لازالت الكتابةُ النسائية في ليبيا تسجلُ العديد من النجاحات وتضيفُ إلى المشهد الإبداعي جمالياتٍ نثريةً في مجال السرديات الأدبية المختلفة من خلال بروز صفوة من مبدعات ليبيات حققن حضوراً لافتاً وتميزاً مشهوداً، نلن به الإشادة والثناء والإعجاب، من بينهن الأديبة والروائية عائشة إبراهيم التي أصدرت روايتها الأولى (قصيل) سنة 2017 وروايتها الثانية (حرب الغزالة) سنة 2019 فتركت انطباعاً مبهراً حول مفردات لغتها الشعرية الرقيقة التي تتراقص كأنها معزوفات موسيقية آسرة للقلب والعقل معاً، وأسلوبها السردي الرشيق في بناء تركيباته الوصفية والتعبيرية، وانتقاء مواضيعها البكر التي لم يتناولها غيرها من قبل.
هذا اللقاء محاولةٌ للاقتراب من عوالم الروائية عائشة إبراهيم لكشف بعضٍ من بداياتها و… أفكارها، مع وافر الامتنان لردودها الكريمة حول هذه الأسئلة التي أرسلت إليها كالتالي:
س1) البواكير تشير إلى ولوجك عالم السرد من خلال كتابة القصة القصيرة .. وإن لم تنشري أية مجموعة قصصية .. ولكنكِ انتقلتِ سريعاً إلى الرواية … كيف كانت هذه النقلة والقفزة من الناحية الزمنية والموضوعية؟
حقيقة أنا لم أحسم موضوع نشر مجموعتي القصصية، رغم أنني ابتدرت كتابتها منذ سنوات، وتتضمن ما يربو على عشرين قصة، عنونتها بـ: (ورقة واحدة لا تكفي) وهو عنوان لإحدى قصص المجموعة، وفي كل مرة أضيف إليها قصة جديدة، أو أحذف منها قصة، وبالتالي تبدّل محتوى المجموعة عديد المرات الأمر الذي دعاني إلى تأجيل نشرها والالتفات إلى استكمال رواية (قصيل) وكنتُ قد أنجزت بضعة فصول منها، وبالتالي افتتحتُ مسيرة النشر عبر الرواية فيما ظلت المجموعة القصصية تستقبل قصصاً جديدة بين الوقت والآخر كان آخرها قصة (العيد) التي ضمنتها إياها خلال شهر يونيو الماضي.
س2) بطل روايتك الأولى (قصيل) اعتبره البعض شخصية سلبية .. اقتصر دوره على السرد والحكي فقط .. وظهر عاجزاً في ختام الرواية وعدم قدرته على وقف هدم المسجد العتيق وفضل أن يكون متفرجاً يتآسى على تاريخ بلدته يردم ويدفن.. بينما (هيرديس) بطلة روايتك الثانية (حرب الغزالة) كانت شخصية امرأة قوية انتصرت في المعارك الحربية لشعب الأكاكوس في المملكة الأسطورية الأمر الذي أسبغ عليها الكثير من التعظيم والتوقير حد القداسة والارتقاء بمكانة سامية رفيعة … كيف ترين هذا التباين بين الشخصيتين؟ وهل له أي مؤشر للانحياز لبنات جنسك؟
ليس هناك انحيازاً على الإطلاق، ولكن الطبيعة الانثربولوجية هي التي توجه مسار السرد في كلا الروايتين، فالعصر الذي عاشت فيه بطلات رواية حرب الغزالة كان العصر الذهبي للنساء، وهو العصر الأمومي الذي قام على سلطة الأمهات منذ عشرات الآلاف من الأعوام، فيُذكر أنه أتى على النساء حين من الدهر كن فيه السلطة العليا للمجتمع وتزعمن الحياة الأسرية والقبلية والدينية أيضاً، ووصل الأمر إلى حد تأليه المرأة وعبادتها كربّة للخصب والنماء. وبهذا كانت بطلات رواية (حرب الغزالة) محاربات وقائدات وملكات وسيدات مهابات، وهو ما اعتمدتُ عليه في بناء شخصية البطلة “هيريديس” التي امتلكت زمام الفعل والتأثير والقيادة، من خلال طبيعة ذلك العصر.
