن السياسة تتسرب إلى حياتنا ولها انعكاسات علينا وعلى عموم حياتنا.. إذا كان المثقف مثلاً يقع فريسة لمؤسسة نشر واحدة تحتكر النشر وتنظر إلى إنتاجه باستخفاف فليس من الغريب في هذه الحالة أن نجد السياسة وقد وضعت إصبعها في صميم الشأن الثقافي إذا صادرت السلطة مقالة أو قصيدة أو نصاً أدبياً فهذه سياسة.

إذا حورب كاتب في رزقه وتعرض للملاحقة والمطاردة فهذه سياسة وهكذا.. السياسة ليست بعيدة عنها وبالتالي على المثقف أن يكون مسلحاً إلى جانب الثقافة وبثقافة سياسية أو فلنقل موقف سياسي ثم أن الأمور في هذا العصر تتداخل بشكل معقد، وليس من السهل الفصل بينها.

الناقد/ الصيد أبو ديب

أن ننفي بالقطع ذلك لا يجوز أو نقول أن هناك نقاد أيضاً فيه تحفظ فالمسألة تحتاج منّا إلى أن نسأل من هو الناقد؟ لدينا بعض النقاد بمفهوم حقيقي أو بمصطلح النقد والنقاد.

النقد موجود، تجده في المقالة، والخاطرة، وفي بعض الدراسات.. عيب هذه المقالات النقدية أنها تميل إلى المجاملة والتحية.. وبالتالي غاب النقد الحقيقي ومن ثم غاب الناقد الحقيقي.. لذلك من هنا أقول: لا أستطيع أن أنفي بالكامل أن ليس هناك نقاد. هناك ومضات تشكل شيئاً ما في الحركة النقدية، أي بمعنى أن هناك بعض النقاد مثل (الأستاذ خليفة التليسي- أمين مازن- سليمان كشلاف- بشير الهاشمي.. وهكذا) ولكن هؤلاء منهم من اقترب من الحركة النقدية كثيراً وبالتالي دخل في دائرة النقد ويمكننا أن نعتبرهم نقاداً ولكن هؤلاء لا أقول نتحفظ في أن نطلق عليهم صفة الناقد.. لأنهم يوزعون أنفسهم ما بين الكتابة اليومية وما بين النقد.. ما يعيب نقادنا أن ليس هناك منهجية وراء النقد بمعنى أنهم يمارسون النقد ممارسة شبه عفوية وشبه تسجيل خواطر اتجاه عمل أدبي أما أنهم نقاد كما يجب أن يكون فذلك ما أتحفظ عليه صراحة.

الناقد يحتاج إلى أكثر من شيء.

الموهبة بالدرجة الأولى.. ما معنى الموهبة عند الناقد؟ الموهبة هو أنه الذي يلقط الشيء، ويحس به، له القدرة على الملاحظة الدقيقة يلاحظ بشكل لا يمكن تتاح الفرصة للآخرين أن يلاحظوه أن يضع أصابعه على أشياء غير موجودة في ذهن الكاتب وهذه أنك تقف عليها تحتاج إلى موهبة كما هو الفنان التشكيلي ما لم تكن لديه موهبة رغم الأدوات التي بين يديه الألوان.. الفرشاة.. الورق.. وكل شيء يجعل الصورة تتحول إلى خطوط على الورق ما لم تكن لديه الموهبة في النقل لا يستطيع.. كذلك الناقد. لكن الموهبة وحدها لا تكفي.. الناقد بعد الموهبة لابد له من ثقافة عريضة.. قراءات واسعة.. لا يجب على الناقد أن يركض إلى نوع معين من الثقافة، يجب أن تمتد.. تكون عريضة بعرض الأفق بمعنى أن يكون واسع الإطلاع للعلوم المختلفة حتى يستطيع أن يطرح الشيء الكثير والكثير أيضاً القدرة على الصياغة.. يجب أن تكون إلى جانب الموهبة وإلى جانب الثقافة أدوات من بينها (اللغة، سلامة الأسلوب، التشويق) كي يستطيع أن يطرح نقده للقارئ.

