نجوى بن شتوان قاصة وروائية ليبية تدرس في إيطاليا، وقريبًا سيصدر لها كتاب يتناول تجربتها بعنوان «روما تيرميني»، ويرصد ما تعج به إيطاليا من ثقافات وتاريخ وحياة صاخبة،«بوابة الوسط» حاورتها في عدة محاور من حياتها الإبداعية والعملية وها هي الحصيلة:
إيطاليا الجميلة
إيطاليا رائعة من كل النواحي، طعام ولباس وكلام وفنون وكرة قدم وسينما وأغان… لكنّها تعاني جراء الأزمة الاقتصادية في أوروبا ارتفاع مستوى الحياة والضرائب. المهاجرون يجدون صعوبة في إيجاد سبل للعيش، دون مال تنتهي كل الأحلام التي يأتي بها المرء الى هنا. إيطاليا حريصة أكثر من سواها على حلول السلام والأمان في ليبيا وتريد توفير فرص عمل كبرى في بلادنا… ما ينقص الآخرين اليوم هو المال وما ينقص ليبيا حقيقة هو العقل والعمل.
الاستعمار الإيطالي
تسألني عن التاريخ الاستعماري، نعم أنا أتعامل مع إيطاليا اليوم كما هي الآن، لا إيطاليا الأمس… في جامعة اللغة علي سبيل المثال سألت المعلمة في بداية درس جديد: بماذا تشتهر إيطاليا؟ أجاب طالب صيني بالموضة وكرة القدم، أجبت أنا بأنها احتلت ليبيا (كل يتحدث عما يعنيه في السؤال)، تبرمت المعلمة قليلاً، وقالت نريد شيئًا إيجابيًا نفتتح به الدرس، فقلت لها إن الإيجابي هو أن ليبيا طردت إيطاليا.
ليبيا فقط
أطروحتي الدراسية في بداية مجيئي لإيطاليا كانت على اختيار موضوع لرسالتي. تقلبت كثيرًا ثم عدلت في تخصصي من أجل أن يكون ثمرة جهدي الدراسي لليبيا، من أجلها اخترت وليس من أجلي، الموضوع الذي اخترته لم يدرس في ليبيا بشكل كاف أو صريح جزء من تاريخها المغمور، جزء من إنسانها المنسي، من ألمها واستغلال الآخر لها، ومن وطأة الليبيين أنفسهم على الآخر الأضعف منهم، أعني تحديدًا النخاسة في ليبيا، كيف مارسها الأجداد لقرون عدة، وكيف لم تستثمر عوائدها المالية في تنمية البلاد كما حدث في أميركا، كيف سرق جهد الليبيين السود وتمت مكافأتهم بالعنصرية والنبذ!.
«روما تيرميني»
كتابي «روما تيرميني» نصوص أدبية كتبتها تحت تأثير المجتمع المغاير… اختلاف البيئة من حولي واضح في النصوص، لكن خلفيتي الثقافية كامرأة من مجتمع مجاور تظهر فيه ولا تختفي، العزلة الفردية، والتأمل الشجي، والدوران حول الداخل، والذاتية الليبية، في روما تيرميني ستكون هناك ليبيا بمحطاتها الأشبه بمحطات قوافل، بشوارعها التي لا أرقام لها أو رموز ولا حتى أسماء، بأناسها الذين سموا كل شيء بطريقتهم لكي يستدلوا به، بمدرسة «لم ينجح أحد» التي سكنت قربها.
بقايانا في إيطاليا
الملامح العربية موجودة بكثرة تمازج كبير وشائك في المجتمع الإيطالي، نحن بالمحصلة نتاج حواء وآدم المتوسطيين، ملامح مشتركة وعادات قد تشبهنا ومذاق طعام قريب منا، إيطاليا بالعموم متوسطية مثلنا، طقسها إنسانها صوتها… هيجانها نتشابه ونختلف، ربما أنا غير معنية بالبحث عن ملامح المنفيين الليبيين في وجوه الطليان اليوم، لكنني مهتمة بسؤال لماذا لم يرجع بعضهم على الأقل عندما صار الرجوع متاحًا.
محطة العالم
«روما تيرميني» هي المحطة المركزية للقطارات، حيث يجتمع العالم كله ليغادر أو يأتي، لابد من المرور بهذا المكان لكي تدخل روما أو إيطاليا نفسها.
روما تيرميني هي بديلي للعبارة التاريخية القائلة كل الطرق تؤدي إلى روما، لم تعد الطرق سهلة ولا ميسرة ولا مؤكده إلى روما، حقيقة صارت روما نفسها بحكم الاتساع بحاجة إلى أكثر من نقطة دالة داخلها، لكي ينطلق منها المرء، أشهر نقطة بشرية معاصرة في روما الآن هي المحطة المركزية للقطارات والباصات، على جسدها نمت كائنات وحيوات مكملة، الأكشاك، والباعة المتجولون، والمطاعم السريعة، والمقاهي والحانات، وعربات الأجرة، والشقق المفروشة، والمتعة.