أما شخصية البطل في رواية (قصيل)، فهو وإن كان قد عاش في كنف سلطة العصر الذكوري، إلا أنه كان مقيدا بالسلطة الأحادية، والخوف من المجاهرة بالرأي، والخنوع للثقافة الجمعية، فأهالي قريته ابتدعوا لأنفسهم نظام حماية يبجل فضيلة الصمت والتبعية للسلطة الحاكمة كمعيار للتقوى والتعاضد، وقصيل وهو شاب يافع في مقتبل العمر لا يمكنه مقارعة السلطة الجمعية والدينية والسياسية التي اتفقت جميعها على ضرورة هدم الآثار القديمة، وبناء مسجد جديد مكانها، إن أكثر الرجال شجاعة لا يمكنه أن يتصدى وحيدا لهكذا قرار، فرضته المنظومة السلطوية.
س3) تمكنتِ بأدواتك السردية ولغتك السلسة من تصوير حدث ومشهد ذكوري صرف ضمن أحداث روايتك الأولى (قصيل) وهو مشهد الاحتفال بمناسبة المولد النبوي الشريف داخل الزاوية الصوفية في بني وليد، وهو حدث لا يحضره ولا يشهده إلا الذكور أطفالاً ورجالاً .. كيف استطعتِ الغوص في ثنايا الحدث ورصد تفاصيله بكل الدقة الممتعة والسرد الخلاب؟
صحيح أنه مجتمع ذكوري وأن البنات والنساء لا يمكنهن بحكم التقاليد حضور مثل هذه المناسبات، لكن الأمر لا يخلو من بعض التلصص لطفلة صغيرة مأسورة بالشغف والفضول، إضافة إلى حصيلتها المسموعة من الحكايات والأقاصيص التي يرويها الأب والأخوة، والتي تشكل في مجملها الوعي الذهني حيال الموضوع، ولا يبقى على الكاتبة إلاّ أن تلبسه الكساء الأخير من المعالجة والرؤية والعبارات التجميلية، وبشكل عام لا أتصور أن هنالك صعوبة في كتابة المرأة عن عوالم الرجل أو العكس، في حال توفر القراءة النفسية العميقة للجنس الآخر، وخير شاهد على ذلك رواية (النص الناقص) للروائية الليبية القديرة عائشة الأصفر، حيث تتحدث على لسان البطل “عامر” بكل مشاعره ونزواته وأنانيته وتفاعله مع محيطه الاجتماعي، حتى لا يساورك أدنى شك بأن الكاتب امرأة.
س4) الكتابة هي انعكاس لكل المناهل التي يستمد الكاتب منها لغته وأفكاره وأسلوبه … ما هي المناهل والمصادر التي منحتك كل هذه العذوبة اللغوية والأفكار الروائية حتى صار اسمك يتخلق ضمن قائمة الروائيات الليبيات؟ لمن يرجع الفضل في تكوينك الأدبي؟
يمكنني القول إنَّ اللغة هي ابنة الروح، تتخلق وتقتات من نبض القلب، ولأنها وعاء الفكر ومعراج الوصول إلى القارئ، فلن تكفيها تسعة أشهر لتخرج إلى الدنيا، فعمرها أثناء التخلق يشكل لاحقاً عمر امتدادها على السطور، لذلك أعُدّ اللغة جانبا شديد الخصوصية والحساسية، فهي لا ينطبق عليها ما قاله الجاحظ “إنَّ الأفكار ملقاة على الطريق، المهم كيف نتناولها”، اللغة لا نجدها ملقاة على الطريق، الأمر أصعب من ذلك بكثير، اللغة تتعتق على مراحل طويلة وقراءات مبكرة، أذكر سنين طفولتي كيف تفتحت مداركي على لغة القصص البديعة، كانت سلسلة ليديبرد للناشئة والأطفال، بعوالمها الممتعة وعباراتها الرشيقة، ثم مجلات سمير وسامر والأمل، ثم قصص الكبار من روائع الأدب العالمي لهمنغواي وماركيز وفيكتور هيغو وديستوفسكي، مرورا بأهرامات الرواية المصرية، نجيب محفوظ وطه حسين وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس، ومحطات أخرى مع جبران خليل جبران وغادة السمان ودواوين نزار قباني والسياب والشابي..، وبهذا تشكل مخزون المفردات، وأصبحت علاقتي باللغة علاقة صداقة، صداقة استثنائية وحميمة جداً، روّيت جذورها منذ الطفولة، وشذّبت أغصانها عند الصبا، وأحسبُ أنها أزهرت وأثمرت عند النضوج.