الناقد كأي أديب أو كاتب.. مهما دفن أو أطر نفسه في فن من الفنون الأدبية لنقل أنه الشعر، أو القصة، الرواية، أو النقد لا يستطيع أن ينفك عن السياسة. البيئة التي يعيش فيها الناقد أو الأديب أو الشاعر أو الكاتب.. ليس بيئة اجتماعية فقط ولا بيئة اقتصادية ولا دينية ولا فكرية فقط أيضاً بيئة سياسية. لا يستطيع أن يعزل نفسه عما يجري على الساحة (المطحنة اليومية) يسمع الكثير.. يسمع الكلمة الاجتماعية والرأي الفكري ويسمع الرؤية السياسية. وبالتالي يأخذ ويعطي فهو لا يستغني عن السياسة. أنا أقول: هذا لا يعني أن الناقد يجب أن يكون سياسياً. هناك فرق ما بين أن يكون السؤال يدفعنا إلى أن نجعل أو نطلب من الناقد أن يكون سياسياً لا.. والناقد الذي يحتمي وراء سياسة معينة سيقطع جزء كبير من ثقافته، ومن فكره، بمعنى أنه يوصل توصيلاً غير كامل بمعنى لو قلنا إن هذا الشخص وراء أيدولوجية معينة مُسيّس تسييساً معيناً بعد ذلك سيصدر عن رؤية ضيقة بضيق هذا الاتجاه السياسي.

الشاعر/ رامز النويصري

لا يمكن هكذا وبكل سهولة نسف جهد بذل، أيّا كان الجهد.. لأنه وبالحقيقة حتى وإن غاب النقد كنقد (وأعني المنهج والتطبيق) فإن السؤال النقدي كان دائم الحضور، وبمتابعة بسيطة للحركة الأدبية في ليبيا، وبكل يسر حضور هذا النقدي، منذ مناقشة شاعر الوطن/ أحمد رفيق المهدوي، للـ(متجبرنون)، وحتى سؤال (الأستاذ/ خليفة محمد التليسي) الشهير: هل لدينا شعراء؟، والذي حاول فيه قراءة النتاج الشعري المقدم، أو المطروح في مرآة الشعر العربي المعاصر. وهكذا كان، وحتى هذا الوقت، مازال سؤال النقد مطروح، ودائم البحث في المنظمة الثقافية والأدبية.. ولكن أن نجد من يتصدى لهذا السؤال، هنا تكمن الغاية في وجود ناقد متخصص، يمتلك أدواته بحق، ويستطيع قراءة النص بها ومن خلالها، لذا فإن في ليبيا مازلنا نبحث عن الناقد.. وحتى وإن اطلع بمهام النقد فإن ذلك يأتي من باب التعامل مع النص أو ممارسة القراءة فيه إذ لا يمكن الأخذ بهذه المساهمات كدراسات أو موضوعيات نقدية للكثير من الأسباب في غياب المنهج الثابت أو الواضح، اللغة النقدية المحايدة، المصطلحات النقدية المساعدة، وغيرها.. ومع هذا فإن الكثير من الأقلام ساهمت في هذه الكتابة النقدية، ويمكن أن نقسم إلى قسمين.

إذ نرى أن بعض الكتّاب تصدى للكتب النقدية، من باب المسؤولية، أو من باب التجربة، والمواكبة ويمكننا أن نذكر منهم (خليفة التلسيس، الصادق النيهوم، سليمان كشلاف، أمين مازن، محمد الزوي، أحمد الفيتوري.. وغيرهم) وفي كتاباتهم تبدو الانطباعية واضحة أكثر، من حضور المنهجية وعادة ما يكون البحث في هذه الموضوعات عن الشاعر وقراءته في النص فيكون الشاعر هو الموضوعة في النص.

القسم الثاني، وهو يشمل من تصدى للكتابة من ذات التجربة كأن يتصدى شاعر للكتابة عن الشعر.. وهكذا وفي الحقيقة أن النتاج المطروح أثبت نجاعة هذه المساهمات، من قربها أكثر من مفاتيح النص، الإمساك بمواطن الإبهار فيه وهنا نذكر هذه المساهمات: سعيد الحروق، محمد الفقيه صالح، مفتاح العماري، سالم العوكلي، خليفة حسين مصطفى، وغيرهم.