في محيط التيرميني تجد مجسمًا صغيرًا لكل ثقافة في العالم، صيني لمن يطلبون الذوق الصيني، وعربي للذوق العربي وأفريقي وآسيوي إلخ، كل شيء، هنا تختفي إيطاليا التي توفر المكان، حتى لا يبقى ما هو إيطالي سوى القطارات والمحطة والقهوة والكنترول، تختفي روما ليطل العالم بروائحه المكثفة، وجوه من كل بلاد الدنيا، ولغات، وأذواق، وعوالم سفلية، وثقافات، وأشخاص عابرون، وأشخاص استقروا على عبور سواهم، عوالم في عالم يتحرك باستمرار، وفي الليل يطلق وجهه غير مستعار الجنون ويمتثل لثمالة متعددة الجنسيات، عرب يتسولون الجنس الرخيص من المهاجرات الفقيرات. وآسيويون يسيطرون على حركة البيع على الأرصفة والأكشاك، ومتسولون محتالون، ومغامرون من كل حدب وصوب جذبتهم رفاهية أوروبا، معتقدين أنهم بمجرد دخولها ستبدلهم حياة غير حياتهم من تلقاء نفسها، وليس من تلقاء أنفسهم، وأحلام واهية تحطمت على أرصفة المحطات القاسية، رائحة بول متعدد الأجناس، وأعقاب سجائر ميتة وأخرى تموت، والإنسان عندما يشبع والإنسان عندما يجوع ويعرى، غجر يصعدون القطارات ليتسولوا بموسيقاهم، يعزفون ألحانًا حزينة تشبه ما على وجوههم من تمزق، المحترف منهم يعزف بيد واحدة فيما الأخرى ودون أن ينقطع النغم برهة تمتد إليك لتطلب سنتًا، إنهم يبيعونك أحزانهم وتشتتهم دون كلمات، العجائز والشيوخ الذين يرحلون في نهايات العمر وحيدين، لأي غاية يذهبون وماذا يفعلون بهذه الوفرة في محطات التنقل؟ الطلاب وهيئتهم ومقتنياتهم المتشابهة، أقل قدر من الحقائب، وحقيبة على الظهر تلخص المهمة الدراسية، هل لك أكثر من فم لتأكل أكثر من لسان لتتكلم، أكثر من قلب لتتنفس، أكثر من يدين لتحمل شيئًا، تتمنى أن يكون لك ذلك في المحطات، لا مكانك لوحدك، مكانك مع الآخرين، لا شيء يرتبط بشيء، وكل شيء يرتبط ببعض الشيء. عندما وقفت هنا لأول مرة في حياتي دار رأسي مثل كرة تتقاذفها المشاهد أمامي، لا أعرف أحدًا ولا أحد يعرفني في هذا المكان، ماذا جئت أفعل هنا يا إلهي في هذا الزحام؟ لقد بكيت مثلما يبكي الوليد عندما يدخل إلى الحياة دون سبب ثم أغلقت عيني على بقايا الدموع وركبت القطار وقررت أن أنسى كل شيء، وأن أتخذ لنفسي نقطة دالة وانطلق، حتى لو كانت هذه النقطة أكبر مني، وتحتاج نقاطًا دالة إليها، كان رأسي مليء بالمشاغل، ويدور بما تدور به ليبيا، وفي وجهي اغتراب آخر، كنت متعبة، أجل لقد كنت متعبة حقًا ومجهدة، لتوي خرجت من معارك 40 عامًا من اللامعقول، كان عمري مثقل وعلى كاهلي الكثير من الواجبات، وفي قلبي أمل مرهق.
ذاكرة الديمقراطية
الرومان ليسوا ديمقراطيين، وإلا لماذا وجد قيصر والأباطرة، ولماذا ازدهرت بموازاتهم صناعة السموم، والقتل بالسيوف والخناجر؟ لا يوجد شعب ديمقراطي، يوجد قانون يحفظ الديمقراطية ويرسخها رغم أنف الجميع، حلبات الأمس المليئة بالجدل والموت والظلم والقهر وباستمتاع نخبة المجتمع وطبقته الراقية، اليوم يملؤها السياح وآلات التصوير، أي نتاج تقدم صناعة الحياة على صناعة الموت (السموم والسيوف) ونتاج العلاقات الإنسانية الراغبة في التذكر بالتقاط الصور، أنهم لا يتذكرون قصة الحضارة وإنما يريدون تذكر قصصهم الخاصة، في استحضار التاريخ نحن أكثر الشعوب التي تعيش في الماضي، تعبئ ذاكرتها بما تريد أن تعيشه وما يشغلها عن صناعة المستقبل، كلما اشتد اهتمامنا بالماضي تقلصت مساحة المستقبل من مجالنا الحيوي، إن تنظيف جزء من الذاكرة لخلق مجال لأشياء جديدة يبدو ضروريًا.
كنت أرى ما تبقى من أباطرة روما وأفكر في حلبة الصراع الدموية في بلادي اليوم، لماذا لا يستطيع الإنسان أن يحيا دون دم؟ ليعيش وقتًا سعيدًا طيبًا؟.
______________________
نشر بموقع بوابة الوسط