بالطبع لا يمكنني القول بأن صداقة اللغة وحدها كفيلة بإنتاج نص يثير اهتمام القارئ، هنا يأتي دور الفكر وهو أمر تحدده التجربة الذاتية وتنوع الخبرة والمشاهدات التي تتحول إلى مادة أولية في مخزن الذاكرة، إضافة إلى القدرة على قراءة الشخصيات وتحليل سلوكها نفسياً واجتماعياً، وأتصورُ أن حسن الحظ وضع في حياتي الكثير من المطبات شكلت في مجملها تجربة إنسانية قابلة للاستثمار الفكري، إضافة إلى جانب (الصنعة) أو الاهتمام بتشكيل تجربتي الخاصة في السرد وتطويرها بمتابعة ما يطرح من أعمال في مجال النقد والسرديات المعاصرة وتطور الذائقة القرائية.
الدكتور سالم الهمالي صاحب اليد البيضاء في ترشحي لجائزة البوكر
س5) بعد رواية (زرايب العبيد) للكاتبة نجوى بن شتوان كأول رواية نسائية ليبية ترشح لجائزة البوكر العالمية .. ها هي روايتك (حرب الغزالة) ترشح هذا العام 2019 لهذه الجائزة الشهيرة … كيف جاءت فكرة الترشيح ومن هم فرسانها؟
أولاً، أنا أؤمن بأن الفوز بجائزة في مسابقة أدبية ليس مقياساً لجودة العمل، هنالك كُتّابٌ كبارٌ خلّد التاريخ أعمالهم دون أن تحظى بأي جوائز، كما أن الموضوع الذي تناولته رواية (حرب الغزالة) قد لا يكون قضية من النوع الذي تهتم به مؤسسات الجوائز، وعندما كتبت الرواية لم يكن وارداً في ذهني المشاركة في أي جائزة أدبية، ولكن بعد صدورها، وعقب الندوة التي نوقشت فيها الرواية في أتيليه القاهرة أشار النقاد المناقشون: الدكتور حسن الأشلم، والأستاذ الناقد عبدالحكيم المالكي، والدكتورة غادة البشتي، على ناشرة الرواية السيدة فاطمة حقيق، مديرة مكتبة طرابلس العالمية، بترشيح الرواية للتقدم إلى الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، ولكن كان هناك عديد التحديات تحول دون ذلك، من بينها تجهيز نسخ الطبعة الثانية، وضيق الزمن المتبقي عن موعد إغلاق باب التقديم، كنا في الأسبوع الأخير من شهر يونيو وكان أقصى موعد لقبول الترشيحات هو يوم 30 يونيو 2019، ولا توجد رحلات جوية لإرسال نسخ الرواية إلى بريطانيا حيث مقر الجائزة في لندن، وأخبرتنا شركات الشحن أن أقرب فرصة لوصولها سيكون بعد عشرة أيام من الموعد المحدد للقبول، أي بعد إغلاق باب التقدم، هنا، وفي تلك اللحظات الحرجة عرفتُ معنى أن يبتسم لك القدر، حيث تدخل الدكتور سالم الهمالي، وهو كاتبُ قصة ومدوّن من طراز رفيع، ويعمل جراحاً في المستشفيات البريطانية، وطلب مني أن أسلم نسخ الرواية إلى ابن أخيه القادم من “تمنهنت” في أقصى جنوب ليبيا، ليتكفل بتسليمها إلى شخص آخر في طريقه للسفر إلى بريطانيا عن طريق مطار قرطاج، لم يستغرق الأمر خمسة أيام إلاّ ووصلت الرواية إلى الدكتور سالم الهمالي الذي لم تمنعه إقامته في مقاطعة أخرى من الإسراع بتسليم الرواية شخصياً إلى مقر الجائزة بلندن في وقت قياسي كأنها غريق لحظاته محسوبة. وراسلتني السيدة المسؤولة عن استلام المشاركات متعجبة ومهنئة، وقالت بأن نسخ الرواية وصلت إليهم في وقت حرج جداً كادوا أن يقفلوا باب القبول.