وعلى فكرة فإن النقاد الكبار، وأصحاب النظريات الأدبي هم ممارسي للنص أكثر منهم نقاد، وهذا ما يمكن مشاهدته عامة فالشاعر أقرب لمرحلته من الناقد، الذي يمثل في مسيرة النص الراصد والقارئ، فأسماء مثل (إليوت، بودلير، أدنيس، الخال..) أسماء تسجل حضور نصها ونقدها وتنظيرها، واعتقد أن قربهم من النص وممارسته (شعر وقصة) مكنهم من القدرة على الغوص أكثر في النص من مجرد الاشتغال بالكتابة.

وحتى لا نضيع، فإنه يمكن اعتبار أن النقاد موجودون، وإن غاب دورهم لم يظهر بوضوح.

لن أطلق عليها (موهبة) بقدر ما هي قدرة على القراءة فالنقد يقوم بقراءة النص وتطبيق هذه القراءة، بمعنى إنه يتمكن من قراءة النص البحث في قراءته وهذا حقيقة لا يتوفر للكل مما يعني حضوره في شخص يكون هو الناقد.

وهذا يعني أنه للتمكن من هذه القراءة فإنه لابد من الاتكاء على قاعدة متينة وأساس قوي وهذه تدعمه الثقافة.. والثقافة بمعناها الحقيقي لا المزاجي فالوعي بالحركة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. لابد من معرفة الاتجاهات التي يسير فيها المجتمع، والتي تؤثر في النص في تواصل الشاعر مع محيطه أيضاً معرفة التقنيات اللازمة للنص (كاللغة، النحو، الأوزان، وغيرها) ضرورة للوقوف على مواطن النص.. وكأننا نقول بضرورة الإحاطة والشمول للناقد.

الحقيقة أنه لا يمكن الحديث عن أي علاقة دون وجود السياسة طرفاً في هذه العلاقة.. وهذا لا يعني أن تكون السياسة هي السلطة، إنها المطلق للإطار الذي يسير منظمة الحياة لمجموعة الأفراد، من خلال منظور أحادي، تمثله السلطة وهذا يمكن أن يقع على أي شكل كما كانت الكنيسة والإقطاعيون في أوروبا مثلاً أو الحاضرة العثمانية من خلال تدخلها في البلاد العربية.

والسياسة يتحدد دورها في عملية توجيه المجتمع وقيادته بمعنى أن المجتمع يتبع هذه القيادة دون ضرورة منه بإرجاع المشورة.. مما يخلق تيارات تطالب بالشرح وتيارات معارضة وتيارات تدعوا للإصلاح. والناقد بدوره يعي هذه الحركات ويتألف معها ناحية قراءة النص في هذا الخضم فالنص لا يستطيع التنصل من منبته لذا فإنه لن يكون بعيداً عن هذه اللعبة.. والناقد ينشط في حال كانت السياسة تعتمد فتح الحوار دون قيد وتعتمد العقل التأويلي فهذه يمكن من حرية أكبر للمناقشة والطرح، فالمنظومة الحياتية هي كل مكتمل لا نستطيع أن نخرج النص أو الناقد عنه وإلا فسد دورهما وكان لاشيء.

السياسة تقدم الكثير للناقد، وتفتح أمامه الكثير من العوالم والطرائق للكثير.. فالنقد يمكنه التنبؤ بأي تغير في المجتمع. لأن النقد لا يتعلق فقط بالنص بل بكامل ما يمت للحياة ويتعلق بها ويستدعي ضرورة وجود عقل تأويلي أو نقدي أو تنظيري.. وحال التمتع بقدر أكبر من حرية التعبير يمكن التمتع بقدر أكبر من النقد.

__________________

صحيفة “الناقد”.. مشروع تخرج مقدم بكلية الفنون والإعلام-قسم صحافة.

مقدم من الطالبين: الطالب/خالد سليمان كشلاف.. الطالبة/ليلى عبدالله  المثناني.

إشراف: د.قيس الياسري.

العام الجامعي 2001/2002

مقالات ذات علاقة

القصيدة المشهدية في شعر جمعة عبد العليم

المشرف العام

“شجرة القلائد” لمحمّد الأصفر: رواية بنفَس مغاربي

المشرف العام

رواية موشومة بالموروث النسائي الليبي

إنتصار بوراوي

اترك تعليق