وهنا أسجلُ عميق شكري وتقديري للدكتور سالم الهمالي صاحب اليد البيضاء في هذا الترشح والشكر أيضا للناشرة الأستاذة فاطمة حقيق، وللنقاد وللأصدقاء في الوسط الأدبي، ولكل القراء الذين أولوا الرواية اهتمامهم، وأتمنى أن يحالفها الحظ لتليق بتلك الثقة وذلك التقدير.
وجهتُ سؤالي إلى الروائي ابراهيم الكوني لإثارة فضوله تجاه روايتي فقط
س6) في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب (دورة اليوبيل الذهبي) وتحديداً يوم الخميس الموافق 24 يناير 2019م كان لك حديثٌ وحوارٌ قصيرٌ ممتعٌ مع الروائي العالمي الكبير إبراهيم الكوني حول الفضاء المكاني لروايتك (حرب الغزالة) … تكرمي علينا بتفاصيل ذاك اللقاء والحوار التاريخي معه .. وماذا كانت ردوده على استفساراتك وتطمينه لهواجسك فيما يتعلق بالفضاء الروائي؟
كان ذلك على هامش ندوة أقيمت ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب، الندوة تستضيف الروائي العالمي إبراهيم الكوني، ويديرها الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل، وبحضور قامات روائية من عدة دول، وفي نهاية الندوة حيث يستمع الكوني إلى مداخلات الحاضرين، طلبتُ الكلمة وقدمتُ نفسي للحضور، مع تعريفٍ مختصرٍ بروايتي (حرب الغزالة) التي كانت قد انطلقت ونشرت حينئذ ضمن فعاليات تلك الدورة للمعرض، وحيث أن الفضاء المكاني لروايتي هو جنوب غرب ليبيا عند محيط جبال الأكاكوس، وهو نفس المكان الذي شهد أحداث روايات الكوني وشكّل من خلاله تجربته وبصمته الإبداعية.. لذلك طرحتُ سؤالي: هل يقبل الروائي الكبير إبراهيم الكوني، أن يقتحمَ كاتبٌ آخر هذه المنطقة التي أصبحت شبه موسومة باسمه، ويكتبَ عنها عملاً روائياً؟ مشيرةً إلى روايتي وأحداثها. لا أنكر أنه نظر باستغراب ربما لجرأة السؤال أو غرابته، لكنه أجاب برحابة صدر بأن المكان ملك لجميع الأقلام، وليس حكراً على شخص واحد.
أعترفُ بأن إجابته على السؤال لم تكن ذات أهمية كبيرة بالنسبة لي، فأنا لا أؤمن باحتكار المكان لكاتبٍ معين، ولكن كان يهمني في ذلك الوقت أن أعرّف بنفسي وأن يستمع لي، وأن أتحدث عن روايتي أمام كوكبة من الأدباء والنقاد، وكان ذلك السؤال وسيلتي الوحيدة لإثارة فضول شخصية كبيرة مثل الكوني ليستمع إلى كاتبة جديدة تحاول أن تضع بصمتها بين الأسماء الروائية الكبيرة.